لم يكن مصادفة أن يتحمس عيسى عبيد لمذهب الحقائق تحمسه لكتابة "قصص مصرية عصرية" أصيلة، فالأصالة ارتبطت عنده بالتقديم الأمين لما يراه الكاتب في الواقع من دون افتعال أو مبالغة. والكتابة الخلاقة هي الوجه الإبداعي للفعل الاجتماعي في المسعى الفردي للإسهام في تغيير المجتمع، لكنه المسعى الذي لا يكتمل إلا بعمق معرفة الكاتب بمجتمعه، وعدم تحليقه بعيداً على أجنحة الخيال. ولذلك كان نفور عيسى عبيد من الخيال الرومانتيكي المجنح قرين دعوته إلى "وجوب استبدال أدبنا الوجداني الخيالي بأدب جديد مبني على قاعدة الحقائق المجردة المستخرجة من حياتنا اليومية". ويتأسس هذا الأدب الجديد بتصوير الحياة كما هي، أي الحياة العادية المجردة، بلا مبالغة أو تقصير في ما يقول، فغاية هذا الأدب هي التحري عن الحياة، وتصويرها بأمانة وإخلاص كما تبدو للكاتب، مع التحفظ في إبداء الحكم أو الرأي الشخصي، ذلك لأن مهمة الكاتب الأساسية تشريح النفوس البشرية وتدوين ما يكتشف فيها، تاركاً الحكم بعد ذلك إلى القارئ نفسه، يستخلص من الكتابة المغزى المضمر بخفة ورشاقة وحسن صنعة. والأصل في ذلك إيمان عيسى عبيد بأن العصر الذي يعيش فيه عصر حقيقة وواقع لا عصر خيال ووهم وأباطيل. كان هذا الإيمان نتيجة وثيقة الصلة بما فجرته ثورة 1919 في النفوس من إمكان تحقيق الأحلام البعيدة، بل المستحيلة، بالجهد والعمل والنضال والدم، الأمر الذي أسهم في تحويل العقول من التحليق في فضاءات الوهم إلى الحركة على أرض الواقع. ولم يكن من قبيل المصادفة - والأمر كذلك- أن تؤكد إحدى مقالات جريدة "السفور" بعد قيام الثورة بعام واحد، وفي سياقات نتائجها، أن زمن الوهم قد انقشع وذهب بغير رجعة، وأن العصر يتطلب الإلمام بالحقائق والوقائع المعاشة المرئية التي يحسها الناس مباشرة، وأن الكاتب لن يكون كاتباً مؤثراً إلا إذا كان يستمد من الحقيقة مادة كتابته، فما أشد ما نميل إلى الحقائق، اليوم، بعد أن أذاقتنا الحياة من حلوها ومرها ما أذاقت. وكانت تلك الكلمات علامة على نوع جديد من الإدراك، يفارق الإدراك الوجداني للرومانتيكية، ويستبدل به إدراكاً تعلَّم التحديق في الوقائع لاستخلاص دلالات الواقع. و"مذهب الحقائق" هو الترجمة التي ارتضاها عيسى عبيد مقابلاً للأصل الفرنسي realisme الذي أطلق عليه المتأخرون "الواقعية" أو "المذهب الواقعي". ولكن لم يكن هو صاحب الترجمة الأولى للمصطلح أو شارحه الأول، فقد كان اصطلاح "مذهب الحقائق" معروفاً قبله، ومستخدماً على الأقل في كتاب أحمد ضيف "مقدمة لدراسة بلاغة العرب" الذي صدر في مطلع العام الذي شهدت نهايته صدور مجموعة عيسى عبيد "إحسان هانم". وقد ورد المصطلح في ثنايا حديث أحمد ضيف ص52 عن دلالة الكتابة على الحالة الاجتماعية للأمة، الأمر الذي اقتضى الإشارة إلى "مذهب الحقائق realisme الذي من غرضه إظهار الشيء كما هو". ولم تكن محاولة أحمد ضيف المحاولة الأولى في ترجمة المصطلح أو التعريف به، فالمحاولات أقدم، وربما ترجع بدايتها إلى التقديم الذي صدّر به محمد لطفي جمعة 1886-1953 محاولته الروائية الباكرة "في وادي الهموم" التي صدرت عن مطبعة النيل بمصر سنة 1905 . وفي هذا التقديم يتحدث جمعة عن روايات "ريالستيك" أي روايات حقيقية، على النقيض من روايات "رومانتيك". وكان جمعة يدعو إلى النوع الأول ضمن دعوته الموقتة إلى "أن نترك الخيال جانباً"، ونكتب "عن الناس الذين حولنا"، تأكيداً منه أن تصوير البشر كما هم أفضل أدبياً من تصويرهم كما يجب أن يكونوا. ويبدأ عيسى عبيد من حيث انتهى السابقون عليه في الكلام عن مذاهب الحقائق، فيضيف إلى ما انتهوا إليه منظوره الخاص الذي يبدو قريباً إلى حد ما، ومع بعض الاحتراس، من الأفكار الوضعية التي صاغها أحمد ضيف في التوليفة التي جمع فيها ما بين مذهب الناقد الفرنسي هيبوليت تين 1828-1893 الذي يركز على البيئة ومذهب سانت بي 1804-1896 الذي يركز على مكونات الشخصية الفردية وتأثيرها. وتتردد أصداء هذه التوليفة في مقدمة عيسى عبيد لمجموعة "إحسان هانم" بوجه خاص. وعلاماتها ما ينتهي إليه من آراء تصل ما بين الكاتب والناقد في دوائر الاهتمام، مع تأكيد أن مهمة الكاتب هي أن يدرس، أولاً، مزاج أشخاصه لأن للمزاج تأثيراً عظيماً في تكييف عواطف الإنسان وأخلاقه ومصيره في الوقت نفسه. ويصل ذلك بما يضيفه من أن مهمة الكاتب أن يدرس، ثانياً، المؤثرات الوراثية التي أخذتها أفراد شخصياته عن آبائهم وجنسيتهم، وأن يحلل عوامل وسطهم وظروف حياتهم التي ساعدت على تشكيل تكويناتهم النفسية، كي يرينا المشاعر التي يمكنهم أن يشعروا بها في تنوعها وتباينها بحسب العمر، أو الوراثة، أو التكوين، أو ظروف الحياة التي تلعب دوراً عظيماً في إنضاج عواطف الإنسان، فرب شاب في الثامنة عشرة يحب حب الرجل القوي الناضج الحواس، ورب شاب كبير يحب حب طفل صغير غرير. ويخلص عيسى عبيد من ذلك إلى أن الكاتب متى وقف على مزاجية أشخاصه وطبائعهم النفسية أمكنه بكل سهولة أن يصورهم من غير أن يضطر إلى استعمال التكلف السقيم البارد. ويتسنى له كذلك أن يقتبس من أخلاقهم حادثة روائية إنسانية محضة، تكون نتيجة طبيعية لمزاجهم وشخصيتهم لا دخل للخيال في تكييفها. ولذلك يؤكد عيسى عبيد أهمية أن يلم الكاتب المصري الإلمام التام بعلم النفس للوقوف على كنه الطبائع البشرية وأسرارها. ويؤكد أن أدب الغد سيقام على دعامة الملاحظة والتحليل النفسي بقصد تصوير الحياة العادية المحددة، بحسب ما يؤكد مذهب الحقائق. وينسب عيسى عبيد نفسه إلى "مذاهب الحقائق" بوصفه أحد القلائل الذين "تسربت إلى نفوسهم عوامل جديدة من أثر وقوفهم على فنون الغرب المتعددة الحية، فعز عليهم أن يروا جمود آدابهم المحتضرة، فأحبوا أن ينفخوا فيها روحاً جديدة قوية، تحطم القيود العاتية والأوضاع السقيمة التي رسمها لنا أجدادنا". وهو في ذلك يشير إلى دور الطليعة التي انتسب إليها، خصوصاً من شباب الكتاب الذين آمنوا أن أنصار الحقائق سينجحون على رغم قلة عددهم، وينتصرون انتصاراً نهائياً على خصومهم الأقوياء، لكن بعد عناء شديد ومضي مدة طويلة.ويرجع السبب الرئيسي في ذلك إلى أن الشعب المصري شعب محافظ في أخلاقه، يعبد قديمه، ويقدس ما صنعه الآباء، متوهماً أن محاكاة أجداده العرب هي الحد النهائي للكمال الإنشائي الفني الذي يجب أن نترسمه باحترام وإجلال. ولما كان الشعب المصري متفائلاً، يعتقد بطهارة أخلاقه ومتانة تقاليده الموروثة المقدسة، فإن الحقيقة المرة الجافة القاسية للواقع تؤلمه، ويهب في وجه من يتصدى إلى تصويرها، محتجاً مستنكراً، محاولاً تكذيبها ليستبقي أحلامه اللذيذة. ومن هذه الزواية، فإن غاية الكتابة التي تنطلق من "مذهب الحقائق" هي التحري عن الحياة وتصويرها بأمانة وإخلاص كما تبدو لنا، وجمع كمية كبيرة من الملاحظات والمستندات الإنسانية، بحيث تكون الرواية عبارة عن "دوسيه" يطلع فيه القارئ على تاريخ حياة إنسان أو صفحة من حياته. ويجمل بالكاتب أن يدرس فيها أسرار الطبيعة البشرية وخفايا القلب الإنساني الغامض والتطور الاجتماعي والاخلاقي وعوامل الحضارة والبيئة والوراثة في نفوس الأشخاص. وتلك عبارات لافتة بطابعها الوضعي ونزعتها التي تشير إلى أصولها عند الأعلام من كتاب الواقعية الفرنسية الذين تأثر عيسى عبيد تأثراً مباشراً بكتاباتهم. ولا أغالي لو قلت إن كلماته عن "جمع المستندات الإنسانية" والنظر إلى الرواية من حيث هي "دوسيه" لملامح التاريخ النفسي لإنسان بعينه ليست سوى نوع من الترجمة التي تشي بسياقاتها الأصلية، خصوصاً في الفلسفة الوضعية التي أثمرت مناخاً أسهم في اتجاه إميل زولا 1840-1902 إلى نزعته "الطبيعية" في الكتابة، وتطبيق نظرياته "العلمية" عن "الحتمية" في الروايات التي تبدأ من "تيريز راكان" التي صدرت سنة 1867. وليس من الضروري أن يكون عبيد متأثراً بزولا وحده في إيمانه بمذهب الحقائق، فثم أعلام الواقعية الفرنسية الذين رادهم أونوريه دي بلزاك 1799-1850 الذي أغوت كتاباته خيال أنصار مذهب الحقائق ودعاته الذين صدموا القارئ العربي في ذلك الوقت بغرابة معجمهم النقدي وتجاربهم الإبداعية. وكان عيسى عبيد واحداً من أبرز هؤلاء الدعاة والانصار، ومن أكثرهم وعياً بالأسس الفكرية لمذهب الحقائق الذي تحمس له. ولذلك لا يفرغ من عرضه هذا المذهب إلا بعد أن يتعرض لأسسه المعرفية. وأولها ما يبني المذهب على نوع من الحتمية النفسية والاجتماعية، وما لا يفارق الوعي بنسبية الحقيقة وعدم الإيمان بالمطلقات أو الحلول النهائية أو إمكان أن يحتكر طرف واحد كل أبعاد الحقيقة أو كل جوانب المعرفة. وتلك أسس يترتب عليها التحول عن نموذج الكاتب العارف بكل شيء، أو الكاتب الذي يتوهم أنه المرشد الذي جادت به العناية الإلهية لهداية أمته وحملها على اتباع رسالته، إلى نموذج لكاتب أكثر تواضعاً لأنه أكثر اتصالاً بالواقع في تحولاته، وأكثر معرفة بحتمية قوانينه ومتغيراته.ومع ذلك فهو كاتب يعرف أنه واحد من بشر معرضين للخطأ، وأنه يحكم على حسب مزاجه وميوله وذوقه في نهاية الأمر، شأنه شأن غيره من البشر الذين تتعدد ميولهم وتتضارب أذواقهم وتختلف رؤاهم وتصوراتهم. ولا يحق لهذا الكاتب - والأمر كذلك - أن يجبر غيره على قبول ما لا يسيغه ولا يهضمه، ولا يكتب إلى القارئ كما لو كان هو صاحب القول الفصل في كل شيء، فهو جزء من عالم تتغير قيمه ومثله وأفكاره، ولا يبقى فيه شيء ثابت على ما هو عليه، في حتميات هذا العالم، سوى رغبة الإنسان في أن يجاوز واقع الضرورة بامتلاك المعرفة النسبية. ولا يعني ذلك عدم حق الكاتب في الحكم أو الرأي، وإنما إبداء الرأي من ثنايا ملاحظاته ومن خلال تحليله، وبواسطة وعيه بأنواع الحتمية الاجتماعية والنفسية وتجلياتهما، فلا يفعل ما يفعله كتاب العهد القديم من الأدباء التقليديين الذين يصرخون في القراء: أيها القوم ثوبوا إلى رشدكم! أيها الناس أقلعوا عن الرذائل! وغير ذلك من صور المناداة العقيمة التي لا تؤثر أدنى تأثير في نفس القارئ بل كثيراً ما تكون نتيجتها ضد رغبة الكاتب، إذ يأخذ القارئ الضجر والملل فيتضايق من تلك الفضائل التي يحثونه عليها بقسوة وخشونة. وكان عيسى عبيد يعرف أن الالتزام بمذهب الحقائق في ممارسته الإبداعية يعني تصوير الحياة الشرقية على نحو أكثر جرأة. وقد فعل ذلك في ما يتصل بحركة المرأة داخل قصصه، وفي تصويره علاقتها بالرجل، وإبرازها على نحو أكثر تحرراً في مجتمع الأقلية الدينية التي انتسب إليها. وأضاف إلى ذلك الجرأة في تناول العلاقة بين المسيحي والمسلم. باختصار، حاول الولوج إلى المناطق القصصية المسكوت عنها، معتمداً على كلمات التورية للتعبير عن مقاصده الخفية في المواقف الحرجة الدقيقة، وفي بعض الأحيان على ألفاظ مراوغة توحي إلى القارئ المعنى الذي قصد إليه ولا تجاهر به. ولكن حرصه على تصوير الوقائع كما هي لم يدفع به إلى الانجذاب إلى العامية كما فعل صديقه محمد تيمور، ذلك لأن عيسى عبيد كان ممن يتعصبون للغة العربية الفصحى، ويحرصون على الصفة العربية للكتابة، فهو لم يكن يسعى إلى أن يستقل الأدب المصري عن الأدب العربي، ولكن إلى تأكيد خصوصية الأدب المصري وصفته الخاصة التي تميزه في الدائرة الواسعة للأدب العربي و"تطلق لحريته العنان في التطور والرقي". ولا يختلف شحاتة عبيد عن أخيه في كل ما سبق، فهو صورة من أخيه الشقيق في الفكر. ولذلك يؤكد في مقدمة مجموعته اليتيمة أن قصصه مجموعة حياة. لم يبغ منها سوى تصوير البشرية بالصورة التي رآها عليها، غير قاصد إلى تخلق الفضائل لمن لا خلاق له، أو يحرم الفضيلة من تحلى بها. لقد آمن أن قلمه لا يختلف عن عدسة المصور وفرشاة الرسام، سواء في براعة انتقاء الزاوية أو الحرص على مشاكلة الأصل، فبذلك تظهر مقدرته في تصوير الحياة كما يراها. وإذا كانت كل قصة أو رواية يضعها مؤلفها يجب أن تكون جزءاً من حياة، ومشاكِلةً للواقع، فإن ذلك لا يتأتى إلا بصدق التصوير الناتج من قوة الملاحظة، والتغلغل في الأنفس البشرية. وهل يستطيع روائي أن يلاحظ إلا ما يشاهده أو يحلل نفساً لا يعرفها؟ ومعنى ذلك،أولاً، أن القصة "لا تكون عصرية مصرية إلا إذا كان أشخاصها مصريين حقيقيين". ومعناه، ثانياً، أن صفة العصرية هي الوجه الآخر من الواقعية، أو "مذهب الحقائق". ومعناه، ثالثاً، أن خصوصية الهوية الوطنية لا تتحقق إلا بواسطة الالتزام بمذهب الحقائق، ما ظل هذا المذهب يؤكد أن الغرض من وضع الرواية أو القصة هو بناؤها على قاعدة الحقائق المجردة، والملاحظات الدقيقة التي لا دخل للخيال في تنسيقها، كي تتكون من مجموعها "هيئة مصغرة من هيئتنا الاجتماعية". ويعني ذلك، أخيراً، أن مدرسة الأخوين عبيد كانت تمضي في طريق مخالف لكتابة هيكل التي تجلت نزعة رومانتيكية في رواية "زينب". وتلك هي النزعة التي رفضها الجيل الجديد، واستبدل بها مذهب الحقائق على سبيل النقض والمغايرة والتميز والبحث عن الطريق الأسرع إلى تجسيد الأدب القومي. ويسهل أن نفهم -والأمر كذلك- نفور عيسى عبيد من المذاهب القديمة، وتحمسه إلى الواقعية بما يميزه عن الجيل السابق عليه، حتى في تيار الدعوة نفسها إلى الأدب القومي، وهي الدعوة التي أخذت عند أبناء هذا الجيل الجديد نزوعاً واعياً لا يمكن أن تخطئه العين. ولذلك هاجم عيسى عبيد "مذهب الوجدانيات" أو "الإيديالسم" الذي رأى أنه يعرقل سير الأدب العصري في تطوره الجديد،كما هاجم هو وشقيقه ما أسمياه "طريقة الإيدياليسم" في الكتابة، ولم يقبلا إلا الخيال الذي يراد به الحقيقة، والأحداث التي هي أقرب إلى الحقائق من الخيال الحالم الناعم.