لقاء الرئيس الايراني السيد محمد خاتمي نظيره الجزائري السيد عبدالعزيز بوتفليقه على هامش القمة العالمية في مطلع الألفية الثالثة، منح البلدين الثوريين الفرصة المناسبة، لإعادة النظر في مسيرة علاقاتهما التي شابها الكثيرُ من التوتر والفتور. فالبلدان اللذان طغت تطوراتهما، على التطورات العالمية والاقليمية في حينه، جاء استئناف العلاقات الديبلوماسية بينهما، أول معطيات هذا اللقاء التاريخي وثماره. حتى بداية العقد التسعيني المنصرم، لم يُصدق أحد ان ايرانوالجزائر اللتين تتشابهان في الكثير من المجالات، تَمُران في مرحلة تنقطع خلالها علاقاتهما الديبلوماسية، لكن الغاء الانتخابات البرلمانية، بعدما فازت الجبهة الاسلامية للانقاذ في دورتها الأولى في كانون الثاني يناير 1992 أكد للجميع، ان العلاقات الجزائرية - الايرانية لن تدوم على شكلها الماضي. لأن ايران نددت، وبكل صراحة بحرمان المسلمين الجزائريين حقهم المشروع. وكان ذلك في وقتٍ اختار دُعاة الشعوبية والدفاع عن حقوق الإنسان، الصمت القاتل في مقابل الغاء نتائج الدورة الأولى للانتخابات البرلمانية في الجزائر مطلع التسعينات، أو انهم، دعموا خطوة حكومة الشاذلي بن جديد ضمناً. يومها نصح كثر من الخبراء الايرانيين، الحكومة الاسلامية الايرانية والقائمين عليها آنذاك أن يفضلوا مصالح ايران في استمرار العلاقات الودية مع الجزائر، ويكفّوا عن دعم التيار الاسلامي. لكن المسؤولين الايرانيين تركوا فكرة المصلحة الوطنية، وأكدوا دعمهم "مسلمي العالم" الذي ينصُ عليه دستور الجمهورية الاسلامية الايرانية، وتؤكده الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة الصريحة. وراحوا يضعون دعم الجبهة الاسلامية للانقاذ، في مقدم جدول أعمال السياسة الخارجية الايرانية. وكان من الطبيعي أن تعتبر الحكومة الجزائرية، الدعم الايراني للجبهة الاسلامية للانقاذ تدخلاً سافراً، في شؤونها الداخلية، الأمر الذي حملها على قطع علاقاتها الديبلوماسية مع ايران بعد عام تقريباً، أي مطلع العام 1993. وتبع ذلك اغلاق سفارتي البلدين واستدعاء الديبلوماسيين الى طهران والعاصمة الجزائرية. ولم يبق الأمر على هذه الحال حتى أضحت الحكومة الجزائرية لا تتحمل بقاء مراسل وكالة الأنباء الايرانية في عاصمتها، لتمنع وصول تقاريره الطنّانة الى الذين يتطلعون الى أخبار الجزائر، وتبقى وسائل الاعلام الغربية المنفذ الوحيد، لاستقاء اخبار الجزائر لدى الايرانيين. وجاءت القطيعة الجزائرية مع ايران في وقت خولت طهران السفارة الجزائرية في واشنطن رعاية مصالحها في الولاياتالمتحدة، بعدما انقطعت العلاقات الايرانية - الأميركية، الأمر الذي اضطر ايران، الى نقل مكتب رعاية مصالحها الى عهدة السفارة الباكستانية. وكان من الطبيعي ان يُوجِّه الغاء الانتخابات البرلمانية صفعة قوية الى الحكومة الجزائرية وموقعها الدولي، وأن يترك آثاراً مصيرية على التطورات الداخلية للبلاد. ومن هذا المنطلق كان كثر من الخبراء والمحللين يسألون: هل قطع العلاقات الديبلوماسية مع ايران سيمنع الدعم الايراني للتيار الاسلامي في الجزائر، لو افترضنا صحة مقولة هذا الدعم؟!! وهل تنتهي المشكلة؟! اذ على رغم قطع العلاقات الديبلوماسية مع ايران، شهدت الساحة الجزائرية تنامي التيار الاسلامي في شكل ملحوظ وتطورت الأمور، حتى انها استبدلت بحرب العصابات. ومعنى ذلك ان حركة شعبية طرأت على الساحة الجزائرية وكان من المفترض ان تنطلق في اطار سياسي داخل البرلمان، لكنها وبسبب السياسة القمعية للحكومة الجزائرية تحولت صراعاً دموياً استمر ثماني سنوات، وحصد أرواح أكثر من أربعين ألف شخص على الأقل. وفي الحقيقة ان حكومة الرئيس الشاذلي بن جديد بدلاً من ان تحل مشكلة تنامي الصحوة الاسلامية، حاولت ومن خلال الغائها نتائج الانتخابات البرلمانية، ازالة افتراض وجود اي مشكلة تحت عنوان الصحوة الاسلامية في الجزائر. وهذا الخطأ الجسيم للحكومة الجزائرية أجبر الشاذلي بن جديد على التنحي عن السلطة، وأضعف دور منظمة التحرير الجزائرية التي قادت وورثت معطيات الثورة الجزائرية وجعلتها تبتعد عن الساحة الجزائرية، بعد مضي أقل من عشر سنوات على غليانها وحضورها الفاعل في الساحة. ثم ان التنبؤ بنتائج فرضية عدم الغاء الحكومة الجزائرية نتائج الانتخابات البرلمانية عام 1992 والسماح للتيار الاسلامي بقيادة عباس مدني بالمشاركة في النظام الجزائري، كان من أصعب الأمور آنذاك، ولم يَدرِ أحد ماذا كان سيحدث، في حينه في الموقع الدولي للجزائر بما في ذلك علاقاتها مع ايران؟!! عندما تتحقق هذه الفرضية تتهيأ الأرضية لطرد الرئيسين محمد بوضياف واحمد كافي اللذين خلفا الشاذلي بن جديد في السلطة وتوافرت الظروف لاستعراض عضلات الأمين زروال ليتربع عليها. وحدث في حينه شرخ في الجبهة الاسلامية للانقاذ. فمن اركانها من انتهج الخيار العسكري وتبع الجيش الاسلامي لجبهة الانقاذ، فساعد على تعقيد الظروف الداخلية للبلاد وحمل على تقليص دعم ايران الاعلامي للجبهة، خصوصاً التيار الذي اختار القيام بعمليات عسكرية ضد كل من يوالي السلطة!! لأن ايران كانت ولا تزال ترفض قتل الأبرياء. وكان واضحاً للعيان ان كثراً من ضحايا هذه العمليات كانوا يتعرضون للاغتيال على يد ميليشيات تسلحها الحكومة وتوظفها للقيام بمجازر تتهم الأصوليين بها، الأمر الذي حمل الجيش الاسلامي لجبهة الانقاذ على القيام بالمثل ومقارعة الميليشيات الموالية للحكومة في شكل مستمر. وعلى رغم ان ايران كانت تندد بهذه الحملات القمعية، لم تصرح بدعم التيار المتطرف الذي انشق عن الجبهة الاسلامية للانقاذ ولم تندد به. لأنها كانت في حينه تواصل سياستها في دعم مسلمي العالم، وحتى الموقف المعادي الذي اتخذه علي بلحاج الرجل الثاني في الجبهة الاسلامية، من سجنه الجزائري، ضد ايران، لم يحمل المسؤولين الايرانيين على تغيير موقفهم من الجبهة، اذ في لقاء صحافي من داخل السجن وصف الحكومة الايرانية والشيعة أنهم مجوس وروافض، وبذلك كافأ ايران على مواقفها السياسية من الجبهة، على الأقل! وكان بعض المحللين يعتقدون آنذاك ان السيد بلحاج، بتصريحاته الشديدة هذه ضد ايران، حاول ابعاد فكرة دعمها الجبهة الاسلامية للانقاذ، لقربها منها ودَحَر المزاعم التي تدعي ان الجبهة مسيّرة من طهران. ولكن ما من احد في ايران اهتم بهذه النظرية والمنطق الظاهري. ذوبان الجليد المهيمن على العلاقات جاء فوز الرئيس خاتمي في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 22 أيار مايو 1997 ليفتح عهداً جديداً في السياسة الخارجية لايران، اذ تركزت السياسة الخارجية الايرانية على المحاور الثلاثة الآتية: 1- ازالة التوتر من العلاقات مع سائر البلدان. 2- بناء الثقة المتبادلة، الذي يُعد الحجر الأساس لازالة التوتر. 3 - رفع شعار بناء مجتمع مدني عالمي، تكون السلطة العالمية فيه، في اطار تشكيلة جديدة لا يمكن استبعاد دور أي شعب فيها وتكون الشعوب المحور الرئيس لتشكيل المجتمع المذكور. ونباءً على هذه الأسس الثلاثة، بدأ العمل على ازالة التوتر من العلاقات مع الدول العربية، وظهر ان العلاقات الايرانية -السعودية بدأت تتحسن بعد لقاء الرئيس الايراني، في حينه هاشمي رفسنجاني ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، على هامش القمة الاسلامية في اسلام آباد في نيسان ابريل 1997. ومذ ذاك بدأ التحسن النسبي يطرأ على العلاقات الايرانية - العربية في الشرق الأوسط، وتبعتها المرحلة الثانية لتطوير العلاقات الايرانية مع الدول العربية في شمال افريقيا بما فيها المغرب وتونس. وكانت المرحلة الثالثة بدأت ببناء العلاقات الايرانية مع مصر والجزائر وتطويرها، مع فارق بسيط. إذ أن انقطاع العلاقات الايرانية - المصرية كان من جانب الجمهورية الاسلامية، وكان على ايران، ان تبدأ بإعادة هذه العلاقات مع مصر، وقد حصل ذلك، فيما الجزائر هي التي قطعت علاقاتها مع ايران، واستناداً الى الأصول والاعراف الدولية، كانت هي التي بدأت بتطبيع العلاقات الثنائية. وكانت حكومة الرئيس خاتمي تمهد لذلك فقط. ولكن وقبل وصول الرئيس بوتفليقة الى السلطة عام 1999 لم تكن الأرضية الجزائرية مهيأة لاعادة العلاقات مع ايران. ومع انتخاب بوتفليقة، السياسي المخضرم الذي قاد الديبلوماسية الجزائرية في عهد الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، توافرت تلك الأرضية. وخلافاً لاسلافه الذين كانوا يعتقدون بضرورة قمع الإسلاميين الذين يتطلعون الى النقاش السياسي والعمل العسكري، اختار بوتفليقة سبيل المماشاة مع الإسلاميين، وقد رحبت ايران بهذه السياسة في شكل خفي، فضلاً عن ان بوتفليقة هو أحد الزملاء المقربين من المرحوم الدكتور شريعتي احد ابرز منظري الثورة الاسلامية حين كانا في فرنسا. وهذا ما ساعد الرئيس الجزائري على استيعاب المجتمع الايراني وفهمه أكثر من الذين سبقوه. ثم ان بوتفليقه أحيا دور وزير الخارجية الجزائرية السابق محمد بن يحيى الذي قتل غدراً عندما كان يقوم بمهمة وساطة لاخماد نار الحرب التي شنّها العراق على ايران، اذ تعرضت طائرته في 3 أيار مايو 1982 لصواريخ المقاتلات العراقية. كل هذه العوامل ساعدت على ترحيب ايران بتولي بوتفليقة السلطة، على رغم ان طهران لم تظهر ذلك في موقفها الرسمي، لكن القرائن الموجودة تدل ان ايران تأمل أن يتمكن بوتفليقه من اقامة علاقات طيبة مع التيار الاسلامي المعتدل في الجزائر. العِبَر التاريخية حفلت حقبة التسعينات بالكثير من العِبَر والدروس للحكومتين الجزائريةوالايرانية. فالحكومة الجزائرية برئاسة بوتفليقه تحاول عدم تكرار تلك التجارب المرة، وتحاول اشاعة أجواء جديدة في البلاد. وتلقت ايران - هي الأخرى - دروساً مهمة في البوسنة جعلتها تفهم وتتحسس مدى الثمن الباهظ لتطبيق سياسة توفير الدعم السياسي للإسلاميين الأمر الذي جعلها لا تعاود الكرة نفسها في أحداث كوسوفو. وكان هذا الموقف الايراني واضحاً وجلياً في الأزمة الشيشانية، خلافاً لما حدث في الجزائر. فخلال الأزمة الشيشانية عرفت ايران جيداً انها لا يمكن ان تكتفي بدعم الانفصاليين لمجرد طرحهم بعض الشعارات الاسلامية، وتسيء الى علاقاتها مع روسيا، خصوصاً ان تجربة الشيشان المريرة كان يمكن ان تتكرر في ايران وعلى هيئة دعم الانفصاليين الأكراد. فإذا أخذنا كل هذه الحقائق في الاعتبار، نرى ان ايران حاولت اجراء بعض التعديلات في سياساتها الخارجية لتكون أكثر واقعية في ديبلوماسيتها. وهذه السياسات الواقعية الايرانية تركت بصماتها على تحسين العلاقات مع الجزائر، اذ ان بعض الزيارات غير الرسمية التي تمت بين ديبلوماسيي البلدين مَهدت الأرضية للقاء رئيسيهما. ثم ان الجزائر تعرف جيداً ان استمرار القطيعة بين البلدين سيكون له دور مؤثر في مواقفها الاقليمية والعالمية ولن يصب في مصلحتها، خصوصاً انها وايران قريبتان جداً في الكثير من المجالات، وأهمها يمكن ان يكون في اطار التعاون الثنائي داخل منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك". فايرانوالجزائر تعلمان جيداً ان الظروف الحديثة للعالم لا تسمح للدول باتهام الطرف الآخر في اشعال الفتن وتأجيج الأزمات، ويجب التطلع الى حل واقعي لا يضر بالموقع الجزائري ولا يسيء الى الموقع السياسي لايران، لأن التفاهم الذي يسود علاقات هذين البلدين المؤثرين في الشرق الأوسط وشمال افريقيا من شأنه ان يفيد كل الدول ويُعزز جبهة المسلمين ووحدتهم. في الحقيقة، كان لقاء الرئيسين خاتمي وبوتفليقه شرارة انطلقت لتلهب هشيم تطلع كل من البلدين الى الآخر وتحرق حرارته كل أنواع التشاؤم والمرارة التي علقت بعلاقاتهما في العقد المنصرم وفي المقابل تهدي قلوب الشعبين اللذين قادا ثورتين ضد الاستبداد والاستعمار، حرارة تساعد على التحامها أكثر فأكثر. فنظرة ايران الى تنمية علاقاتها مع الدول العربية بعيداً من مصر والجزائر لن تكون عميقة وصائبة. ثم ان تطلع الجزائر الى دورها الرائد في العقود السالفة بين العالم الاسلامي لن يتحقق من دون بناء علاقات ودية مع ايران وستبقى كل جهودها عقيمة ومبتورة في هذا المضمار. فالجزائروايران اذا نسقتا أمورهما وتعاونتا يمكن ان تتقلدا الدور الريادي، وان يكمل كل منهما دور الآخر في حل مشكلات العالم الاسلامي، التي قد لا تنحصر في مؤامرات اعداء الاسلام، بل انها تنشأ احياناً من القراءات الخاطئة للاسلام. وفي النهاية يمكن القول ان قرار استئناف العلاقات الديبلوماسية بين ايرانوالجزائر أفرح قلوب كل الدول العربية والاسلامية بمقدار ما أثلج قلوب الشعبين ومسؤولي البلدين لأن هذه الخطوة تُعد مهمة وجبارة لتحقيق وحدة الدول الاسلامية وتماسكها في ما بينها. * كاتب سياسي ايراني.