هل تقرر الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية التي ستجرى في صربيا/ يوغوسلافيا في 24 أيلول سبتمبر الجاري مصير الدولة؟ يذكر ان هذه الانتخابات ستجرى استناداً الى التعديلات الدستورية التي جرت في يوغوسلافيا في مطلع تموز يوليو الماضي، وأدت الى انفجار الخلاف بين الجمهوريتين ليوغوسلافيا الحالية: صربيا والجبل الأسود. وكان رئيس جمهورية الجبل الأسود ميلو جوكانوفيتش أعلن عقب اجتماعه مع رئيس كرواتياوسلوفينيا اللتان أدى اعلانهما للاستقلال في 1991 الى تفكك الاتحاد اليوغوسلافي السابق، ان الجبل الأسود لن يشارك في انتخابات 24 أيلول بسبب التعديلات الدستورية "التي أجرتها بلغراد من طرف واحد وقضت على ما تبقى من علاقة بين طرفي الاتحاد". وينطبق الأمر على كوسوفو، التي تستعد لأول انتخابات ديموقراطية تجرى فيها في 28 تشرين الأول اكتوبر المقبل وكأنها غير معنية بالانتخابات الأخرى. وهنا يبدو التساؤل مشروعاً عما اذا كانت انتخابات 24 أيلول لحسم مصير ما تبقى من يوغوسلافيا؟ ويشار الى أن الخلاف المتصاعد بين الجبل الأسود وصربيا منذ 1997، الذي برز الى السطح بشكل واضح خلال التدخل الدولي في كوسوفو/ يوغوسلافيا 1998- 1999، انتهى الى التساؤل عن وجود دولة تجمعهما بالفعل. وطرح على رئيس جمهورية الجبل الأسود جوكانوفيتش خلال زيارته لبروكسل في أيار مايو الماضي سؤال "هل يوغوسلافيا موجودة كدولة؟" ورد:"من حيث الشكل يوغوسلافيا موجودة، ولكن اذا أخذنا في الاعتبار الوقائع على الأرض تمايز صربيا والجبل الأسود وكوسوفو من الصعب القول انها موجودة". وتصاعد السؤال الآن مع الانتخابات التي يفترض ان تجرى في 24 أىلول والظروف المصاحبة لها. فقيادة الجبل الأسود تتصرف من حيث الشكل وكأن هذه الانتخابات تجرى في دولة مجاورة وليست في يوغوسلافيا. ووصل الأمر في 25/8/2000 الى حد أن وزارة الاعلام في جمهورية الجبل الأسود أصدرت قراراً منعت بموجبه عرض الحملة الانتخابية الجارية في صربيا في وسائل الاعلام الرسمية أو في الادارات المحلية. ومن حيث الفعل تتصرف قيادة الجمهورية على نحو يجعلها مستعدة داخلياً واقليمياً ودولياً لمواجهة الحدث غير المرغوب فيه فوز ميلوشيفيتش. فعلى المستوى الدستوري اتخذ برلمان الجبل الأسود قراراً يلزم القوى السياسية المحلية بحماية الجمهورية الجبل الأسود ومعارضة أي عمل شرعي للمجلس الفديرالي اليوغوسلافي الذي لم تعد تعترف به قيادة هذه الجمهورية بعد التعديلات الدستورية الجديدة. ومن ناحية أخرى أخذت قيادة هذه الجمهورية بتوثيق علاقاتها مع الدول المجاورة كرواتياوسلوفينيا والبوسنة وألبانيا ومقدونيا وتعمل على تأمين تمثيل دولي مستقل للجبل الأسود. وهكذا عمدت حكومة الجبل الأسود، من خلال بعثة سلوفينيا، الى رفع مشكلتها الى مجلس الأمن مباشرة واطلاعه على علاقاتها المتوترة مع صربيا في أعقاب التعديلات الدستورية التي "أدت الى تقليص نفوذ الجبل الأسود في الدولة الاتحادية". وفي هذا الإطار تسعى قيادة الجمهورية الآن الى تمثيل دولي خاص بها. وصرح وزير خارجية الجبل برانكو لوكافاتس ان بودغوريتسا لا تتقبل حقيقة ان بلغراد تمثل الجبل الأسود في الأممالمتحدة. ونقلت "انترناشيونال هيرالد تريبيون" الأميركية تصريح لوكافاتس 17/8/2000 يطالب فيه بمنح وضعية خاصة للجبل في الأممالمتحدة، واقترحت منحه وضعية مراقب لمساعدته في تعزيز وضعه في الدولة يوغوسلافيا. وأثارت الصحيفة في هذه المناسبة مصير يوغوسلافيا الحالية التي قد يبت في مصيرها قبل 24 أيلول الجاري. ويذكر أن "جمهورية يوغوسلافيا الفديرالية" التي تكونت في 1992 من صربيا والجبل الأسود لم تتقدم بعد بطلب انضمام الى الأممالمتحدة ولم تنل بعد الاعتراف الدولي على هذا الأساس، على عكس الدول الأخرى التي انبثقت من الاتحاد اليوغوسلافي السابق وانضمت الى الأممالمتحدةسلوفينياوكرواتيا والبوسنة ومقدونيا. لذلك فقد أثار مندوب الولاياتالمتحدة ريتشارد هولبروك هذه القضية خلال نقاش في مجلس الأمن خلال حزيران يونيو الماضي، وطالب في نهاية تموز "انهاء الوضع غير الطبيعي للديبلوماسيين اليوغوسلاف في نيويورك، الذين يمثلون نظاماً لم تعترف به الأممالمتحدة". ويتوقع ان تناقش الجمعية العامة هذه القضية في 19 أيلول الجاري، أي قبل الانتخابات بخمسة أيام، كورقة ضغط لصالح "الجبل الأسود" في حال فوز الرئيس ميلوشيفيتش في الانتخابات. وكانت قيادة جمهورية الجبل الأسود استبقت، على لسان رئيس الحكومة فيليب فويانوفيتش في لقاء معه مع مجلة "تسرنوغورسكي ليست" 12/8/2000، كل هذه الاحتمالات بالقول ان جمهورية الجبل ستنسحب من الاتحاد اليوغوسلافي في حال فوز الرئيس الحالي ميلوشيفيتش في الانتخابات. وفي الوقت نفسه يبعث الغرب باستمرار تحذيرات قوية لميلوشيفيتش من مغبة التدخل في الجبل، لأن ميلوشيفيتش في حال فوزه لن يقبل ان يحكم نصف دولة صربيا. وهكذا بعد تلميحات حلف الأطلسي الحياة عدد 19/7/2000 لم يتردد هولبروك بالقول إن "الحرب في الجبل الأسود ستسبب تدخل الأطلسي" تشيك 31/7/2000، بينما كشفت "التايمز" و"الدايلي تلغراف" عن قيام بريطانيا بارسال حاملة الطائرات "انفيزابل" الى المتوسط بسبب "احتمال تصاعد الوضع في يوغوسلافيا" ونقل "رسالة الى ميلوشيفيتش بموقف التحالف الغربي من أي تطور قد يقدم عليه بعد الانتخابات في صربيا وكوسوفو والبوسنة" تشيك 26/8/2000. وعلى ذكر كوسوفو يشار الى ان وسائل الاعلام المحلية، وحتى تلفزيون كوسوفو الذي تشرف عليه الادارة الدولية، تتعامل مع انتخابات 24 أيلول وكأنها تجرى في دولة أخرى بينما هي منشغلة تماماً بالانتخابات المحلية المهمة التي ستجرى فيها في 28 تشرين الأول اكتوبر المقبل. وفي ما يتعلق بالألبان فقد يناسبهم فوز ميلوشيفيتش لسبب واحد فقط، ألا وهو أنه قد يدق المسمار الأخير في نعش يوغوسلافيا. ولا شك في ان هذا الأمر واضح للأقلية الصربية في كوسوفو التي لن تصوت للسبب ذاته لميلوشيفيتش. وعبر رئيس "مجلس الحماية الصربي" في كوسوفو مومتشيلو ترايكوفيتش عن هذه الحقيقة المرة بالقول إنه "في حال استمرار ميلوشيفيتش التشبث بالسلطة في بلغراد فإن اقليم كوسوفو سيبتعد رويداً عن يوغوسلافيا باتجاه تحقيق ما يصبو اليه الألبان في الاستقلال" الحياة عدد 19/7/2000. والسؤال ماذا عن احتمال فوز المعارضة الصربية في الانتخابات؟ ويشار الى ان أهم حزب للمعارضة حركة التجديد الصربي بزعامة فوك دراشكوفيتش شق المعارضة الصربية بترشيح فويسلاف ميخائيلوفيتش للرئاسة، بينما قامت أحزاب المعارضة الأخرى بترشيح فويسلاف كوشتونيتسا. ولا شك في ان ترشيح دراشكوفيتش لميخائيلوفيتش، بعد ان كان يدعو الى مقاطعة الانتخاب وتأييد جمهورية "الجبل الأسود" في موقعها، أثار الشجون الكثيرة. فميخائيلوفيتش هو ابن الجنرال دراجا ميخائيلوفيتش، زعيم المعسكر القومي الصربي الملكي في الحرب الأهلية التي قسمت يوغوسلافيا خلال 1941- 1945 الى معسكرين، وانتهت بانتصار المعسكر اليساري مؤسس الجمهورية واعدام ميخائيلوفيتش نفسه في بلغراد في 1946. وترشيح ابنه الآن يثير شجون تلك السنوات ويصب بشكل ما لصالح ميلوشيفيتش سواء بسبب تشتت أصوات المعارضة أو بسبب تظاهره بتمثيل المعسكر اليساري الحزب الاشتراكي الصربي وحزب اليسار المتحد المنبعث من جديد. أما الورقة الوحيدة التي يلوح بها دراشكوفيتش لكسب الأصوات لمرشحه فهي استمرار يوغوسلافيا مع الجبل الأسود وكوسوفو. فدراشكوفيتش يصرح ان مرشحه يمكن ان يقدم أساساً جديداً لعلاقة مقبولة مع "الجبل الأسود"، وهو ما يسمح باستمرار يوغوسلافيا لأنه مع انسحاب الجبل سيتم انسحاب كوسوفو بشكل اوتوماتيكي من يوغوسلافيا تشيك 13/8/2000. وفي ما يتعلق بكوشتونيتسا فهو يضطر، في حمى المنافسة الانتخابية مع ميلوشيفيتش، الى عدم الابتعاد عن مواقفه كثيراً بكوسوفو والجبل الأسود والغرب. ولكن مواقف ما بعد الفوز هي التي ستحسم الأمور، وهو ما لمحت اليه قيادة الجبل. فقد ترك رئيس الحكومة فويانوفيتش في لقائه المذكور مع مجلة "تسرنوغورسكي ليست" 12/8/2000 هامشاً للاستمرار في الاتحاد اليوغوسلافي في حال فوز مرشح آخر غير ميلوشيفيتش حين قال: "اذا لم تظهر ظروف جديدة للمباحثات مع بلغراد بعد الانتخابات فإن مواطني الجبل الأسود سيفضلون الاستقلال". وفي انتظار 24 أيلول لا تُستبعد حدوث أي مفاجآت، لأنه ليس من السهل تصور استسلام ميلوشيفيتش لمصيره الذي ينتظره في لاهاي، مع أن كوشتونيتسا يعد من الآن بعدم تسليمه في حال فوزه! * مدير معهد بيت الحكمة، جامعة آل البيت - الأردن.