انتهت ندوة مستقبل العلاقات العراقية - الكويتية التي انعقدت في الكويت الأسبوع الماضي، وذلك بدعوة وتنظيم من مجلس الأمة الكويتي. وانعقاد هذه الندوة في حد ذاته، وتنظيم مجلس الأمة لها على وجه التحديد، كان عملاً ذكياً وإيجابياً في الوقت نفسه، لأن الندوة كانت مفتوحة، وحوارية ضمت مختلف التوجهات والانتماءات، والجنسيات العربية وغير العربية. وبهذه الصفة كانت الندوة إضافة للخطاب السياسي والفكري الذي ينبغي أن يسود في المنطقة، و خطاب الحوار المفتوح، والتفكير بصوت عال بعيداً عن الغرف المظلمة. وانعقاد الندوة، وما دار فيها يعتبر أفضل وأنجع طريقة لمواجهة خطاب النظام العراقي الذي يقوم على هيمنة الرأي الواحد، أو خطاب العنف والاستبداد. قد يقال أن الحوار لم يكن خياراً للكويتيين اختاروه بقناعتهم ومحض إرادتهم، وإنما هو بديل اضطروا إليه بحكم موازين القوى، و بحكم ضعفهم العسكري وضعف حلفائهم في الخليج والسعودية في مقابل قوة العراق العسكرية. قد يكون الأمر كذلك. لكن في الوقت نفسه، وبالمنطق ذاته، قد يكون غير ذلك. مهما يكن فإن المهم هنا هو النتيجة النهائية وأثرها على المنطقة. لأنه مهما كانت الأسباب أو البواعث الحقيقية، فإنه من مصلحة الجميع، وليس فقط العراقيونوالكويتيون، أن تترسخ الديموقراطية والحرية، وتتجذر لغة الحوار السلمي، والانفتاح علي الرأي الآخر في المنطقة، وأن يكون الاعتراف باختلاف المصالح الوطنية وتقديرها، في إطار المصالح الإقليمية والقومية المشتركة، من القواعد التي توجه سلوكيات الأفراد، والمؤسسات وقبل ذلك سلوكيات الدول فيما بينها. انطلاقاً من روح الحوار هذه أسمح لنفسي بهذا التعليق على الندوة ولو عن بد. وأول شيء يلفت النظر هنا هو غياب "مجلس التعاون الخليجي" عن مداولات الندوة إما باعتباره إطاراً لموضوعها العلاقات العراقيةالكويتية أو أحد الأبعاد التي لها تأثيرها على هذه العلاقة. الحديث كان يأتي عن دول أعضاء في المجلس، خاصة اسعودية، ولكن ليس انطلاقاً من عضوية هذه الدول في ذلك المجلس، وإنما بصفتها الاعتبارية كدول من دول الإقليم الذي يتحرك فيه موضوع الندوة. هل ينبغي أن يؤخذ ذلك على أن الكويت، الدولة العضو المؤسس، لا تأخذ مجلس التعاون مأخذ الجد؟ مهما تكن الإجابة فإنه لا يمكن تفادي أن تجاهل هذا المجلس في ندوة تتناول أحد المواضيع الاستراتيجية التي كانت في الأساس وراء قيامه هو مؤشر على عدم فعاليته كتنظيم إقليمي، وأن وجوده يكاد لا يتجاوز الورق الذي يحتوي أنظمته، ويحتوي قراراته الباهتة دائماً. واللافت هنا أن تجاهل امجلس يحدث من دولة عضو فيه، وهي الدولة التي كانت الأكثر استفادة من وجوده حتى الآن، مهما كانت صيغة هذا الوجود. فالمجلس وخاصة السعودية كما أشار إلى ذلك وزير الخارجية القطري في الندوة كان أحد الأطر السياسية التي تمت فيها عملية تحرير الكويت من الاحتلال العراقي. وغياب المجلس عن موضوع الندوة يعطي الانطباع بأن الكويت تفكر في علاقتها مع العراق بمعزل عنه. موضوع ندوة الكويت كان يتمحور حول استشراف مستقبل العلاقة بين العراقوالكويت. لكن أي مستقبل؟ هل هو مستقبل العراق الذي يتضمن بقاء النظام الالي؟ أم مستقبل ما بعد هذا النظام؟ هذا غير واضح تماماً. ما كان واضحاً في أجواء الندوة اختصرته جريدة الوطن الكويتية في عنوانها الرئيس في اليوم الثاني للندوة، والذي يقول "نظام بغداد هش، لكن يصعب إسقاطه". هذا الانطباع، وهو مماثل لما هو سائد في أرجاء العالم العربي، قد يكون السبب في عدم وضوح المقصود بمستقبل علاقة الكويت مع العراق. في كلمته أمام الندوة، يؤكد وزير خارجية الكويت، الشيخ صباح الأحمد، على أن "الكويت تنظر إلى علاقاتها المستقبلية مع العراق بأمل وتفاؤل قائمين على أساس التزام العراق بالتنفيذ الكامل لكافة القرارات الدولية ذات الصلة بعدوانه على دولة الكويت". هل يعني هذا إمكانية التطبيع مع النظام الحالي؟ رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الأمة، محمد جاسم الصقر، كان أكثر وضوحاً ومباشرة في رفضه للتطبيع عندما قال بأن "العلاقات التي تفرضها قيادات ابتعدت عن قواعدها لتنفرد بالسلطة.... لا يمكن الركون إليها، أو التخطيط على أساسها". لكن يلاحظ أن الإشارة إلى القيادة العراقية هنا كانت غير مباشرة. ويبقى أن الاختلاف بين الوزير والنائب حول هذا الموضوع ليس بالضرورة اختلاف جذري أو نوعي. على العكس إنه في الغالب اختاف في الخطاب يعكس اختلاف موقع كلاً منهما في الحكومة الكوتية. فالصقر يتوجه في خطابه إلى الناخب الكويتي في الأساس. في حين أن موقع صباح الأحمد كوزير للخارجية يفرض عليه أن يأخذ في الاعتبار علاقات الكويت الخارجية، ومن ثم فإن خطابه موجه ليس فقط إلى الشارع الكويتي، وإنما إلى صناع القرار خارج الكويت كذلك. من ناحية أخرى، وعلى خلفية الانطباع السائد عن قوة النظام العراقي، من الممكن أن يؤخذ اختلاف الخطاب مع عدم الوضوح والمباشرة على أنه نوع من التهيئة العفوية، تهيئة النفس، وتهيئة الشارع الكويت لتقبل الأمر الواقع والتعايش معه. وإذا ما صح ذلك، فإنه يشكل نقطة سياسية تسجل لصالح قيادة العراق التي قامت بالغزو، ولا تزال تصر على مشروعية ما قامت به. من ناحيته طالب وزير الخارجية القطري، الشيخ حمد بن جبر آل ثاني، في كلمته إلى الندوة، دول الخليج بأخذ زمام المبادرة لتطبيع علاقاتهم مع النظام الحالي في بغداد. لماذا؟ لأن الوضع في هذه المنطقة، يقول وزير الخارجية القطري، "لا يمكن أن يعود إلى طبيعته، إلا إذا عاد الوضع بين العراق وجواره ومحيطه إلى طبيعته". وهذا صحيح. لكن لماذا لا تأتي المبادرة من بغداد؟ وبما أنها هي التي ادرت بالغزو، لماذا لا تبادر بتصحيح الوضع، واتخاذ كل ما يلزم لتطبيع علاقاتها مع جيرانها الذين تعرضوا لتهديداتها وعدوانها؟ ليس هناك إجابة على هذا السؤال، ولا يمكن أن يكون هناك إجابة، لأن القيادة العراقية غير قادرة، بطبيعتها، على اتخاذ مثل هذه المبادرة. ولا يجوز في مثل هذه الحالة، لا من الناحية السياسية ولا المنطقية، أن تأتي مبادرة التطبيع من دول الخليج والجزيرة إلا في حالة واحدة، وهي التسليم بضرورة الرضوخ لصلافة وعدوانية القيادة العراقية. وما قاله الشيخ حمد عن ضرورة التطبيع مع العراق هو صحيح كما أشرنا. فالعراق كان وسيبقى عربي شقيق، وسيظل طرف فاعل في المنظومة الإقليمية للجزيرة العربية والخليج. وبالتالي لا بد، طال الزمن أو قصر، أن تعود العلاقات مع العراق إلى طبيعتها. الدعوة إلى التطبيع مع النظام العراقي ليست دعوة قطرية، وإنما تتبناها أكثر من جهة عربية. لكن كيف يمكن التطبيع مع النظام الحالي وهو لا يستطيع أن يطبع علاقاته مع المجتمع الذي يحكمه؟ بل إن القيادة العراقية نفسها لا تستطيع أن تقيم علاقات طبيعية بين أفرادها، أو مع أقاربها المقربون. فهذه العلاقة أيضاً تقوم على الخوف والشك، وتخضع دائماً لعيون أجهزة الأمن والاستخبارات. كيف في هذه الحالة يمكن التطبيع مع نظام هو بذاته، وبحكم معايير السياسة والأخلاق، نظام غير طبيعي. وحتى إذا ما قيل أن التطبيع ضرورة تفرضها واقعية السياسة، وضرورات توازن القوى والمصالح بين الدول فإن الأمر لا يستقيم كذلك. لأن التطبيع مع النظام الحالي يشكل سابقة خطيرة تجعل من العدوان، وانتهاك الأعراف والحقوق، والتنصل من المسؤولية عن كل ذلك أمر يمكن التغاضي عنه، بل والتعايش معه. وهذا بحد ذاته لا يتناقض مع طبيعة العملية السياسية التي باسمها تتم المناداة بالتطبيع وحسب، وإنما يلغي كل الضمانات التي تتطلبها ضرورة الأمن والنظام في المنطقة. فالسياسة وما تتطلبه من واقعية، ونظرة عملية للعلاقات والمصالح بين الدول هي في جوهرها مسؤولية محدودة بحدود القانون، والنظام واحترام حقوق الآخرين ومصالحهم. ومن دون هذه الحدود لا تعود المسألة متعلقة بمتطلبات السياسة وضروراتها، وإنما انحراف عن طبيعة السياسة ذاتها، وانزلاق إلى عوالم الفوضى والاستهتار. والشيء الذي يجيز مثل ذلك أن العلاقة مع العراق، كما العلاقة بين كل الدول العربية، تظل في عرف الأنظمة العربية هي علاقات بين أنظمة في المقام الأول والأخير، وليست علاقات بين شعوب ومواطنين لهم حقوق ومالح ومواقف يجب أن تؤخذ في معادلات السياسة والمصالح بين هذه الدول. هل رفض التطبيع مع النظام الحالي يتطلب العمل على إسقاطه؟ الحقيقة أن هذا السؤال يعكس المأزق الذي يجد، ليس فقط الخليجيون، وإنما جميع العرب أنفسهم إزاؤه في مواجهة المسألة العراقية. هناك المبدأ السياسي الذي يقول بأن "مسألة الكم في العراق يجب أن تكون متروكة لشعب العراق". ولب المأزق العربي هنا يتمثل في أن هذا المبدأ، على صحته، يتناقض مع إيماننا جميعاً بضرورة إنهاء المأساة الإنسانية التي يعيشها الشعب العراقي، وذلك برفع الحصار الاقتصادي عنه. لكن إذا عرفنا أن مأساة هذا اشعب لم تبدأ مع الحصار، وأن المسؤول الأول عن هذه المأساة هو النظام الحاكم، فكأننا بالمبدأ المذكور نقول للشعب العراقي: إن المأساة التي تعيشها هي من صنع يدك. وإذا أردت الخروج من هذه المأساة، فعليك تغيير نظام الحكم. هكذا بكل بساطة. ونحن نعرف جميعاً أنه في هذه المرحلة التي نمر بها ليس في متناول كل الشعوب العربية تغيير أنظمتها بما يخدم مصالحها وحرياتها وأمنها. فكيف به يكون في متناول الشعب العراقي وهو يعيش تحت أكثر الأنظمة العربية وطأة، وقسوة، وأكثرها استهتاراً بحياة وحقوق مواطنيه. بناء على ذلك يخشى أن مأساة الشعب العراقي تحولت إلى ورقة يستخدمها الآخرون لمصالحهم السياسية. مرة أخرى كشفت ندوة الكويت أن خطابنا متناقض، وثقافتنا الحقوقية والقانونية هشة، وتهيمن على دولنا الحالة السياسية بكل مصالحها وأطماعها المتناقضة، والتي لا تبالي كثيراً بمسألة الحقوق، والقانون، والمسؤولية أمام مواطنيها. وهو ما يسمح لنظام مثل النظام العراقي أن ينمو ويكتسب القوة والسطوة في الداخل والخارج. إزاء ذلك، وأمام فشل المعارضة العراقية في أن تكون معارضة جادة طرحت في الندوة فكرة التعايش مع النظام العراقي. لكن مرة أخرى يفرض السؤال نفسه: كيف يمكن ضمان أن لا يتحول هذا التعايش إلى تهديد لدول الخليج الضعيفة عسكرياً؟ الضمانة هنا، كما يقال، يجب أن توفرها الدول الأجنبية، أو بالتحديد الولاياتالمتحدة الأميركية وأوروبا الغربية. وذلك لأن الدول العربية غير قادرة على ضبط الوضع الأمني في المنطقة. والحقيقة أن أزمة الخليج الثانية لم تبرهن على ذلك وحسب، وإنما كشفت أن الدول العربية كانت في وضع يرثى له. فالسعودية ودول الخليج كانت خائفة من أطماع النظام العراقي التوسعية، ودول أخرى، مثل الأردن واليمن ومنظمة التحرير الفلسطينية كانت تتطلع إلى المشاركة في غنائم الغزو العراقي للكويت، وأيضاً دول أخرى، وبالتحديد سوريا ومصر، كانت متخوفة من هيمنة العراق على موارد الخليج، ومن الآثار السلبية لذلك على مصالح هذه الدول، وعلى مواقعها في موازين القوة في المنطقة. في مثل هذه الظروف من الانقسام والتمزق، اتضح أن أهم وأقوى الدول العربية، وهي السعودية ومصر وسوريا، لم تكن قادرة سياسياً على إخراج العراق من الكويت، على الرغم من أنها كانت متفقة تماماً على ضرورة تحقيق ذلك. إن مثل هذا الوضع هو الذي أوجد الفراغ الأمني في المنطقة. والذي فرض التدخل الأجنبي لإعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي. لكن هل يعني ذلك الاستمرار في الاعتماد على الدول الأجنبية لضمان أمن الخليج باعتباره الحل الوحيد المتاح؟ والإجابة التي تقتضيها مصلحة دول وشعوب المنطقة، لا مصلحة دولها فقط، ويقتضيه مستقبلها لا بد أن تكون بالنفي. لأن الاعتماد على الدول الأجنبية في المحافظة على أمر حيوي وجوهري، هو أمن وسيادة الدولة، يجعل إرادة هذه الدولة ومصالحها مرتهنة لإرادة ومصالح دول أجنبية لا تتطابق مصالحها مع هذه الدول دائماً، ومن ثم يحد، على الأقل، من حريتها في اتخاذ القرار والحركة كما تقتضيه مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية. وهذا الاعتماد في حد ذاته انتقاص من حقها في السيادة والاستقلال، ويمثل تهديداً لأمن الدولة واستقرارها في العمق. فالسيادة والاستقلال هي أحد المقومات الأساسية للدولة. لكن هذه السيادة لا يمكن أن تتحقق من دون قدرة ذاتية لهذه الدولة على صيانة أمنها واستقلالها بنفسها. وبالتالي فإن اعتماد الدولة في أمنها علي قوى خارجية يمثل في حقيقة الأمر مصدر تهديد، لا مصدر ضمان لهذه الدولة. * كاتب سعودي.