قرأت مقال الدكتور كلوفيس مقصود المنشور في "الحياة" يوم الخميس 30 تموز يوليو 1998، الذي يدعو فيه العرب الى "الاحتضان القومي العام لشعب العراق من خلال مضاعفة المساعدات الغذائية والصحية والتعليمية حتى ولو أدى ذلك الى تجاوز العقوبات المفروضة. هذا الاحتضان يلغي بدوره فاعلية حملات التشكيك بنجاعة العروبة كما كانت الحملات نفسها تعمل لتكفير الشعب الكويتي بانتمائه العربي". ولأن هذه الدعوة صادرة من الدكتور كلوفيس مقصود فقد رأيت من المناسب التعليق عليها، لسببين: اولهما انني زاملت الدكتور مقصود لسنوات طويلة في الاممالمتحدة حينما كان رئيساً لمكتب الجامعة العربية هناك وكنت أنا مندوب الكويت الدائم في الأممالمتحدة، وتمت بيننا صداقة وتعاون من اجل العمل العربي المشترك خصوصاً عندما كنت امثل المجموعة العربية في مجلس الأمن خلال سنتي 1978 و1979. كما اعرف نقاوة الدكتور مقصود وصفاء ورحه، وأمانته في التعبير عن شعوره الحقيقي. فقد كان هائماً بالعروبة السياسية والفكرية، وكان يخلط البراءة بالغزارة، والمداعبة بالبلاغة، يتراقص مع المفردات، ويرقص على أهازيج العروبة. ولأنه صافياً لا اشك في سلامة نواياه في مقاله المذكور، لذلك لم افاجأ بمواقفه بعيد الغزو العراقي للكويت واستسلامه الى الحيرة وانفجاره من ضغوط القلق عبر استقالته من منصبه وتفضيله العودة الى الحياة الأكاديمية بعيداً عن احراجات السياسة العربية وتداعيات المأساة. والسبب الثاني ان المقال جاء متزامناً مع الذكرى الثامنة لجريمة العصر التي ارتكبها النظام العراقي في الثاني من آب اغسطس 1990. وربما من المفيد ان نستذكر مع الدكتور مقصود حقائق التاريخ منذ استقلال الكويت 1961 حتى يوم الغزو 1990، لنتعرف على اندفاع الكويت المفرط في كل ما هو عربي سلوكاً وتصرفاً وحلولاً ومصيراً. فقد تركت الكويت آليات الدفاع عنها بيد العرب وفضلت البرود مع الغرب إيثاراً للقضايا العربية. وقد سأل مراسل "سي. ان. ان." C.N.N وزير الخارجية الكويتي الشيخ صباح الأحمد قبيل الغزو ووسط التوتر: الى من ستلجأ الكويت للدفاع عنها: الى موسكو أم واشنطن؟ فرد الشيخ صباح بعفويته المعروفة: سألجأ الى الجامعة العربية. وهذا الرد يعبّر عن متانة الالتزام بالمواثيق والقواعد العربية السياسية التي تشربنا من روحها لمدة ثلاثين سنة. كنت شخصياً في الأممالمتحدة سفيراً للكويت لمدة عشر سنوات ولم تكن لي لائحة هموم كويتية اطرحها على الأممالمتحدة وأسعى لاقناع الوفود بها، كان همي قضية فلسطين - وكانت القضية هموم الكويت ارضاً وشعباً وحكومة، وقبل ذلك اميراً - الى درجة ان علاقاتنا مع واشنطن كانت تتأرجح بين الاعتيادية والبرود. عندما فجّر النظام العراقي الوضع عبر مذكرته في 17 تموز يوليو 1990 الى الجامعة العربية كانت الكويت اول من دعا الى تشكيل لجنة عربية للبحث في مضمون المذكرة العراقية، بما فيها من اتهامات مسرحية ضد الكويت. الا ان العراق رفض وأصر على الحل الثنائي الذي كان في حقيقته مخططاً للتسويف وفرض الاستسلام. كنت مع الوفد الكويتي في لقاء جدة، ولم تجر مفاوضات ولا مناقشات، وانما وضع الوفد العراقي طلبه على الطاولة، متسائلاً عن مدى قبول الكويت شروطه. وعندما لم يتحقق له ذلك أنهى الجلسة الوحيدة، وخرج اعضاء الوفد العراقي وجلسوا معنا في القاعة نتحدث عن الخيول وأنواعها. وكان علي حسن عبدالمجيد اكثر الاعضاء العراقيين خبرة في حياة الخيول وأمزجتها، ولم نعرف وقتها ان المتحدث عن الخيول طرف اساسي في التخطيط للجريمة. خلال الفترة من 17 تموز حتى يوم الغزو المشؤوم قام العديد من المبعوثين العرب بزيارة كل من بغدادوالكويت بقصد التهدئة. جاء الرئيس حسني مبارك والرئيس ياسر عرفات والأمير سعود الفيصل والجامعة العربية واخيراً الملك حسين. وكانت الرسالة التي وضعت امام القيادة الكويتية الدعوة الى عدم التصعيد، وعدم مجاراة العراق في التصعيد الاعلامي، وعدم اللجوء الى اجراءات احترازية قد يسجلها العراق لصالحه ضد الكويت. واستجابت القيادة لهذا النداء، وأعطت الضباط اجازات، ومنعت القيادة العسكرية من اتخاذ اي اجراء احترازي، وذلك كله ايماناً بالعهود العربية وثقة بالقيادات العربية، وتفضيلاً للاسلوب العربي في الحل. ولم تستجب القيادة الكويتية للاشارات التي صدرت من بعض الدول الصديقة في اظهار الحرص على استقلال الكويت وسيادتها، وتابعت نهج الارتياح للحل العربي. في يوم الثاني من آب 1990 ارتكب صدام حسين جريمته بغزو الكويت. وفي اليوم التالي اصدرت الدول الاسلامية المجتمعة في القاهرة إدانة للجريمة ودعماً للكويت. وفي اليوم نفسه اصدرت المجموعة الافريقية بياناً تضامنياً مع الكويت وإدانة للنظام العراقي. وفي اليوم ذاته اصدر مجلس الأمن قراره التاريخي 660 الداعي الى انسحاب القوات العراقية الى العراق وعودة الشرعية الكويتية، على رغم محاولات مندوب اليمن تعطيل الارادة الدولية. وماذا عن الحل العربي الذي يتباكى صديقنا الدكتور كلوفيس مقصود عليه في قوله: "مع سقوط محاولة الحل العربي من خلال القمة المنعقدة في القاهرة في منتصف آب 1990، إلتبست الامور على الجماهير العربية والعديد من طلائعها الثقافية. كان الالتباس ناتجاً عن العجز عن تحديد أي الخروقات يتطلب المجابهة والتعبئة القومية: عدوان النظام العراقي على دولة الكويت وما تبعه من تداعيات في الحال العربية أم تحول الغزو الى فرصة مكّنت الولاياتالمتحدة من خلال نفوذها في مجلس الأمن من ان تحكم قبضتها الاستراتيجية على المنطقة…". اجتمع القادة العرب في العاشر من آب 1990، بعد اسبوع من الاحتلال، كان خلاله الشعب الكويتي يتطلع الى موقف عربي صلب، متصوراً بأن ذلك امر طبيعي لحجم الجريمة وطبيعتها، وبسبب الاستثمار السياسي والاقتصادي والديموغرافي والنفسي والأمني الذي وضعه في العلاقات العربية. إلا ان العاشر من آب سجل فضيحة اخلاقية وأزمة حضارية عربية غير مسبوقة، بحيث عجز المجتمعون عن إدانة العدوان ومواجهته، وفضّل العديد منهم الهروب بتغطيات سياسية واجرائية ومناورات أفقدت القمة هيبتها. صوت مع الحق الكويتي المغرب وحده من دول افريقيا، ومعه مصر حسني مبارك، والباقي عجز إما ممتنعاً او متفلسفاً، بالاضافة الى الصومال وجيبوتي. ومن دول المشرق سورية ولبنان ودول الخليج بالطبع، بينما خرج الأردنوفلسطين واليمن من دول الدعم والمناصرة الى دول التسويف والمماطلة. وقد شاهدت شريط الاجتماع، ووقفنا على السقوط الذي حل بالقيادات العربية الناتج من تراكمات كثيرة: من تصفية حسابات وأحقاد وعجز وفراغ اخلاقي وجهل فاحش وتفسخ في الارادة، وانعدام المواقف، وتمييع الصلابة. وفوق كل الجروح التي سببها التخاذل العربي بدأت وفود التوسل العربي تذهب الى بغداد متوسلة الزعيم صدام حسين، ومستنجدة بنخوته وشهامته من اجل ايجاد حلول لا تخلو من المكافأة لمرتكب الجريمة، بدلاً من الوقوف بصلابة امام المجرم وتحذيره بكلمات واضحة وبموقف لا يقبل الاهتزاز. وفي الوقت الذي اظهرت الاسرة الدولية موقفاً حازماً وصلباً في رفض الغزو واظهرت العزم على تحرير الكويت، مسجلة بذلك مواقف مبدئية تحترم الحقوق وتنتصر للمظلوم ولا تعبأ بالمصالح العابرة، يتخاذل العرب ويتفننون في تمييع الحق الكويتي، ويتسابقون في إرضاء غرور القائد صدام حسين الذي لا شك في أنه وجد تشجيعاً في الموقف العربي المتخاذل زاده في تصلبه أمام قرارات مجلس الأمن وزاد من غروره وصلافته، كما وجد تشجيعاً من الذين يسميهم الدكتور كلوفيس مقصود المثقفين الذين احتاروا بين الحق الكويتي والمخطط الامبريالي، من دون ان يسجل صديقنا الدكتور مقصود ان هذا المخطط - إذا وجد - جاء حصيلة جريمة صدام وحصيلة التفكك والعجز العربيين. بالطبع فان لكل كارثة دروسها نستخلصها نحن الضحايا، او يستخلصها الآخرون من الفاجعة التي حلت بالكويت. وأهم هذه الدروس حتمية تخليص الشعب العراقي من نظام الابادة الذي يتحكم بمصيره ودمّر حاضره وقضى على مستقبله. ويأتي ذلك من تثبيت الحصار على النظام وعزله في قفص منبوذ اقليمياً وعربياً ودولياً، ونصرة شعب العراق في كفاحه للتخلص من النظام. ونحن مع دعوة الدكتور مقصود في المزيد من العون الاقتصادي والتعليمي والدعم المعنوي والسياسي لشعب العراق المكافح الى ان يزول النظام الشاذ الذي أعاد العراق الى عصر الظلام وفتك بالمنطقة وأنهى مصداقية العرب. * الأمين العام السابق لمجلس التعاون الخليجي.