استراتيجية الحل السياسي الشامل كما يطرحها التجمع الوطني الديموقراطي السوداني في تعامله مع نظام انقلاب الاسلاميين، تستهدف فتح الطريق نحو اعادة تأسيس الديموقراطية، عبر عملية تفاوض - صراعي معه، لذلك فإن نجاحها يعتمد على توازن القوى بين الطرفين. على الصعيد السياسي البحت هناك أساس للمراهنة على صحة هذه الاستراتيجية القائمة على التنازلات المتبادلة بعد ان وصل نظام الانقلاب الى أقصى درجات ضعفه تحت وطأة الضغوط الداخلية والخارجية، فهو منقسم على نفسه، وشهادات افلاسه لم تعد تصدر من اعدائه بل من قيادته البشيرية والترابية العليا في خضم تبادل الاتهامات بينها. هذا جزء من حقيقة وصورة الوضع الراهن في السودان لأن المسرح السياسي في أي بلد من البلدان وفي اية مرحلة من تاريخها له خلفيته أو ارضيته المجتمعية التي تعدل من الوضعية السياسية بدرجة أو بأخرى، فحال السياسة دائماً هو من حال المجتمع. والشاهد ان التوازن على الصعيد المجتمعي يميل الى مصلحة النظام، لذلك فإن مظاهر وأسباب ضعفه العديدة والحقيقية لم تستتبع ضرورة ضعف القبضة السلطوية، وهذا واضح من ان رجحان الميزان السياسي لمصلحة المعارضة لم يترجم حتى الآن الى تنازلات من السلطة بالحد المطلوب للشروع في تطبيق الحل السياسي الشامل. بالعكس يبدو الآن انه كلما ازداد ضعف السلطة كلما ازدادت قدرتها على التوقف عند الحدود الضئيلة من التنازلات التي قدمتها بل التراجع عنها. والظاهرة الحاكمة لتطور أوضاع السودان منذ ما يقارب عقدين هي ان العقل الجماعي الحضري السوداني يعيش غيبوبة شبه كاملة تتوصف بكونها استعداده العالي للتجاوب مع الخطاب الديني الخام المعادي للاستنارة سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً. يبدو هذا جلياً في ان زعيماً سياسياً مثل حسن الترابي وجد ان ممارسة ثقافة الخرافة تكسبه انصاراً يعبئهم وراء برنامج الاسلاميين. هذا النوع من التجاوب كان قبل ذلك سمة العقل الجماعي الريفي الذي كان دوره القيادي فكرياً وسياسياً قد بدا يضمحل مع افول المرحلة المهدوية في تاريخ السودان خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بينما تصاعد دور البيئة الحضرية وقواها الاجتماعية والسياسية وتياراتها الفكرية، ليدخل السودان العصر الحديث في مجالات عدة من العلوم الطبيعية الى الشعر الحديث مروراً بالاقتصاد وتطور الفكر والتنظيم السياسيين. هذا الدخول كان متعثراً حيناً وبطيئاً احياناً اخرى، لكن الخط البياني النهضوي كان على العموم متصاعداً حتى حوالى النصف الأخير من الحقبة المايوية النميرية 1969-1985. من الصعب تحديد ميقات بداية هذا النوع من التطورات بدقة، لكن هذه الحقبة احدثت زلزالاً في المجتمع السوداني ادى الى تراجع الخط البياني للنهضوية السودانية لأول مرة منذ العشرينات، وذلك نتيجة الانهيار الاقتصادي والمعيشي الى حد المجاعة والحرب الأهلية وتفريغ النظام التعليمي من طاقته التنويرية مع توسيعه كمياً. هذه هي الأسباب الرئيسية للزلزال وهناك اخرى ثانوية مثل الهجرة المدينية الى المغتربات الخليجية وغير الخليجية. ومجموعة الانهيارات المتداخلة التي احدثتها المايوية أدت الى هجرة ريفية واسعة وعشوائية الى المراكز الحضرية وانهكت طبقات المجتمع نفسياً وذهنياً وحتى جسدياً، ومن تفاعل هذين العاملين تفاقمت الحاجة الجماعية الى الدين كملجأ من ضغوط الحياة اليومية، في شكل جعله مطية للغوغائية والشعوذة والتعامل غير العقلاني عموماً... ولأن منبع هذه الحاجة كان سلبياً كان طبيعياً ان تكون نتائجها سلبية على هذا النحو. هذا المناخ كان صالحاً تماماً لنمو حركة الاسلام السياسي واستيلائها على السلطة قبل احد عشر عاماً. وكان منطقياً في هذا السياق ان تكون قادرة على الاستمرار على رغم كل ما فعلته بالبلاد وناسها ومستقبلها. عشر معشار ما فعلته سلطة الاسلاميين كان كفيلاً باطاحتها لو كانت حالة المجتمع سليمة، ولو لم يكن العقل الحضري الذي يستشعر الحاجة للتغيير ويحولها الى افكار وخطط في حالة الغياب والغيبوبة الموصوفة لنهضت القوى السياسية والنقابية الحية في المدن والأرياف المتقدمة لأداء دورها التاريخي الانتفاضي الذي اسقطت به دكتاتوريتي عبود ونميري في عامي 1964و1985 ولكن وزن هذه القوى خف كثيراً لأن الحالة المجتمعية لم تعد ملائمة لنموها. وهذا هو المقصود أن التوازن في الأرضية الاجتماعية التي يرتكز عليها التوازن السياسي هو لمصلحة النظام. ليس هناك مخرج سهل من هظذا المأزق المعقد باعتباره ناتج تراكمات تكلست وترسخت حتى اكتسبت ديناميكية توليد ذاتي. لنلاحظ مثلاً ان وزن الفكر المتخلف الذي يجعل الاسلام معادياً للعقلانية والاستنارة وللسلم الأهلي والديموقراطية هظو الأرجح في القطاع الطلابي منذ عشرين عاماً على الأقل، عدا بعض الخروقات هنا وهناك لسيطرة الاسلاميين على الاتحادات الطلابية. معنى ذلك ان ادماج هذا القطاع ذي الدور الحيوي في نجاح حركة المعارضة في المعركة السياسية من اجل استعادة الديموقراطية هو بالدرجة الأولى مسألة تحرير للعقلية والنفسية وليس مسألة سياسية مجردة وهذا ما يجعل مهمة التجمع والمعارضة صعبة بقدر ما يجعل مهمة السلطة والاسلاميين في كسب هذا القطاع وغيره من قطاعات المجتمع السوداني، أو على الأقل تحديدها وشلها، سهلة. اذا صحت هذه الرؤية للمصدر التحتي المجتمعي لمعضلة استراتيجية مقاومة الدكتاتورية فإن نقطة البداية البديهية هي التوصل الى تصور مشترك بين الأطراف والدوائر الحية في التجمع ووسط النخبة السودانية عموماً حول ماهية هذا المصدر، ما سيؤدي تلقائياً الى التركيز على ابتداع اساليب عمل جديدة تتحاشى مع هذا الفهم، على رأسها إحياء وتنشيط المجتع المدني السوداني بأشكاله المختلفة. وفي هذه التفاصيل كثير لن يعجز الناشطون على مستوى التخطيط والتنفيذ عن تحديدها وتفعليها على مستوى النشاط اليومي داخل البلاد وخارجها. وبغير ذلك فإن مواثيق التجمع وبرامجه وخططه بما في ذلك استراتيجية الحل السياسي الشامل، لن تجد السند الشعبي والنخبوي اللازم لتحويلها الى واقع. المشكلة ليست في سلامة هذه المواثيق والبرامج، على العكس فهي تشكل في مجموعها أفضل ما توصلت اليه الحركة السياسية السودانية مجتمعة في تاريخها، لكن الاستراتيجية التطبيقية تفتقر الى الاجابة الصحيحة عن السؤال حول الأسباب الحقيقة لغياب ذلك السند الى الآن. * كاتب سوداني مقيم في لندن.