سئلت في نيويورك أين كنت الليلة الماضية، وقلت إنني كنت أحضر مسرحية "البؤساء" الموسيقية. الواقع انني حضرت هذه المسرحية في لندن قبل سنوات، أما تلك الليلة في نيويورك فقد حضرت مسرحية اعتقدت أن زوجة رئيس البلدية رودلف جولياني، وهي الصحافية والممثلة دونا هانوفر، تمثل فيها، وكنت أشرت إلى الموضوع في هذه الزاوية في حينه، فقد قامت ضجة لأن المسرحية التي كتبتها ايف انسلر من نوع فاضح. لم تكن الزوجة في المسرحية، غير انني وجدت أفضل منها، فقد كانت هناك الممثلة الحسناء بروك شيلدز، والمسرحية كلها تقوم على ثلاث نساء، كل منهن تجلس على كرسي أمام "ميكروفون"، ويتناوبن الحوار، وهو نسائي "من كعب الدست". وبما انني شكوت من نيويورك في كل مرة كتبت عنها، فلا بأس اليوم أن أشير إلى أن الحركة المسرحية فيها هي الأكثر حيوية في العالم، فهناك حياة ثقافية زاخرة المسارح جزء أساسي منها. وعندي للقارئ المهتم "تعليمة"، فهو يستطيع أن يحضر أي مسرحية في نيويورك، حتى تلك التي تكون جميع مقاعدها مبيعة لأشهر مقبلة. وكل ما يحتاج أن يفعل هو أن يذهب إلى المسرح قبل ساعة من رفع الستارة، ويقف في طابور منتظراً دوره، لأنه لا يمكن أن تمر ليلة من دون أن يلغي بعض المتفرجين حجزه لمرض أو سبب آخر، فإذا كان المطلوب مقعداً واحداً، فإنه لا بد أن يكون موجوداً. وهكذا كان وحضرت في ليلة أخرى مسرحية "عايدة" الحديثة، وهي من انتاج شركة "ديزني"، وتأليف لندا وولفرتون ومعها روبرت فولز وديفيد هنري هوانغ، ومن تلحين المغني البريطاني التون جون. أما الأغاني فهي من تأليف تيم رايس الذي شارك الملحن اندرو لويد ويبر في بعض أشهر مسرحياته. ثمة غرام أميركي كبير بمصر القديمة، وبكل شيء له علاقة بالفراعنة، ولعل القارئ يذكر انني كتبت في كانون الثاني يناير من السنة الماضية انني زرت فينكس، بولاية اريزونا، وفوجئت بأن حدث الموسم الثقافي فيها هو عرض لآثار فرعونية مستوردة من متحف الماني. وكان الزحام على المتحف حيث عرضت الآثار أشد منه على دار أوبرا تعرض "عايدة". "عايدة" الجديدة عمل موسيقي حديث، يخلو من أي غناء أوبرالي، والمسرحية فازت بجائزة "توني 2000" لأفضل مسرحية موسيقية، كما فازت هيذر هيدلي، التي تؤدي دور "عايدة"، بجائزة أفضل ممثلة. ومع ذلك لم أجد الأغاني من نوع ممتاز، يحفظه المستمع ويردده لنفسه. غير أن الأوبرا والمسرحية الجديدة تدوران حول قصة حب كبير، وهي بالنسختين الأوبرالية والحديثة مؤثرة جداً. ما أذكر من الأوبرا هو أن مصر تحتل الحبشة، ويأسر الكابتن راداميس "عايدة"، بنت ملك الأحباش اموناسرو، ويهديها إلى امنريس، بنت الفرعون، التي تحب الكابتن في حين يقع هو في غرام "عايدة". قصة الأوبرا كتبها عالم الآثار الفرنسي اوغست مارييت، وهي قصة حب خالصة، لا علاقة لها بدين أو سياسة، فمصر تحتل الحبشة، ولكن لا يوجد بطل أو شرير، وإنما قصة حب تنتهي بأن يخون راداميس وطنه، وتتبعه "عايدة" في الموت، مفضلة حبيبها على وطنها. وجدت القصة الجديدة تتحدث عن بلاد النوبة لا الأحباش، ولا تخلو من عنصر وطني، والنوبيون الأسرى يتعهدون متابعة النضال لتحرير بلادهم من المصريين. غير أن القصة بعد ذلك تظل قصة حب تنتهي بمأساة، وقرأت أن شركة "ديزني" قضت خمس سنوات في إعداد المسرحية الحديثة، وانفقت مبالغ هائلة على الانتاج الذي جاء يليق بعظمة مصر القديمة. كنت حضرت أوبرا "عايدة" مرات عدة، أجملها في معبد حتشبسوت في الأقصر سنة 1997. وقدرت الفرق بين مسرح طبيعي عمره ثلاثة آلاف سنة، وخشبة مسرح حديث، عندما تناهت إلينا داخل مسرح "بالاس" المطل على شارع برودواي، أصوات أبواق سيارات الشرطة والاسعاف من الخارج. نزلت في الطابق الرابع والعشرين من أحد فنادق نيويورك الحديثة، ومع ذلك فأصوات الشارع تحت كانت تصل إليّ، وقد شكوت منها في السابق، فاكتفي اليوم بالأصوات الأجمل، أو أصوات الغناء مع خلفية عظمة مصر القديمة. تاريخ الفراعنة تاريخ مكتوب، ومعبد حتشبسوت يعود إلى فترة المملكة الجديدة، عندما وصلت الحضارة الفرعونية إلى أوجها. وفي المقابل فإن علينا أن نصدق خرافات يهودية لا يصدقها معظم أهلها، تتحدث عن تاريخ لم يحدث، وهياكل هي من نوع القصور في الهواء. وبعد، ذهبت إلى نيويورك لحضور قمة الألفية ثم دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحاولت أن أقسم جهدي مناصفة بين الكتابة الجادة ارضاء للقراء الذين يفضلون أن أكتب عن السياسة، والكتابة الهاذرة للقراء الذين يصرون على أن أكتب عن أي شيء ما عدا السياسة. ولعلي أرضيت الطرفين أو لم أرضِ أحداً. وهكذا اختتم اليوم بموضوع لا أعرف ان كان سياسة أو هذراً، فدورة الجمعية العامة تزامنت مع افتتاح الألعاب الأولمبية في سيدني، فعلمت أن ثمة شيئاً اسمه "الهدنة الأولمبية"، فقد تبنتها الجمعية العامة بعد قرار عن الهدنة اتخذته اللجنة الأولمبية الدولية في كانون الأول ديسمبر من السنة الماضية. والهدنة تحيي تقليداً عند الاغريق بالتزام هدنة خلال الألعاب الأولمبية القديمة، وهي بذلك من نوع الأشهر الحرم التي عرفها العرب. والهدنة أتاحت لي أن أحضر مسرحيات نيويورك بسلام، غير أن المشكلة معها أن الناس الذين يسمعون بها لا يريدون القتال أصلاً، أما الناس الذين يحتاجون إلى سماعها، من ثوار كولومبيا إلى الجماعات المسلحة في تيمور الشرقية، فلا يعرفون شيئاً عنها، ولن يتوقفوا عن القتال حتى لو عادت إليهم أوبرا "عايدة" في حلة حديثة.