في يومٍ من الأيام القديمة أحسَّ واحدٌ من الملوك بالملَل، فغادر قصره وسار في طرقات مدينته يتبعهُ وزيرهُ وحرسهُ. فجأةً، اعترض طريق الملك خروفٌ وديع العينين، أبيض اللون، وصاح: "ماع.. ماع". إلتفت الملك الى وزيره، وقال له: "أنبئني ماذا يقولُ الخروف؟". إضطرب الوزير وقال بصوت مُرتجفٍ: "أنا أسفٌ يا مولاي لأني لا أعرف لغة الخراف". قطَّب الملك جبينه، وأمر بإحضار حُكماء مملكته، وكانوا سبعة. جاء الحكماء السبعة بسرعة، ومثلوا بين يدي الملك برؤوسٍ محنيةٍ احتراماً، فطلب منهم أن يُنبئوه بما يقول الخروف الذي كان لا يزال يصيحْ: "ماع.. ماع". قال الحكيم الأول: "إنه يقول إنّ الفرح أقوى من الحزن". قال الحكيم الثاني: "الخروف ينصح الناس بقول الصدق دائماً". قال الحكيم الثالث: "إنه يقول إن الكلام الجميل لا يُنسى أبداً إذا رافقه فعلٌ حسنٌ". قال الحكيم الرابع بصوتٍ مرتفعٍ: "أنا يا مولايَ وحدي الذي يُتقنُ لغة الخروف. وهذا الخروف يقول كُنْ يا إنسان كالشمس التي تُعطي نورها، ولا تُطالب بثمنٍ". قال الحكيم الخامس بلهجة وقور: "الخروف يقول إن النار التي تُضيءُ وتدفئُ قادرة في الوقت نفسه على أن تحرق". قال الحكيم السادس بثقة: "رفاقي الأعزاء المبجَّلون لم ينجحوا في فهم ما يقولُه الخروف. الخروف يقول: "الغيمة في الشتاء أكبر من الصخرة، ولكن الغيمة تتلاشى. أما الصخرة فتبقى لأنها مُلتصقة بالأرض". وقال الحكيم السابع وهو ينظر الى رفاقه ساخراً: "الخروف ينادي ولده الصغير الضائع، واسمه ماع". أُعجب الملك بما سمعه، ولكنه تنبه لولدٍ صغيرٍ، كان يقف قريباً منه، ويضحكُ كمن يهزأُ بأقوال الحكماء السبعة. اغتاظ الملك، وقال للولد بصوت حانقٍ صارمٍ: "لماذا تضحك يا ولد؟! أتضحك لأنك لم تُعجَب بما قاله حُكمائي؟!". قال الولد: "ما قاله حكماؤك كلامٌ جميلٌ، ولكنه مخطئ". قال الملك، وقد ازداد غيظُهُ: "وهلْ تستطيع، أنت الصغير، أن تنبئني بالحقيقة التي تزعم أن حُكمائي السبعة عجزوا عن الوصول اليها؟!". قال الولد: "الحقيقة يا مولاي هي أن الخروف لا يقول: ماع ماع. إنه يقول: ماء ماء". قال الملك: "ماذا أسمع؟! أتحاول إقناعي أن الخروف عطشان فقط، ويطلب الماء؟!". هَمَّ الولدُ أن يُجاوب، غير أن الوزير قاطعه مُخاطباً الملك: "إني يا مولاي أقترح أن نُحضر ماء ونجعل الخروف يشربُ منه حتى الارتواء، وعندئذٍ تتضح الحقيقة، فإذا ظلّ الخروف يقول ماع ماع، فإن الولدَ كاذبٌ والحكماء هم الصادقون". قال الملك للوزير: "إقتراحك جدير بالعمل به، فهيَّا احضروا ماءً للخروف". فسارع أحد حرّاس الملك الى جلب وعاء مملوء بالماء، وقدّمه للخروف. شرب الخروف من الماء بنهم، ولما ارتوى ابتعد عن وعاء الماء، وهو يقول: "ماع ماع". تصايح الحكماء السبعة فرحين مزهوين بانتصارهم، بينما ظل الولد ساكتاً. قال الملك للولد: "أرأيت كيف أن كلامك هو المخطئ؟ فهيَّا ابتعد بسرعة والعب في مكان آخر، ولو لم أكن بحاجة الى تسلية لعاقبتك أقسى عقاب يُعلمك ألا تتدخل في شؤون الكبار". قال الولد: "ما زلت مصراً على أن ما قلتُه أنا هو الصدق وهو الحقيقة، فالخروف لا يقول: ماء ماء لأنه عطشان بل ليُنبِّه الناس الى أنّ الماء هو أعظم ما في الحياة، وإذا فُقِد هلَكَ كلُّ ما على سطح الأرض، والخروف يقول: ماء ماء، ليحرِّض أيضاً الناس على أن يستخدموا الماء دائماً الاستخدام النافع، فلا يُبَدِّدوه، لأن الماء هو الحياة". ساد الصمت، وفكّر الملك هُنيهات في ما سمعه، ثم تكلّم، فقال للولد برصانة: "ما قلته هو الصدق حقاً، فأنا ملك، وخزائني ملآنةٌ بالذهب، ولكنّي سأموت إذا لم أجد ماءً أشربُهُ". قال الحكيم الأولُ: "الأشجارُ أيضاً ستموت إذا لم يروِها الماءُ". وقال الحكيم الثاني: "ولن تنبت سنابل القمح والخضروات دون ماء". وقال الحكيم الثالث: "والعصافير ستموت إذا فُقِدَ الماء". وقال الوزير: "وحتى البيوت لن تُبنى دون الماء". وأراد الحكيم الرابع أن يتكلّم، ولكنّ الملك أشار بيده آمراً الجميع بالسكوت، ثم قال للولد وهو يربِّتُ على كتفه بيدٍ حانية: "كان لديَّ سبعةُ حكماء، والآن ازداد عددهم، وأضحوا ثمانية حكماء". قال الولد وهو يشير بسبَّابته الى الخروف: "وهذا الخروف هو بالتأكيد الحكيم الثامن". تجهّمَت وجوه الحكماء السبعة بينما ضحك الملك بمرحٍ وهو يشعرُ أن ملله قد زال. قال الملك: "فليكن الخروف حكيميَ الثامن". وتطلّع الى الحكماء السبعة العابسي الوجوه، وقال لهم: "لا داعيَ الى الاستياء.. أين حِكمتكُم؟! أليس الحكيم هو الذي يقول كلاماً بعيداً عن الخطأ، وينفع الناس؟". وأشار الملك بسبَّابته الى الخروف، وقال: "وهذا الخروف يستحقُّ بجدارة أن يكون حكيمي الثامن، لأنه نبَّهني على حقيقة مهمة كنت في السابق لا أكترث لها. كنت أظنُّ أن بلادنا فقيرةٌ، ولا تملك من الثروات ما يُغري أيَّ عدوٍّ بمهاجمتها، ولكني الآن أدركت أنها تملك أعظم ثروة وهي الماء، وأدركت أيضاً أنَّ على الجيش أن يظلَّ متأهِّباً على الحدود لحماية البلاد، وثروتها العظيمة الشأن". وسكت الملك لحظاتٍ، ثمَّ قال لحكمائه: "أليس ما أقوله صحيحاً؟". هزَّ الحكماء السبعة رؤوسهم موافقين. ولما عاد الملك الى قصره، أمر بكتابة ماجرى، وتعميمه على الناس كي لا ينسوا يوماً أهمية الماء. * الكتاب مع رسوم ملونة عن دار الحدائق