بقيادة خليلو 1 عاش خليلو في بغداد القديمة. كان ودوداً مع المشردين. يرأف بالحيوانات. يرعى الشيوخ. ويعتبر العرق، مع الجاجيك، دواء كل علة: يُسكّن ألم الأسنان، يشفي من الرشح، يبدد الصداع، كما يبهج القلب. 2 شح العرق يوماً ثم اختفى. جُن خليلو. صار حاداً، سريع الانفعال: - إذا هي الحياة لقمة يابسة، كيف تنعلس دون جرعة عرق؟ هذا ما أخذ يردده مع كل لقمة يبلعها بصعوبة. 3 مرت أسابيع وأزمة العرق مستمرة. بات خليلو يقضي لياليه ارقاً. تزايد تذمره وغدا عدواني المزاج، يضايق المارة، يتشاجر مع الجيران، يرجم بالحجارة القطط السوداء والكلاب السائبة... كذلك راح يشتم الحكومة: - حكومة جايفة.. حتى عرق ما عندها. 4 جلس يكرع شاياً اثر شاي في مقهاه المطل على ساحة الميدان. رأى تظاهرة تخرج فجأة من جهة شارع الرشيد تهتف بسقوط الحكومة. أصغى إلى الهتاف فأعجبه. قال بحنق: - لتسقط! وانضم إلى التظاهرة، ثم تصدرها، وبح صوته من الهتاف: تسقط، تسقط الحكومة، تسقط... 5 استدار المتظاهرون يميناً وتجمعوا عند باب مجلس الأمة. أطل من الشرفة ضابط نصحهم بالتفرق والعودة إلى البيوت. تصدوا له بالهتاف: - تسقط، تسقط، تسقط الحكومة. التمس ترشيح من يتفاوض معه ويلخص المطالب. وقع اختيارهم على خليلو... 6 سأله الضابط: - ماذا تريدون أخي... ما مطلبكم؟ جاوبه خليلو بصرامة: - عرق سيدي. ماكو عرق. ماذا نشرب؟ موّه الضابط علائم الدهشة بالسعال: - حقك والله يا عمي. لكن أتعهد لك بهذا الشارب راح نملأ بغداد كلها عرق من الغبشة. خذ ربعيتي عربون. ضعها تحت ابطك، تمضمض بها الليلة... ومن صبر ظفر. 7 رجع خليلو إلى المتظاهرين وأعلن: - تفرقوا يا جماعة. الحكومة وافقت على مطاليبنا. حكاية الأرنب والهوية الموحدة رجع الأرنب بعد غيبة طويلة. رأى كل شيء قد اختلف. الأشجار عارية من أوراقها. البحيرات والسواقي تحولت إلى برك صغيرة. البلابل تزقزق بصوت مبحوح... فحزن لذلك وسأل بعيراً صادفه جنب الرابية: - قلْ يا بعيري العزيز، ما الذي جرى لغابتنا الجميلة؟ همس البعير: - ش ش ش ش. تلفت الأرنب: - ماذا؟ - احترس. اخفض صوتك، ولا تنادني بأسمي. تلفت الأرنب مستغرباً: - لماذا؟ غمز البعير: - اخفض صوتك لئلا يسمعون. - من هم يا بعيري العزيز؟ - لا تنادني بأسمي أرجوك. - وممن أنت خائف؟ قال البعير من طرف خطمه الغليظ: - وضعوا على كل غصن غراباً يتجسس علينا. رفع الأرنب رأسه إلى الأشجار: - من؟ ألا توضح لي الموضوع يا بعيري العزيز. - كف عن مناداتي بالأسم. أنا لستُ بعيراً. - لستَ بعيراً؟ - اسمعت؟ أم انك أطرش؟ سأل الأرنب بدهشة: - ولماذا تزعم أنك لست بعيراً؟ - تعال خذ. اقرأ. قرأ الأرنب هوية البعير فضحك: - أنت خروف؟ ها ها ها. أنت؟ - صدقتني الآن؟ - هذا خطأ مطبعي. دعني أصححه. وقبل أن يعترض البعير حط على سنامه غراب ونعق: - قاق قاق قاق. فأحاط بالأرنب على الفور ثلاثة ضباع انيابهم من ماس، سألوه: - من أنت؟ - كما ترون. أرنب. - هويتك؟ أخرج الهوية. علق أحدهم: - عتيقة. هويتك عتيقة. غير نافذة المفعول في عهدنا الجديد. - ولكني أرنب على أية حال. - كيف تثبت لنا ذلك؟ قرر المقارعة بالحجة ذاتها: - وكيف تثبتون انكم ضباع؟ - نحن لسنا ضباعاً. - ما هذا؟ ستفقدوني العقل. البعير ليس بعيراً. أنتم لستم ضباعاً. أنا لست أرنباً. من نحن إذن؟ من أنا؟ - خروف. - أنا؟ خروف؟ أنا؟ - ونحن خراف كذلك. - أنتم؟ - هذه هوياتنا. أبرزوا هوياتهم وأوضحوا بصوت واحد: - القوانين التي سنها مجلس إدارة الغابة تعترف بما هو مكتوب في الهويات فقط. وقد ساوى مليكنا الأسد المفدى، سكان الغابة. فمنحهم هوية موحدة. الجميع هنا خراف. لا فضل لخروف على آخر إلا بالطاعة. احتج الأرنب: - انتظروا. ألا ترون فروتي الناعمة؟ - نراها. - من أين للخروف مثل هذه الفروة؟ - لا تتبجح. - انظروا كيف اتقافز وأركض. هل بوسع خروف أن يفعل ذلك؟ - كفى. أنت متهم بتزوير الهوية أيضاً. احتج ونط في مكانه مرات من الغيظ. قالوا: - إهدأ. دافع عن نفسك أمام مليكنا الأسد. فهو الذي يقرر إن كنت ارنباً أم خروفاً. امتثل لأوامرهم وقال في سره: - لا بد أن يكون الأسد أكثر حكمة من هذه الضباع الحمقاء. لعله سيفترسهم عقاباً على هذا الجهل المخزي. دفعوه إلى جوف عرين يحرسه قطيع خاص من الذئاب. شاهد حماراً ينهق بجذل وهو يلتهم الخضروات من صحون تحملها إليه قردة. تحسّر: - لَكَم هو محظوظ هذا الحمار. يا ليتني كنت حماراً. وحالما سمعته الذائب والضباع عوت باستنكار: - عووووووو. فز الأرنب وارتعش أنفه: - ماذا حصل؟ - اخرس. هذا أسدنا ملك الغابة المفدى. انتصبت اذناه حيرة، وصاح: - هذا حماااااار. - بل أسد. عاد ينط من الغيظ: هل سمعتم أسد ينهق؟ - لا تناقش قوانين الغابة. - انظروا إلى حوافره. - لا يعني هذا أي شيء. ما دام يحمل هوية أسد فهو أسد. ارتخت اذنا الأرنب من فرط اليأس والشك: - إذا كان الحمار ملك الغابة، فقد أكون خروفاً! استلم هوية خروف مع باقة جرار. خرج من العرين متجهم الملامح ومضى إلى بحيرة الضفادع. وقف عند ضفافها ساعات وهو يتأمل صورته معكوسة على صفحة الماء الآسن.