يتردد صدى رنين الهاتف على مساحات شاسعة في صحراء مديدة، ويتكرر الرنين مراراً فيما عين الكاميرا تمسح السهب الخالي الواسع. ثم يظهر على الشاشة وحيداً منفرداً على رأس رابية رمل لا يحوطها سوى خلاء ووحشة فاغرة، لكنه ممسك بهاتف خلوي من نوع جديد... ذلك هو "كائن الاتصال" الذي اختارت شركة "موتورولا" العملاقة أن تماهيه مع الصورة الاعلانية لهاتفها الجديد، حينها، "أيريديوم" Iridium، باكورة هواتف الأقمار الاصطناعيةSatellite Phone. وفي الاعلان الذي ظهر أولاً على شاشة "سي أن أن" قبل أن يكر على جمع من شاشات التلفزة في العالم، تحضر الصحراء للكناية عن الانفراد والوحشة في الأرض. ويبدو الخواء المهوّل ضرورياً لسحق عين المشاهد تمهيداً لاقتحام الحل "السحري" الذي تعد به إحدى أبرز الشركات العملاقة في ثورة الاتصالات، التي يكرّز السعداء بالعولمة أنها "وحّدت" العالم. وتبدو لغة العرب متلاعبة تماماً في حملها الوحدة على حديّ الاشتراك والاندماج من جهة، والانفراد والانقطاع عن كل صلة أو وصل من الجهة الأخرى. وما زال طريّاً في ذاكرة السياسة العربية ما أفضى اليه خطاب "الوحدة" ذو النبرة العالية المثقلة بالوعود، من تفكك وانفراط وتوزّع للعرب على كينونات منفصلة ومتباعدة. ويصعب عدم استحضار ظلال التناقضات القائمة في الاتصالات المعولمة، بين وعود الاتصال العميم ووقائع النزوع الى الانفراط والتوزّع، في اعتزام شركة "موتورولا" إنهاء مغامرتها في الاتصالات الفضائية، ووضع حد لهواتف "أيريديوم" التي ابتدأت "فورتها" في العام 1988، واعدة أن تكون هواتف الأقمار الاصطناعية الوسيلة الشائعة والشعبية للاتصالات في المستقبل. منافسة الشركات والتنازع مع الدول! عام 1988، تقبلت "موتورولا" الرؤية الثورية للاتصالات الفردية الفضائية التي صاغها المهندس الأميركي باري بيرتيغر، أنظر الى مربع "كرونولوجيا أيريديوم" الذي يستخدم الفضاء منصة لاتصال أي فرد ب"الآخر" في أي موقع على الأرض، وعلى نحو مباشر. وبعيداً من العثرات التقنية، واجه مشروع "أيريديوم" منافسة شرسة من عملاقة الاتصال والمعلوماتية من جهة، وتحفظاً متعدد المصادر من المؤسسات السياسية من جهة ثانية. والى منافسة مشروع "غلوبال ستار" Global Star، حيث المشاركة الأوروبية - الاميركية في الاتصالات، أظهرت شركات المعلوماتية اهتماماً خاصاً بالأقمار الاصطناعية واتصالاتها. وحتى قبل ظهور نظام "واب" WAP لتقديم خدمات الانترنت عبر الخلويات، بدا أن تطور شبكة الكومبيوتر يدفع بها صوب استخدام الأقمار الاصطناعية وسيلة لوصلها بأقنية التلفزة والهواتف الخلوية في آن. وشهد عام 1990 انطلاق ثلاثة مشاريع لاتصالات الانترنت عبر الأقمار الاصطناعية، أبرزها مشروع "تيلديزك" Teledesic الضخم الذي يرتكز على 288 قمراً اتصالياً تملأ الفضاء الخارجي للأرض. تصل كلفة "تيلديزك" الى 9 بلايين دولار، وتموله شركات المعلوماتية والأجهزة الخلوية، اضافة الى بعض المتمولين السعوديين، وتقود "موتورولا" بنفسها مشروعاً أكثر تواضعاً، هو "سيليستريا" Celestria، بينما تحاول أوروبا واليابان صوغ مشروع مشترك لاتصالات الانترنت الفضائية عبر نظام "سكاي بريدج" الذي تسهم فيه "ألكاتل" الفرنسية مع "شارب" و"ميتسوبيتشي" و"توشيبا" اليابانية. وتبدو صورة العقبات التي واجهها نظام "أيريديوم" أشد قسوة على المستوى السياسي. فعام 1965، وضمن الخطوات المبكرة لعولمة الاتصالات، برز نظام "أنتليسات" الذي رعته احدى عشرة دولة اوروبية وانبثق من مفاوضاتها في شأن السوق الأوروبية المشتركة. وأرخت "أنتليسات" قبضة حكومية صلدة على الاتصالات الفضائية، أسهم في عضدها تبلور المؤسسات السياسية للسوق الأوروبية المشتركة. ولم ترق السيطرة الحكومية لتكنوقراطيي "منظمة التجارة العالمية" فعملوا على تفكيكها لمصلحة الشركات العملاقة، وأفادت "موتورولا" ومنافسوها من هذا التراخي على حد واحد وسواء. ورأت المفوضية الأوروبية في مشروع "أيريديوم" خطراً مزدوجاً، فنظام الاتصال الفضائي يتجاوز الدولة كلاً، في كل أوجهها ومعطياتها، والفرد المتصل بالقمر الاصطناعي لا تطاوله قوانين الدول ولا تشريعاتها ولا سلطاتها ولا ضرائبها... الخ. وزاد في حساسية الدول الأوروبية لظلال "الإلغاء"، إحساسها بوجود قبضة اميركية في نظام "إيريديوم" في وقت زأرت أوروبا بقوة ضد نظام "أيشلون" الذي ترصد بواسطته أميركا كل الاتصالات في كل العالم. وهكذا، وضعت أكثر من دولة اوروبية عوائق في وجه "أيريديوم" متذرعة بمسائل شتى كمثل صعوبة تحصيل الضرائب وعدم وجود تشريعات مناسبة لحل المشكلات والمنازعات القضائية، في حال حصولها بين الأفراد ونظام "أيريديوم". وأسهمت منظمات حماية الحقوق الفردية ومناهضو العولمة في تشابك التعقيدات في وجه نظام "أيريديوم".