تشكل إتاحة الفرصة أمام نصف سكان الكرة الأرضية لمشاركة نصفها الآخر في الاستفادة من خدمات الاتصالات بأشكالها الأكثر تطوراً، وفي مقدمها "انترنت"، حلماً طوباوياً أو شطحة من شطحات الخيال العلمي، لكنه حلم يمثل الهدف التجاري لمشروع قطع شوطاً في مسار تحويله إلى واقع وحظي بدعم أشهر ثلاثة رجال أعمال وأضخم ثلاث شركات في العالم. يستند هدف المشروع إلى معطيات تشير إلى أنه على رغم اقتراب القرن العشرين من نهايته، لا يزال نحو نصف سكان المعمورة محروماً كلياً أو جزئياً من أبسط وسائل الاتصالات، وان احتمالات استفادة ملايين البشر من تقنيات الاتصالات المتطورة مثل الألياف الضوئية معدومة بسبب ما تتطلبه هذه التقنيات من استثمارات تحسب كلفتها بأرقام فلكية وتعتبر، خصوصاً في المناطق النائية، غير ذات جدوى اقتصادية. ولا تتوقف مشكلة التقنيات المتطورة عند الدول الفقيرة، وفي درجة أقل الدول النامية، إذ يفتقر أكثر بلدان العام تقدماً، خصوصاً الولاياتالمتحدة، إلى شبكات الألياف الضوئية خارج حدود مدنه الرئيسية ومراكزه التجارية، ما يشير إلى المبررات الاقتصادية التي جعلت القائمين على المشروع يوسعون هدفهم التجاري ليشمل كامل الكرة الأرضية. ويعود اطلاق المشروع إلى مبادرة من غريغ ماكاو، أحد رواد صناعة الهاتف الخليوي في الولاياتالمتحدة، واستثمار شخصي من بيل غيتس رئيس شركة "مايكروسوفت" بمبلغ 300 مليون دولار، وإشهار شركة ذات ملكية خاصة اطلق عليها الشريكان المؤسسان اسم "تيليه دي سيك" Teledesic ومقرها مدينة كيركلاند في ولاية واشنطن. وتأسست الشركة المذكورة مطلع التسعينات، إلا أن التطورات الحاسمة في مسار التنفيذ جاءت في الأشهر القليلة الماضية وأبرزها انضمام الشركات الثلاث الضخمة "موتورولا" و"بوينغ" و"ماترا ماركوني سبيس" كشركاء وقرار رجل الأعمال السعودي الأمير الوليد بن طلال استثمار 200 مليون دولار في المشروع. وكان الأمير الوليد قال في بيان صحافي عقب التوقيع على اتفاق المشاركة في لوس انجليس منتصف نيسان ابريل: "تحمست للمشروع ليس بسبب متانة مقوماته العملية ووجود حاجة ماسة إلى خدماته وحسب، بل لقدرته كذلك على تغيير العالم إلى الأفضل عن طريق توفير خدمات الاتصالات المتطورة لكل العالم، خصوصاً مناطق مثل الشرق الأوسط وافريقيا التي لن يمكنها الحصول على تقنيات السعات والسرعات العالية الموجة العريضة بوسيلة أخرى". ويقدر القائمون على المشروع حجم التمويل المطلوب بنحو تسعة بلايين دولار ما يشير إلى احتمال اتخاذ قرار في وقت لاحق للتحول إلى شركة مساهمة، ويعتقدون في الوقت نفسه أن نجاح المشروع يتوقف بحكم طبيعته وهدفه على ضمان مساهمة عالمية واسعة وهو ما حققته الشركة جزئياً بمشاركة الوليد وانضمام "ماترا ماركوني سبيس" الأوروبية في وقت سابق من السنة الجارية. وذكر روجر ناياس الناطق باسم الشركة في اتصال هاتفي معه من مونتريال ان اجمالي استثمارات المساهمين النقدية بلغت حتى نهاية تشرين الأول اكتوبر نحو بليون دولار، فضلاً عن مساهمة نقدية وعينية بمبلغ 750 مليون دولار من شركة "موتورولا"، لكنه قال إن التمويل ليس مشكلة بالنسبة لمشروع بحجم وطبيعة وهدف "تيليه ده سيك". لكن جانباً كبيراً من الإثارة في المشروع يكمن في حجم الجهد التقني اللازم لتنفيذه. إذ تخطط الشركة ل "ترصيع" الفضاء الخارجي بمئات الأقمار الاصطناعية التي سيتم تشغيلها دفعة واحدة ضمن شبكة لامركزية ثنائية التخاطب قادرة على استقبال وإعادة بث أنواع عدة من مواد الاتصال بإمكانات وسرعات عالية، وأطلقت على الشبكة اسم "انترنت في الفضاء". وعلى رغم ان اختيار اصطلاح "انترنت في الفضاء" يعود إلى التشابه بين الشبكة الفضائية وشبكة المعلومات العالمية، خصوصاً صفة اللامركزية، إلا أن توفير خدمات انترنت متطورة سيكون الغرض الأساسي للشبكة، ما انعكس على تصميم مكوناتها والأهم من ذلك تحديد مدارات وعدد الأقمار الاصطناعية المطلوبة لضمان تغطية دائمة لكامل الكرة الأرضية. وحسب أحدث المعطيات التي وفرتها الشركة ل "الحياة" يتضمن مشروع الشبكة الفضائية وضع 288 قمراً اصطناعياً صغيراً في مدارات تقع على ارتفاع 1375 كيلومتراً من سطح الأرض، وتتوزع الأقمار في 12 قطاعاً يحتوي كل منها على 24 قمراً، لكنها قادرة كلها على التخاطب مع بعضها بعضاً مع احتفاظ كل منها بشبه استقلال ذاتي، فلا تتأثر الشبكة بتعطل أي من مكوناتها. والمميز في هذه الأقمار أنها ستكون متحركة بالنسبة للكرة الأرضية على العكس من الأقمار التقليدية المستخدمة في إعادة البث التلفزيوني التي توضع في مدارات عالية جداً 36 ألف كلم لمعادلة حركتها مع حركة دوران الأرض كي تتمكن من تأمين تغطية دائمة لمنطقة محددة جغرافياً. وذكر راسل داغات، رئيس الشركة، أن اختيار المدارات المنخفضة يعود إلى ضرورة التخلص من ظاهرة تتناقض مع عمل التطبيقات التفاعلية، وهي ظاهرة الكمون، أي الفارق الزمني في ثنائية التخاطب عبر أقمار المدارات العالية الذي تقدر مدته بنحو نصف الثانية 40 في المئة من الثانية، وأشار أن خفض ارتفاع المدارات بنسبة واحد إلى 25 يقلل من فترة التأخير لدرجة تحييد آثارها السلبية على عمليات التخاطب بأنواعها. لكن التخلص من ظاهرة الكمون عن طريق خفض ارتفاع المدارات يستوجب الوفاء بمتطلبات باهظة الكلفة مثل استخدام أعداد كبيرة من الأقمار الاصطناعية التي قدر راسل كلفة الواحد منها بنحو 20 مليون دولار في حد أدنى، فضلاً عن التعامل مع تحديات فنية لا يستهان بها في مجال تأمين انسيابية حركة الأقمار في مداراتها والربط بينها من جهة والتخاطب بينها وبين المحطات الأرضية من جهة أخرى. ويعتقد المهتمون بصناعة الاتصالات ان "تيليه ده سيك" خطت خطوة هائلة في الاتجاه الصحيح، حين توصلت إلى اتفاق مع "موتورولا" لقيادة المشروع، خصوصاً ان الشركة المذكورة تمتلك خبرة واسعة في المجال المطلوب من خلال تنفيذ مشروع "ايريديوم" 66 قمراً اصطناعياً للخدمات الهاتفية وموافقتها على التخلي عن مشروعها الجديد "سيلستري" ودمج تصاميمه في مشروع انترنت الفضائية. وستقوم "موتورولا" التي يمتلك الوليد حصة من أسهمها، بالاشراف على إعداد التصاميم وبناء الأقمار الاصطناعية بصفتها المتعهد الأول، فيما يتوقع ان تقوم "بوينغ" بإعداد تصاميم البرامج الحاسبية واطلاق الأقمار التي ستساهم مجموعة "ماترا ماركوني سبيس" في بنائها. ولخص راسل دور الشركات الثلاث الضخمة في المشروع بالقول: "ما فعلناه ببساطة اننا جمعنا أفضل الأفكار المتوافرة لتيليه ده سيك وموتورولا وبوينغ وماترا ماركوني في إطار فريق صناعي من الطراز الأول مهمته بناء شبكة اتصالات فضائية عالمية تقدم خدمات اتصال بسرعة وسعة عاليتين وموازيتين لما توفره شبكات الألياف الضوئية على الأرض". وأشار إلى أن توفير الموجة العريضة سيتم عن طريق توزيع موجات الراديو دينامياً وإعادة استخدامها مرات عدة في حيز التغطية لكل قمر اصطناعي. وفي النتيجة سيكون في استطاعة الشبكة توفير خدمات اتصال ثنائية الاتجاه على مدار الساعة بسرعة 500 ميغابت في الثانية داخل كل حيز دائري طول نصف قطره 100 كلم. ولفت إلى ان الشركة تبنت مبدأ توفير الخدمة حسب الطلب بهدف اتاحة الفرصة أمام ملايين الزبائن للارتباط بالشبكة في وقت واحد وخفض رسوم الخدمة. ولا تخطط "تيليه ده سيك" للتعامل مباشرة مع المستهلك الفرد، إذ ستكون شبكتها مفتوحة أمام موفري الخدمة المحليين الذين يرتبطون بالشبكة عن طريق هوائيات صغيرة ومحطات أرضية بحجم الكومبيوتر النقال ومن ثم يقومون بتوزيع الخدمة على المشتركين، وسيكون هناك نوعان من الربط يتيح الأول استقبال مواد الاتصال بسرعة 64 ميغابت/ ثانية وارسالها بسرعة 2 ميغابت/ ثانية، فيما يتيح الثاني الاستقبال والبث بسرعة 64 ميغابت/ ثانية، ما يعتبر سرعات هائلة بالمقارنة مع أجهزة الربط التقليدية analog modems لكنها موازية للسرعات التي توفرها شبكات الألياف الضوئية. وترى الشركة ان خدماتها موجهة في المقام الأول إلى المناطق التي تفتقر إلى البنية التحتية في مجال الاتصالات مثل الجزء الأكبر من القارة الافريقية، إذ ستساهم في تسهيل إقامة الشبكات المحلية، وتأتي المناطق الأكثر تطوراً مثل الشرق الأوسط في المقام الثاني، وهنا ستساعد موفري الخدمة على تطوير خدماتهم وتوسيع مداها الجغرافي، ثم تليها المناطق النائية في الدول المتقدمة. ونفى مسؤولو الشركة احتمال قيام منافسة حادة بين مشروعهم وشركات الاتصالات العالمية التي تملك شبكات ضخمة من الألياف الضوئية، معربين عن اعتقادهم بأن الجانبين سيكملان بعضهما بعضاً. وحول آخر التطورات في مسار تنفيذ المشروع، ذكر الناطق باسم الشركة ان الشبكة دخلت مرحلة التصميم النهائية استعداداً لبدء الانتاج ووضع الأقمار الاصطناعية في مداراتها قبل بدء التشغيل الفعلي سنة 2003.