لو أن "كازنتزاكي" تناول شخصية "زوربا" مرة أخرى في إحدى رواياته اللاحقة، لفقد "زوربا" الأول سحره وقوته، وتحول من نموذج فني متميز، الى شخصية نمطية لا تثير أحداً. لكن "كازنتزاكي" - وهذا شأن المبدعين الكبار - سار على خطى سيد النمذجة الفنية عبر التاريخ الأدبي، وهو شكسبير... فهاملت لا يشبه مكبث، وهذان لا يشبهان الملك لير، وهؤلاء لا يشبهون عُطيل... وهكذا نجد أنفسنا أمام قافلة طويلة من النماذج الفنية عند مبدع واحد، لم يسمح لنموذج محدد أن يهيمن على عالمه. هذه هي حال المبدعين الحقيقيين الذين يتميزون بأكبر قدر من الأصالة، وهؤلاء كثيرون... فنحن لا نجد عند فلوبير سوى "ايما" واحدة، وليس لدى تولستوي سوى "آنا" واحدة، ولا نجد عند ديستويفسكي سوى "راسكولنيكوف" واحد، ولا نجد عند نجيب محفوظ سوى "أحمد عبدالجواد" واحد... وما يلفت النظر هنا، هو أن هؤلاء المبدعين - أكثرهم - يقومون بوضع حد لحيوات نماذجهم وكأنهم بذلك يحولون أنفسهم الى "طوارق" على ساحل الأندلس... بل إن "فلوبير" لم يكتف بقتل "إيما"، وإنما وضع حداً أيضاً لحياة شارل، حتى لا يدع لنفسه كروائي مجالاً للعودة الى ذلك العالم نفسه بالرموز ذاتها! لكن ما يحدث عربياً هو شيء مختلف تماماً... فما أن ينجح روائي ما في خلق نموذج فني يتعين صداه عند القارئ، حتى يصبح الروائي أسير نموذجه، وهكذا تنهال علينا الروايات لاحقاً بشخوص تبدو جديدة من خلال أسمائها وأشكالها، بينما هي في جوهرها مجرد صور رديئة للنموذج الأول. هذا لا يعني أنه لا يحق للروائي أن يستحضر نموذجه الأول في أعمال لاحقة، ولكن عليه في هذه الحال أن يُضيء لنا ما كان معتماً في الصيغة الأولى، تماماً كما فعل صنع الله ابراهيم مثلاً في نجمة اغسطس واللجنة، حين استكمل بدقة وأناة رسم نموذجه الأول في "تلك الرائحة"، ثم قام بعد ذلك بوضع حد لحياة ذاك النموذج، محرراً بذلك أعماله اللاحقة منه، وهذا ما نلمسه بوضوح في "ذات" و"شرف". ولا يقتصر الأمر على الرواية، بل ينسحب على الأنواع الفنية الأخرى، كالشعر والدراما والموسيقى... وفي محاولة لفهم الظاهرة، وفض أسرارها، فإننا ملزمون برؤية الطرف الآخر في العملية الإبداعية، وهو المتلقي الذي يمثل ذائقة جمالية جرت صياغتها على مدى عقود من السنوات... فإذا ما ترسخ عند المتلقي نموذج فني ما، فإن هذا النموذج يصبح أبدياً في الذائقة الجمالية، وعليه فإن المتلقي لن يكون معنياً بتجاوز الراهن الجمالي بل بتكريسه، ومطالبة الآخرين بإعادة إنتاجه، ومن هنا جاءت ظاهرة "الخلافة" في الفن... فترانا نلح دائماً على أم كلثوم أخرى وفيروز أخرى ونجيب محفوظ آخر، وغيرهم. على الطرف الآخر، فإن هذا الأمر يُغري الكاتب العربي الى حد كبير، فيقوده الى مستنقع الاستنساخ والمحاكاة الساذجة... استنتساخ نموذجه الأول ومحاكاته، مما يحول النموذج الفني الأصيل الى أنماط مسطحة في الأعمال اللاحقة، في عملية أشبه ما تكون بالتكاثر الأميبي!! ولكن... هل يعني هذا أن الذائقة الجمالية للمتلقي العربي تمنع المبدع من خيانة السائد والمألوف وتجاوزه؟ لو كان ذلك كذلك، لما استطاع أولئك الذين نحلم بتكرارهم أن ينقشوا أسماءهم، ويفرضوا نماذجهم التي لم يكن لدى المتلقي ما يشبهها من قبل... ولكن الأمر يتطلب مبدعاً حقيقياً يمتاز بالأصالة والصدق والجرأة، وأخيراً وقبل كل شيء: الثقة!!