ماذا جرى في كامب ديفيد فعلاً؟ هل فشلت القمة أم لم تفشل؟ وماذا يعني تجدد المفاوضات الانتقالية بين الفلسطينيين والاسرائيليين، واحتمال تجدد المفاوضات النهائية في كامب ديفيد أو في مكان آخر؟ وهل يعلن الفلسطينيون الدولة في 13 أيلول سبتمبر المقبل، أم ان الموعد قابل للتأجيل، ولماذا؟ هذه الأسئلة تشغل بال الجميع منذ انتهاء قمة كامب ديفيد. وفي محاولة للاجابة عنها، بأكبر قدر ممكن من الدقة، أجرت "الحياة" سلسلة اتصالات مع كثير من المعنيين بأمر المفاوضات، وتقدم الى قرائها خلاصتها، مسجلة بداية ثلاث حقائق: الأولى: ان قمة كامب ديفيد انعقدت على أساس اقتراح أميركي وافق عليه الطرفان المعنيان، ينص على أن "أي قضية لا تعتبر منتهية، إلا بعد الاتفاق على القضايا الأخرى العالقة". وهذا يعني أن أي قضية تناقش وتنتهي الى حل لا يمكن اعتبارها مقفلة أو اتفاقاً إلا بعد انجاز الاتفاق على كل القضايا الأخرى. الثانية: اتفق على أن تطلق صفة "تفاهمات" وليس اتفاق على المواقف التي يقدمها طرف ويوافق عليها الطرف الآخر. أي أنها لا ترقى الى مستوى الاتفاق الرسمي. الثالثة: ان الاتفاق لا يعتبر رسمياً وقانونياً إلا بعد تدوينه في صيغة معاهدة... وهذا ما لم يحصل في كامب ديفيد. ولكن ماذا عن درجة النجاح التي تحققت؟ وهناك أقوال وتصريحات أميركية تسندها تصريحات اسرائيلية وفلسطينية نبيل شعث، صائب عريقات، محمد دحلان، تتحدث عن درجة "عالية" من النجاح، تصل الى حدود الاتفاق على 80-90 في المئة من القضايا، ولكن لم تنجز بسبب الخلاف حول قضية وحيدة هي السيادة على القدسالشرقية. الواقع كما استقصته "الحياة" يشير الى ان هذا التصوير للأمر موقف أميركي، انتقل فوراً الى الاعلام الأميركي، وشارك في تسويقه كبار المسؤولين في الادارة وفي مقدمهم الرئيس بيل كلينتون ووزيرة خارجيته مادلين اولبرايت، لأسباب سياسية وأحياناً شخصية. السياسية تتعلق بصورة الرئيس الأميركي والحرص على القول ان مهمته لم تفشل، لما لذلك من أثر في موقف الحزب الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية الوشيكة. وتتعلق الأسباب الشخصية بالرغبة في تأمين فرص النجاح أمام هيلاري كلينتون الساعية الى مقعد في مجلس الشيوخ عن ولاية نيويورك. والمشاركة الفلسطينية في الحديث عن "التقدم" الذي حصل، والاستعداد لتجديد المفاوضات، هي موقف سياسي وقرار هدفهما عدم الظهور أمام العالم مظهر من لا يريد التفاوض، تجنباً لحملة اعلامية مضادة. واتسم تنفيذ هذا القرار بمبالغة في التصريحات كانت موضع نقاش في اجتماع للقيادة الفلسطينية أول من أمس في غزة بعد عودة الرئيس ياسر عرفات من جنوب افريقيا. وطُلب من أصحاب التصريحات، أن يخففوا ويقللوا من درجة التفاؤل. وعلمت "الحياة" ان عرفات بعث برسالة رسمية الى الرئيس كلينتون، أشار فيها الى التصريحات الأميركية التي تتحدث عن درجة متقدمة من الاتفاق والتفاهم حصلت في كامب ديفيد باستثناء مسألة القدس. وشرح في رسالته خطأ هذا التصوير للوضع لأن الاختلافات كانت كبيرة، وفي كل القضايا وليس في مسألة القدس فقط. وكان هدف الرسالة ان يسجل الرئيس الفلسطيني تحفظه رسمياً عن طريقة تقديم الأميركيين للنتائج. كما أنه ركز على الفجوة الكبيرة في قضايا التفاوض، اثناء جولته العربية والدولية، وتعمد أن يشرح ذلك لمستقبليه بالتفصيل. ومن المواقف الاعلامية الأميركية التي ازعجت الفلسطينيين خصوصاً، الموقف الذي أعلنه كلينتون ومفاده انه اتفق في كامب ديفيد على تعويض اليهود الذين هاجروا من البلاد العربية الى اسرائيل، بينما يؤكد الفلسطينيون ان ما حصل هو أن الأميركيين طرحوا هذه النقطة فرفضوا ادراجها في جدول الأعمال مبررين ان مناقشتها أمر يخص الحكومات العربية، وأن على الولاياتالمتحدة أن تناقشها معها إذا شاءت. ومن هذه المواقف أيضاً ما أعلنته اولبرايت في اسبانيا عندما قالت ان العرب يجب "ألا يتحدوا العالم"، مشيرة بذلك الى دعمهم الموقف الفلسطيني في قضية القدس. وردت مصادر فلسطينية: "ان هذا التصوير للأمر مغرض، فإذا لم يكن من حق العرب أن يتحدوا العالم، فلماذا يحق للعالم أن يتحدى العرب؟ ومن هو العالم بالنسبة الى اولبرايت؟ الاسرائيليون وحدهم؟ ألا تريد أن ترى غيرهم في هذه المشكلة؟". ويوضح مسؤولون فلسطينيون كبار جوهر المناقشات في القمة، فيلاحظون أن "نهجاً أميركياً فرض في المفاوضات، خلاصة الضجة ان الفلسطينيين ليسوا شعباً لديه مقدسات وثوابت ورأي عام، بل هم مجموعة من الناس لهم زعيم، وتحل المشكلة حين يوافق هذا الزعيم على ما يُطلب منه، ويكفي استخدام التهديد أو الاغراء للوصول معه الى هذه النتيجة. واعتقد الأميركيون ان وضع عرفات في حالة نفسية معينة، بعد خمسة عشر يوماً من العزل، ووصوله الى مرحلة من الضيق النفسي، يجعلانه مهيئاً للرضوخ للتهديد أو الاغراء. اي أنهم كانوا يتصرفون على قاعدة انهم يرسمون حلاً شخصياً لعرفات وليس للشعب الفلسطيني. وكثيراً ما قالوا له: اننا نعطيك دولة! وحتى حين صاغوا بعض الاقتراحات جاءت صياغتهم شخصية، فقالوا له سنعطيك مكتباً في القدس، ومكاناً لاستقبال زوارك. لكنه صمد أمام كل هذه الضغوط النفسية، ولم يقبل بالمنهج الشخصي في الحلول والاقتراحات، وكثيراً ما غضب ورفض بعنف ما اقترح عليه، وكرر لكلينتون أكثر من مرة: "هل تريد أن تسير في جنازتي؟". وذكر المسؤولون الفلسطينيون "ان عدداً لا بأس به من المفاوضين الأميركيين في كامب ديفيد، لا يعرف شؤون القدس إلا من خلال التقارير. حتى أن بعضهم كان يتحدث عن المسجد الأقصى مستخدماً اسم "جبل الهيكل"، وهو مقتنع بأن جوهر التصلب الفلسطيني في هذا الأمر هو منع اليهود من الصلاة عند جبل الهيكل! حتى أن أحدهم اقترح بخفة: لماذا تمنعونهم من الصلاة هناك: وجاءه الجواب: نحن موافقون على أن يصلوا في المسجد الأقصى، شرط أن تعلن الولاياتالمتحدة استعدادها لتحمل مسؤولية المذابح التي ستحدث في أكثر من مكان في العالم بسبب هذا الأمر. وحين استفسر المسؤول الأميركي عن سبب توقع المذابح، شرح له المفاوض الفلسطيني ماذا يعني المسجد الأقصى للمسلمين، فبادر الى الاعتذار وسحب الاقتراح!. وخلاصة ما يذهب اليه المسؤولون الفلسطينيون من هذه التوضيحات هي استحالة التوصل الى نتائج يمكن الاتفاق عليها في ضوء هذا النهج في ادارة المفاوضات. وساهم الاسرائيليون أيضاً في اشاعة المعلومات الخاطئة عما اتفق عليه في كامب ديفيد، ومن ذلك ما نشرته صحفهم من أن الفلسطينيين وافقوا على بقاء اسرائيل في شريط الغور الحدودي مع الأردن، وعلى مساحة من الأرض مقدارها 8 في المئة من الغور تستأجرها لمدة 12 عاماً، وتكون تحت السيادة الفلسطينية. في حين ان اجتماع "لجنة الأرض" في كامب ديفيد كاد أن يشهد "انفجاراً" حين طرحت هذه النقطة، اذ رفضها الوفد الفلسطيني بشدة. وأدى التوتر حولها الى تعليق عمل اللجنة. ولاحظ المفاوضون الفلسطينيون ان نظراءهم الاسرائيليين "اتبعوا خطة قول ما هو مرض ومقبول في الجلسة الأولى، ثم التنصل من ذلك لاحقاً بالقول ان الوفد الفلسطيني اخطأ الفهم... وهدفهم من ذلك ارباك مفاوضيهم وزعزعة صفوفهم فيميل بعضهم نحو التفاؤل ويحدث خلاف بين الأعضاء. وحين وقعت أكثر من حادثة من هذا النوع، طُلب من الجميع التفريق الجازم بين الكلام الاسرائيلي وما يكتب على الورق، فما يكتب هو ما يوافق عليه الاسرائيليون مهما أعلنوا من مواقف شفهية. وكذلك ضرورة الحرص على وضع بنود تضمن التطبيق بعد كتابة البنود، لأن الاسرائيليين كثيراً ما يتعهدون ولا ينفذون. وستكون هذه الأمور مهمة جداً اذا تجددت المفاوضات". وأكد المسؤولون الفلسطينيون ان المفاوضات كانت تدور عبر ثلاث قضايا شكلت لها ثلاث لجان هي: اولاً: لجنة القدس ورأسها ياسر عبدربه، وضمت صائب عريقات، يقابلهما مريدور وجلعاد شير. ثانياً: لجنة اللاجئين، ويرأسها محمود عباس أبو مازن وضمت نبيل شعث، وانضم اليهما لاحقاً أكرم هنيّة، يقابلهم الياكيم روبنشتاين وعوديد عيران. ثالثاً: لجنة الحدود والمستوطنات والأرض والأمن، ورأسها أحمد قريع أبو علاء وضمت محمد دحلان وحسن عصفور، يقابلهم أمنون شاحاك والجنرال شلومو يناي. وأوضح هؤلاء ان أقصى ما ذهب إليه الاسرائيليون في عروضهم للانسحاب من الضفة الغربية هو الانسحاب من 80 في المئة من الأرض، والاحتفاظ بالباقي ضماً أو استئجاراً. فهم طلبوا: ضم القدس 3 في المئة، وضم مناطق الاستيطان 9 في المئة، واستئجار منطقة الغور 8 في المئة، وحافظوا على فكرة الكانتونات وعزل الأراضي الفلسطينية عن كل الحدود العربية المجاورة. ويسعى الأميركيون حالياً الى تجديد المفاوضات في نهاية الشهر الجاري، أو في الاسبوع الأول من الشهر المقبل، لئلا يتمكن الفلسطينيون من البحث في اعلان الدولة في 13 أيلول لأن المفاوضات تكون في هذا التاريخ مستمرة. وفي هذا المجال يعتقد مراقبون أن السلطة الفلسطينية لا يمكنها الا أن تأخذ في الاعتبار المواقف الدولية والعربية عند تحديدها موعد اعلان الدولة. وهنا تلعب التهديدات الأميركية دورها، كما تلعب المواقف الأوروبية "المعتدلة" دوراً آخر. وقد سمع عرفات أكثر من رأي دولي خلاصته "ان الادارة الأميركية في وضعها الحالي ادارة مغادرة لا تستطيع انجاز أي أمر ايجابي ولن يسمح لها الكونغرس الا بالضغط على الفلسطينيين، ولذلك فإن توقيت اعلان الدولة في أيلول غير مناسب وقد ترد عليه واشنطن بخطوات مضادة". لذلك نصحت جهات دولية عرفات بدرس مسألة التوقيت جيداً فوعد بالنظر في الأمر.