على رغم الإطار التاريخي، والحقائق والمعلومات والأحداث والوقائع واعتماد شخصية الملك فاروق الملك السابق لمصر محوراً للعرض المسرحي "آخر همسة" المقدم حالياً على المسرح القومي تأليفاً وإخراجاً لهاني مطاوع، فإن ذلك لا يعني شيئاً على المستوى التاريخي أو السياسي أو الاجتماعي، فهو ليس أكثر من قناع للتجربة الفنية داخل العرض أو تحديداً للتجربة الأدائية. فالرجوع بالزمن إلى الوراء، واستدعاء شخصيات تاريخية وأحداث ووقائع سابقة ليسا حنيناً الى فترة زمنية سياسية مضت، ولا وقوفاً معها ولا وقوفاً ضدها أيضاً، بل هما يمثلان حنيناً إلى فترة زمنية فنية نضج فيها المخرج/ المؤلف على صوت اسمهان وليلى مراد وعشق مع سنوات الصبا أداء يوسف وهبي ونجيب الريحاني واسماعيل ياسين وبشارة واكيم. يبدأ العرض، أوائل الستينات، بعد قيام ثورة 23 تموز يوليو 23 عاماً وهو أيضاً أمر لا يعني شيئاً في العرض المسرحي أكثر من كونه فرصة لتقديم شخصية العمدة كشك بطربوشه القديم وخيالاته التقليدية ونمط تفكيره الساكن سنوات سابقة. وهو نفسه تنويع مسرحي على شخصية نجيب الريحاني الشهير في الاربعينات ل"كشكش بيه". إن ملابس العمدة وطربوشه وحركته وشخصيته تعلن منذ البداية الانفتاح على زمن سابق. يبدأ المشهد الأول حيث يعد العمدة أوراقه للسفر الى روما من أجل لقاء الملك فاروق طمعاً في الحصول على توقيعه على صك البهوية الذي سبق أن قام العمدة بدفع قيمته المالية الى جراح الملك. وفي روما يلتقي العمدة مخلص البحيري وصديقه المصري افندي سامي عبدالحليم وهو أيضاًَ شخصية مستعارة من الشخصية الكاريكاتيرية الشهيرة في الصحافة المصرية في الأربعينات والخمسينات، يلتقيان كلاهما بالملك فاروق في أحد ملاهي روما بتدبير من نادل الملهى وبظهور فاروق نتأرجح طوال العرض بين الحقيقة والخيال، ولا نعرف تماماً إن كنا أمام شخصية الملك أم أمام ممثل يعيش دور الملك! هل الممثل يؤدي في العرض دوره المباشر أم يرتدى قناعاً. يخرج هشام عبدالحميد الذي يلعب دورر فاروق من الشخصية أو تحديداً يتقمص داخل شخصية فاروق شخصيات أخرى: في لحظات يكون هاملت وفي لحظات أخرى عطيل بمفردات النص الشكسبيري وأداء مسرحي يعيدنا الى مسرح جورج أبيض ويوسف وهبي. يرتدي الممثل هنا أكثر من قناع، قناع الشخصية، وقناع "هاملت" أو "عطيل" وقناع "الممثل" حتى تحولات أداء، وخصوصاً أن المخرج يستخدم الغروتسك أي المبالغة في الأداء والكاريكاتيرية والخروج على كل الأنماط التقليدية، وهو نوع من السخرية يؤكد تلك الحال الفانتازية بالعرض. ومثلما يبالغ المخرج في استخدام تقنية "المسرح داخل المسرح" يبالغ في استخدام الغروتسك، فيسخر من كل شيء من الأحداث الوطنية بالدرجة نفسها التي يسخر فيها من الأحداث غير الوطنية والشخصيات السلبية. يسخر من "رأفت الهجان" مثلما يسخر من الشخصية اليهودية أو من شخصية "فاروق" أو "كاميليا". كل شيء قابل للانتقاد والمبالغة من دون مبرر أو منطق متماسك أو رؤية عميقة. هكذا بدا النص المسرحي مرتبكاً ومشوشاً. فالمؤلف المخرج هاني مطاوع لا تشغله كثيراً القضايا الكبرى فكرية كانت أو سياسية، ولا يشغله سؤال الجدوى. أنه شأنه في معظم أعماله المسرحية: ليس حريصاً على إعلان موقف أو طرح أفكار عميقة، أنه مشغول فقط بممارسة الفن، بإطلاق الخيال، وكأن الفن قناع أو شكل من أشكال الخلاص والانعتاق من سؤال الواقع أو أية اسئلة أخرى وجودية أو مصيرية. ولعل القراءة الأخلاقية في كل صورها التقليدية المحافظة، هي أحد هواجس هاني مطاوع المولع بكسر الأطر والانطلاق بخيالاته بعيداً، مثلما سبق أن قدم العام الماضي ايضاً على المسرح القومي مسرحية "يا مسافر وحدك" تأليفاً وإخراجاً ليقول فقط "إن العمل الطيب هو كل ما يتبقى للإنسان في الآخرة" فإن آخر همسة يهمس بها في أذن فاروق قبيل وفاته هي العظة الأخلاقية المباشرة التي يلقنه إياها المصري افندي حول أهمية الأم ومحبتها! ولأن هاني مطاوع المؤلف يكتب لحساب نفسه كمخرج فقد صاغ نصه المسرحي في بنية مركبة تقوم على الازدواجية ليسمح لنفسه بحرية اطلاق الخيال من خلال المسرح داخل المسرح والتي بالغ في استخدامها الى حد التداخلات المربكة والمرتبكة أيضاً. ففي لحظة يتحول فاروق إلى متفرج يجلس على مقعد أقصى شمال المسرح ليشاهد فيلماً سينمائياً يصور أحداث حياته. ومرة أخرى يعترض على الممثل الذي يلعب دوره في الفيلم، ثم يقوم هو نفسه بتمثيل شخصيته داخل الفيلم، مثلما سبق أن شارك في مشاهد أخرى في المسرحية في استعراض كلام جميل على مسرح أحد الملاهي في روما. كل ذلك من دون منطق. فلماذا يرقص فاروق في الملاهي الايطالية ولماذا يشارك في الاستعراضات؟ كيف تحول المتسولون في شوارع روما في الصباح الى أعضاء فرقة راقصة في المساء؟ اسئلة لا معنى لها أو لا إجابة لها فما يشغل المخرج فقط هو حضور الاستعراض والتمثيل وغناء ليلى مراد. طوال العرض المسرحي يتأرجح فاروق بين "الشخصية" و"الدور" بين "الحقيقة" و"الخيال" وكأن اللعبة لعبة المرايا بما تتيحه من حرية وقدرة على تغريب الحدث وإتاحة الفرصة للمتفرج للتأمل وطرح السؤال وكسر أشكال التلقي التقليدية القائمة على الايهام والتقمص. لكن الخيال الجامح والتجربة الفنية لم تفسدها تلك البنية التركيبية بقدر ما أفسدتها سطحية التناول وذلك الانفصال وانقطاع الصلة بالموضوع فبدت معلقة في الهواء. هكذا بدت مفتعلة كل محاولة للربط بين شخصية الملك فاروق وشخصية "هاملت" أو "عطيل" أو "كاليغولا" حيث اختفت اسئلة الوجود وأطل فاروق طوال العرض المسرحي كشخصية تمثيلية، حضورها الملموس هو حجم حضور "الدور" و"التمثيل"، بينما قوامها الفكري والدرامي هش غير متماسك، لا تعذبه الاسئلة ولا تعصف به الظنون كهاملت أو كاليغولا. وظلت تلك المقابلات محض صور متخيلة في عقل المؤلف المخرج بعيداً عن النص والواقع. ولأن التجربة الفنية هي جزء من بنية فكرية ودرامية واضحة وعميقة، فقد انكشف العرض فنياً حتى فقد رؤيته الفكرية والدرامية. وعلى رغم تلك الحال الفانتازية باعتمادها الجوهري للخيال وكسر نمطية الفرجة في ما يسمح بتقديم عرض مبصر على مستوى الصورة والفرجة البصرية فقد بدا الأمر فقيراً في تصميم الملابس وألوانها على رغم الميزانية الضخمة للمسرحية والفترة الزمنية تاريخياً وفنياً التي تمنح الفرصة كاملة لابتكارات جمالية مبهرة، وظلت الأسئلة الفنية المطروحة ساذجة فلا معنى عميقاً وراء التداخل المتكرر لمسرحية داخل مسرحية، ولا معنى عميقاً للتمايز بين الشخصية والدور سوى في اتاحة الفرصة للمثلين في تأكيد إمكاناتهم، وخصوصاً هشام عبدالحميد في دور فاروق الذي تنوع أداؤه من كلاسيكية إلى واقعية إلى ايماء مايم وبانتومايم ومخلص بحيري الذي كسر نمطية الشخصية في "العمدة كشك" ومنحها كثافة إنسانية.