باعتقاد مخرج مسرحية "الزنوج" الفنان العراقي ناجي عبدالأمير فان جان جينيه يقف في مستوى قد يبعده عن تصنيفه كأحد اركان المسرح الطليعي الى جانب يونيسكو وأداموف وإدوار إلبي وجورج شحادة. وهناك قضيتان: الأولى سياسية وهي ان جان جينيه يلتقي مع إدوار إلبي حول مفهوم المثقف اليساري الأوروبي. والثانية على مستوى اللغة فهو لا يلتقي مع يونيسكو حتى في مشروع اللاجدوى كمشروع فلسفي، وكذلك لا يلتقي مع بيكيت. من هنا بالامكان تبيان فضاء مسرح جان جينيه المغاير والمشاكس لسياق النص السائد في المسرح الأوروبي المعاصر وذلك من خلال نقاط عدة نلحظها بشكل أساسي في "المبنى" فهو متطور جداً قد يصل الى حد السحر، اضافة الى منظومة سردية خاصة يعتمد من خلالها نظام التداخل، وأكثر من شكل أو اسلوب او هوية، كلها تتقابل وتتداخل لتشكل اطاراً لحدثه الدرامي. لذلك نجد في نصوصه أطياف المسرح الافريقي، ومسرح العرائس، والدمى، وخيال الظل، والحكواتي... وما الى ذلك. ومن ناحية البناء الحكائي فإنه لا يشكل اهمية تذكر، اذ يوجد في النص اكثر من مستوى للمسرحية، فهي معقدة جداً لا تتحقق ضمن المفاهيم الارسطوية حكاية ذات بداية وذروة ونهاية. بينما في المسرح الطليق قد نجد داخل النسيج العبثي متناً حكائياً متحققاً في متن "الانتظار". كذلك فان المفاهيم عند جان جينيه مطلقة تصل احياناً الى حد التجريد، فهو وريث حقيقي لأسلوب آرتو في المسرح صناعة طقوس وعبادات جديدة للمسرح. وفوق هذا كله يعتمد شيئاً غير متوافر اساساً في المسرح الطليعي في ما يتعلق بكيميائيات اللغة وتعقيداتها داخل السرد على رغم اعتبار الطليعيين اللغة أداة غير تواصلية لا تقود الى معنى وبالتالي فهي تمثل عنصراً مؤزماً داخل بنية النص المسرحي. عند جان جينيه اللغة تأخذ منحى آخر، فهي لغة داخلية تعتمد على المونولوج ليصل الى المستوى الذي وصل اليه شكسبير ولكن بطريقة اخرى من حيث شاعريتها وأدبيتها العالية جداً التي تجعلها تختلف كثيراً عن الصناعة المعتمدة في المسرح التداولي اليومي الذي يريد ان يصل الى نتيجة. وفي "الزنوج" تتحقق معادلة تعرية الشخصية من الداخل وتحطيم الآخر، اضافة الى ذلك تحقق المونولوغ. والتعرية والتدمير هنا ليسا قائمين على تدمير انساني وإنما تدمير استلاب الانسان وضعفه وتهاونه الديالوغ يتراجع لحساب المونولوغ ويصبح المونولوغ ديالوغاً بحد ذاته. الشخصيات التي قام بأدوارها كل من رائفة أحمد وماجدة نيقولا وجهينة خربطلي وياسر عبداللطيف وحسان الصالح وفاروق صبري وطالب عزيزي والفاتح اتيم وعمار رضوان هي ضحايا تختلف كثيراً عن ضحايا كامو. ضحايا تحاول ان تستسلم وهدفها الوحيد ان تجد لها جلاداً، ليس بمعنى احترامه بقدر ما هي عاجزة عن التصدي له. وهو هنا لا يضحي ولا يصنع نتائج، وهذا ما نلحظه ايضاً في بقية اعماله مثل "الخادمات" و"رقابة مشددة"... وغيرهما. ما يلفت في نصه انسانيته، وصيغة مشروعه الانساني وقضية تحرر الشعوب، والقضايا الاكثر مصيرية، لكن بأشكال اكثر حداثة وبتقنيات اكثر تطوراً، ومرجعيات معرفية واجتماعية بعيداً عن الاستهلاك المسرحي وعرض الشعارات. المخرج ناجي عبدالأمير اعتمد الحوار واستطاع ان يقدم عملاً له ايضاً مرجعياته الخاصة، اذ انفتح المشهد واشترك الجميع فيه. فليست هناك بؤرة مركزية، بل اكثر من بؤرة تشترك عضوياً في تقديم شخصية المشهد. والعرض يعتمد بشكل كلي على مبدأ ارتجال الممثل، ناهيك عن ان النص مشحون بلغة متوترة تفوق التوتر العادي في المسرح، اضافة الى علاقات النص غير التقليدية. فجميع الشخصيات وهمية، وهي مغرمة بلعبة المرايا داخل المسرح. المشهد مفتوح، كذلك اللغة، وكل ما يحدث مفترض. بالنسبة الى معالجة النص، فقد اعتمد المخرج معالجة مختلفة تماماً اذ لم يقدم العرض بطريقة الفرجة المسرحية السائدة على رغم اعتماده على اكثر عنصر من عناصر الفرجة الاقنعة، الدمى، وما الى ذلك ولكن بأسلوب درامي مختلف متماسك يصل في لحظة الى مستوى التنفيذ الكلاسيكي في بعض المشاهد خوفاً من انزلاق الممثلين في كثير من الارتجالات. في "الزنوج" لا يوجد مسبق او نظرية تحكم العمل تحديداً في طريقة استخدام الديكور والقطع الثابتة الكبيرة، وإنما تم استخدام عناصر دلالية ومفردات قابلة للانتاج ساعدت الممثل واشتركت معه في عملية تطوير الحدث ونمو المشهد درامياً وفنياً، الى الاعتماد على عناصر تعبيرية لا تصل الى حد وسائل الايضاح في المسرح. وثمة اعتماد كلي على مبدأ استنفار طاقات الممثل وشحن ذاكرته معرفياً وجمالياً وحركياً في عملية تأسيس وإنشاء المشهد. تأتي تجربة ناجي عبدالأمير هذه بعد سلسلة من العروض المسرحية التي قام بإخراجها وتنفيذها هاملت، مكبث، يوليوس قيصر، عطيل، الملك لير، الخادمات وتمت في بغداد. اما في سورية فقد اخرج "سرير ديزدمونة" و"هاملت بلا هاملت" والاخيرة "الزنوج".