تبدو الشاعرة العراقية أمل الجبوري في مجموعتها الشعرية الثالثة "لك هذا الجسد لا خوف علي" دار الساقي، لندن 2000. وكأنها تقطع الصلة بعمليها السابقين وخصوصاً مجموعتها الأولى "خمر الجراح" التي صدرت قبل حوالى عقد ونصف. ففي تلك الحقبة كانت لغة الجبوري رومنطيقية، متعثرة وأقرب الى الإنشاء والبوح منها الى الشعر الحقيقي. غير أن الشاعرة عرفت بعد ذلك كيف تعثر على سر الشعر وكنزه الخبيء وهو ما يتجلى خصوصاً في مجموعتها الأخيرة التي تفصح عن مقاربة جديدة للكتابة قوامها التأمل والكشف وامتحان اللغة. صحيح أن السنوات الأربع عشرة التي تفصل بين الكتابين الأول والثالث ليست فترة قليلة في حساب الزمن ولكن الصحيح أيضاً أن قلة من الشعراء هم الذين يستطيعون إحراز النقلة النوعية التي أحرزتها الجبوري وتمكنت خلالها من إصابة "كبد الحقيقة الفنية"، كما يعبر لوركا. فثمة شعراء لا ينفكون عن تكرار عملهم الأول والتنويع عليه ولو أنهم لا يعترفون بهذه الحقيقة أمام الملأ. وثمة آخرون يصابون منذ بداياتهم بتصلب الشرايين وخمود اللهب وفتور العصب الذي يتغذى منه الشعر. لا تبدو أمل الجبوري من بين هؤلاء. بل تكشف عن نضج شديد الصلة بالتجربة المعيشة وعن قدرة فائقة على المواءمة بين الحياة وبين أساطيرها المنقضية وتجلياتها الطوطمية الأم في الميثولوجيا والتاريخ. هذه النقلة المفاجئة والصادمة يحاول مترجمها الى الإنكليزية هربرت ميسن أن يردها الى نوع من الانخطاف الصوفي الذي حل في الشاعرة إثر ترجمتها لمسرحية "موت الحلاج". وقد يكون ذلك صحيحاً في بعض وجوهه، خاصة حين ندرك أن الكثير من الشعراء يشفون بصعوبة من تأثير الأعمال الإبداعية المميزة التي يتولون ترجمتها من لغة الى لغة. ولكن الصحيح أيضاً أن الكتاب الجديد لم يكن ليكون ما هو عليه لولا تضافر عاملين إضافيين: يتمثل أولهما في التجربة الحياتية الثرية والمرة لأمل الجبوري التي آثرت مقارعة الحياة ومنازلتها على حافة الهاوية بدلاً من الانسحاب والتواري والهروب من المواجهة. أما الثاني فيتمثل في محنة وطنها العراق الذي أثخنه الفقر والمرض والموت ولم يعد يتسع لضحكة أو حلم أو جناح قصيدة. الأمر الذي دفع بالشاعرة الى المنفى وجعلها تختار من بين الجحيمين ذلك الذي يمكِّنها على الأقل من رؤية الوطن عن بعد والإنصات الى رجع نداءاته البعيدة. إن أهم ما فعلته أمل الجبوري في "لك هذا الجسد لا خوف علي" هو القدرة على التحليق فوق الألم الفردي وعقد قران ناجح بالتالي بين الذات المهددة والوطن المهدد وبين حضيض الواقع وبهاء الأسطورة. غير أن الشاعرة لم تكتف باستحضار "انحدوانا" شاعرة العراق القديم وابنة سرجون الأكدي والكاهنة العليا لأور وأوروك بل استحضرت معها الوجه الأسطوري لانانار عشتا، ربة الحب والخصب والحرب لدى البابليين والسومريين إضافة الى نيتي، كبير حجاب العالم السفلي، وننشوبار، تابع عشتار، وجلجامش وأنكيدو، بطلي الملحمة الشهيرة، وأم الحياة لدى المصريين، إضافة الى النفري والحلاج وابن عربي وغوته. ثمة حشد من الأساطير والأسماء تغص به صفحات المجموعة، القليلة نسبياً، ويتحول لدى الشاعرة الى غابة من الأقنعة المتشابكة الدلالات والمفتوحة على التأويل والرمز والقراءات المتعددة. كأن الشاعرة لم تجد أمامها منفذاً للهروب من واقع العراق والحياة المدمرين سوى تقمص تلك الحيوات والرؤى والكائنات التي تمكنها من الاحتماء بالماضي والتحصن بالمتخيل الجمعي. أليست هذه الحالة نوعاً من النكوص النفسي والجسدي الذي يحاول الاستجارة بسرير الطفولة الأول وهز تلك الشجرة الأزلية التي لا يطالها الفساد؟ وإذا كان الشعر في بعض وجوهه هو استعادة رمزية للينابيع المفقودة والطفولات الضائعة وبحث دؤوب عن البداهة التي تختبئ وراء صدأ الذهن وبرودته السقيمة فإن الجبوري تترجم ذلك المفهوم عبر الرحيل الى الوراء حيث تزول الفواصل بين العقل والأسطورة، بين ما هو مرئي وما هو اختراع الخيال. وهي بذلك تعلن احتجاجها على فساد الواقع المحيط بها واهترائه وعقمه. إلا أن هذا الاحتجاج لا يأخذ أبعاداً ايديولوجية أو دعوية سافرة بل يتحول الى ضراعة أو اتحاد بالألم أو نشيج مكتوم. لم تحاول أمل الجبوري خلافاً للكثير من الشعراء العراقيين والعرب المنفيين أن تتكئ على عدالة القضية التي تحملها أو أن تجعل من هذه القضية رافعة للرداءة والقول السهل أو أن تحول الكتابة الى نوع من التسول الوجداني والعاطفي واستدرار شفقة الآخرين بل هي في تقمصها شخصيات الأسطورة السومرية والبابلية إنما تقرع بقوة آذان العالم وتفتح عيونه على ما تزخر به بلاد الرافدين من قيم وعطاءات وثقافة باهرة. ومع ذلك فإن احتشاد المجموعة بالرموز والاستشهادات والتضمينات المختلفة لا يوقعها في الافتعال أو التركيب أو الاستعراض المحض كما حدث لشعراء آخرين لأن الشاعرة باستخدامها لضمير المتكلم وتماهيها الكامل مع الأصوات الأخرى تشيع في النصوص الكثير من الحرارة والصدق اللازمين لكل تعبير أدبي أو شعري. حتى أننا نستطيع قراءة نصوص الجبوري بمعزل عن الاستشهادات والرموز المستخدمة من دون أن تخسر هذه النصوص صدقيتها وتأثيرها في النفوس. فنحن نقرأ في قصيدة "الغريبة" على سبيل المثال "لا/لا ترفعني الى روحك/ سأذوب في الأباطيل هناك/ ونائحتي أني لا أسيء إليك/ حينما آتيك ويدي خاوية/ إلا من قلب يبكي على بابل كالقصب../ أصرخ فيك/ لكنك ستعيدني الى الموت/ وتطاردني في الخراب الغريب". مثل تلك الضراعة الولهى التي تحالف الموت وتواجهه في آن نستطيع أن نقرأها من خلال ملحمة جلجامش التي تستهل الجبوري القصيدة بمقطع منها أو أن نقرأها مستقلة تماماً عن الأسطورة وبمعزل عنها. فاللغة هنا تبني أسطورتها من الداخل وتخلف وراءها أصداء قابلة للتأويل والتفاسير المتعددة من دون أن تتخلى عن تدفقها العاطفي ولهاثها الحار. تشيع في المجموعة سحابة من الحزن والشجن العراقيين. صحيح أنها لا تذهب بعيداً في الكربلائية والتفجع لكنها تسحب نفسها على معظم القصائد من خلال إحساس عارم بفساد الأشياء وتلف الأمكنة وهزيمة الحب. كأن الشاعرة تحاول الإثبات أن روح الشرق نفسها هي روح متصلة بالمأساة والعذاب والطغيان بقدر ما هي عراك مع الموت بشروط ظالمة وشديدة الاختلال. هذه النظرة تعكس نفسها حيناً على شكل نزوع حكمي شبيه بالتعاليم أو الوصايا: "فكل وداع إن لم يكن من جسد مقموع/ لا يكون ذنباً يستحق النبوءة/ وكل عشق إن لم يكن بوابة للجحيم/ لا يكون جنوناً/ يكون مجرة في فضاء مخلوع/ وعرشاً في حضن طاغية/ ونصراً من أبطال مهزومين". وتعكس نفسها حيناً آخر على شكل مقارنة مشوبة بالمرارة بين رحابة الغرب واستبداد الشرق متخذة من الحوار المتخيل بين أنخدوانا وغوته ذريعة لما تريد تبيانه والإفصاح عنه: "جارحة أنا أيها الغرب/ لكن لا رهبانية في قلبي/ غير أني كاهنة الوجع العظيم/ أجر بلادك من أردان الكلام../ كلانا يمشي على الحبل ذاته/ لكننا نفترق صوب هاويتين". هكذا لا يؤدي اختلاف المقدمات الى اختلاف النتائج، بحسب الشاعرة. فكلاهما الحرية الفائضة والاستبداد الفائض يوصلان الى الهاوية ذاتها ويشرعان الأبواب أمام العبث والفراغ واللاجدوى. نتأكد من خلال مجموعة أمل الجبوري الأخيرة من الدور الذي يزعمه الشعر لنفسه بوصفه المنقذ والمخلص في خضم الكارثة. فعلى رغم أن العالم المحيط بأمل الجبوري يكاد يكون بلا منافذ ولا شرفات إلا أنها اللغة تتقدم لقلب المعادلة وتحويل هذا الجحيم الى فردوس حقيقي من الرؤى والأطياف والتعابير. صحيح أنه "لم تبق هناك عين لتبكي على الأموات" وأن كل شيء آيل للسقوط، كما تعبر الشاعرة، ولكن الشعر نفسه يتحول الى عين قادرة لا على البكاء فحسب بل على انتزاع اللذة من أحشاء الألم وعلى استبدال الحياة باللغة وفساد الواقع بجمالية المجاز ورحابة المتخيل.