تعد الأسطورة (Mythe) مظهرًا من مظاهر التجديد في التجربة العربية عمومًا، لكننا حين ننظر للتجربة السعودية نرى أن التعامل مع الأسطورة يعد هامشيًّا، ولا نجد تعاطيًا واعيًا مع الأسطورة كالذي نجده عند أرباب التجديد كالسياب والبياتي، فالأسطورة لدينا تعد في الغالب مسخًا وسعيًا محمومًا للحضور بعيدًا عن قيمية التفعيل. ولعل شاعرًا سعوديًّا لم يكثر من أسطرة نصوصه مثل ما فعل محمد الثبيتي –عافاه الله -؛ فديوانه (تضاريس) مثلاً تسيطر عليه لغة يصدق عليها ما قاله علي البطل في حديث عن تجربته “إن استراتيجية التعبير الإبداعي في النص الحديث هي نفسها استراتيجية التعبير الطقوسي في لغة الأساطير القديمة” (1) يقول الثبيتي في (ترتيلة البدء): جئت عرّافًا لهذا الرمل أستقصي احتمالات السواد جئت أبتاع: أساطير ووقتًا ورماد بين عيني وبين السبت طقس ومدينة خدر ينساب من ثدي السفينة هذه أولى القراءات وهذا ورق التين يبوح قل: هو الرعد يعري جسد الموت ويستثني تضاريس الخصوبة (2) إن الشاعر هنا يستخدم لغة محملة بروح الأسطورة لكنه يتوقف عند نقطة البدء على الرغم من تفتق مفردات كان يمكن أن تحرك التجربة في آماد بعيدة مثل (عرّافًا، الرمل، أساطير، رماد، خصوبة..) إن تفعيل استخدام الأسطورة لا ينمّ في عمومه عن وعي بالأساطير وطرائق توظيفها، حتى لنرى الشاعر السعودي يستخدم اسم الأسطورة دون أن تجد تفعيلاً للأساطير في ثنايا النص، كما تجد عند إبراهيم الوزّان في نصه (أسطورة الكأس) ومنه يقول: من أساطيرها والزمن حينما تغرق الشمس في سرها حينما ينزف البدر في إثرها حينما يصرع اللب جور المنى كأس أسطورة قد رنا وامتطى (3) وتأتى محاولات لتوظيف بعض الأساطير داخل النصوص من مثل ما نجد عند إبراهيم طالع من شخصية وضّاح اليمن ومحاولته الإفادة منها في نص يحمل عنوان (هجرة وضاح)، يقول: مات وضّاح شهيدا ... يا حمى الصرح الممرد.. وأتت بلقيس ترفو الخيلاء. وتعير الشمس شمسا.. .... اختفى وضّاح يوم المولد كان مشغولاً ب(قانا) والغد لم يعد يرهب جنا أو يرى ما توارى في جدار المعبد (4) وظاهر أن الشاعر هنا مستوعب أحداث القصة ويحاول أن يربطها بالواقع المعاصر، وأيما كانت سيرة وضّاح من التاريخ أو من الأساطير فقد اكتسبت روح الأسطورة في تجاذباتها المختلفة لدى الشعراء المعاصرين، والشاعر هنا يحاول أن يفعلها في التكوين الشعري. ويحاول جاسم الصحيح توظيف أسطورة (شهريار) حين يقول: ومر على (ألف ليلتنا ) ألف حزن وما انفك بين جوانحنا صامتًا (شهريار) تعربد في طينه شهوة ضاق عنها الإزار غفرنا سكوتك يا ملك الليل.. ليس بوسع اللغات إذا اندحرت أن تجيد الحوار (5) ويحاول بعض شعرائنا أن يصنع أساطيره الخاصة؛ فعبدالله الصيخان أراد أن يصنع من (فضة) رمزًا خاصًا أو يصنع منها أسطورة في قصيدته (فضة تتعلم الرسم) حيث يقول: تسألني عن أبي كان نهرًا من الضوء والأسئلة كان يعشق طين الجزيرة حتى البكاء ويروي عن الموجة المقبلة ... فضة الآن ترسم أسرارها في ذراعي وتقضم تفاحة للضحك. آه ما أملحك آه ما أملحك (6) الشاعر السعودي بعامة أولى استخدام الرموز عنايته (7) بدرجة تفوق استخدامه للأسطورة، وفي اعتقادي أن تجربته في التعامل مع الرمز التراثي تعد مميزة، ذلك أن تلك الثقافة هي الأولى عند أغلب الشعراء إن لم تكن الثقافة الوحيدة فلا عجب أن يتفوق تعاملهم مع الرموز على استخدامهم للأسطورة وتفعيلها في نصهم. بل حتى عند الشعراء الأكثر حداثة وبرغم محاولاتهم المتكررة استخدام الأسطورة إلا أنها لم ترقَ إلى درجة تفعيلهم للشخصيات التراثية، فعند سعيد بادويس لا يعدو استخدامه ذكر كلمة الأسطورة في نص (أسطورة)، وإذا بحثت عن معالم الأسطورة وجدت الشاعر يستخدمها في تجربة ذاتية صرفة، إذ يجعل حبيبته أسطورة من الجمال وهو استخدام سطحي لا يستثمر فيه الشاعر طاقة الأسطورة، يقول: بماذا تنادين يا امرأة تستدير على وجهها زرقة البحر، يشرئب على هامها نصع الأمنيات... تجلي خطوطا من الشمس تنساب في لجة البحر أسطورة من غناء (8) وقد يستخدم الشاعر السعودي أسطورة ك(عشتار) لكن توظيفه لتقنية الأسطورة يبقى محدودًا؛ يقول حامد بن عقيل في نص حمل اسم (عشتار): إلى قلبه نرتحل حيث النساء .. يشاركننا الأمنيات، وحيث الغناء وحيث الحياة إلى قلب عشتار.. إلى الخير والحب / والمدن المبتغاة (9) ولحزام العتيبي نص أسماه (إهداء مبعثر يداخل شهرزاد وأمها) يقول: أقاسمك الصمت عشقا أقاسمك الموت صمت الخليج شمالية في جنوب الفؤاد شمالية لفعتني بخاتمها.. بقاصمة الظهر هل من مزيد؟ قفي يتها الأم أنشودة يرددها الحق في فجرها كان.. كان. (10) ويظهر أن استخدامهم للأسطورة لا يعدو أن يكون تقليدًا لاستخدام الشاعر العربي لها. وحزام العتيبي في نصه (محاكمة بدر شاكر السياب) نجده يستعمل المعالم والأساطير التي لها حضورها في نص السياب لكنه يتوقف عند ذلك، يقول: “جيكور”.. لم تلد.. “جيكور”.. طلقها الخليج.. “جيكور”.. عدتها أنت.. “القدس”.. نبكي توبة.. جيكور إني.. لن أعود خطابي سأرفضهم تفعيلتي مخبونة.. والوقص في أحشائها.. “عشتار” دمعي امسحيه.. برقائق الورد المسجى فوق عنق “فراتي”.. “عشتار” ثكلى.. (11) ولعلنا نستطيع أن نصدر حكمًا على توظيف الأسطورة من خلال النماذج التي سلفت بأنها لا ترقى عند الشاعر السعودي إلى درجة تفاعله مع الرمز والشخصية، فغاية أمره مع الأسطورة أن يذكرها في نصه أو يستخدم أسطورة سبق إليها من شاعر عربي، فينقل ذات التناول دون أن ينسرب إلى خباياها ومكنوناتها، ودون أن يجهد في مقاربتها من تجربته. ويبدو أن ثمة عوامل من التكوين الثقافي الديني، والاجتماعي للشاعر السعودي كانت وراء ابتعاده عن التعمق في قراءة الأسطورة وتفعيلها في معطاه الشعري، فكثير من هذه الأساطير يرتبط بمعتقدات تصادم ثقافته وما يؤمن به، أو هكذا خيل إليه! ويليه: الحلقة الثانية: أسلمة التجديد. (1) الأداء الأسطوري في الشعر المعاصر، تطبيق على شعر محمد الثبيتي، ص 59 (2) التضاريس، ص 7 (3) وأنك أصل الجهات، الطبعة الأولى، ص 94 (4)سهيل اميماني، الطبعة الأولى، ص 119121 (5 ظلي خليفتي عليكم، ص 146، 147 (6) هواجس في طقس الوطن، ص 11 18 (7) انظر من نماذج ذلك أيضًا، علي الدميني، رياح المواقع ص 101. وحامد بن عقيل، قصيدتان للمغني، ص 21 (8) نكهة الموت المصفى ، ص 47 (9) قصيدتان للمغني، ص 32 ، 33 (10) قصائدها، ص 33 (11) حزام العتيبي، استراحات على سطح الثريا، (جدة: دار العلم، الإهداء عام 1405)، ص 109 112.