ما زال بعض الكتاب المجريين يعتقدون بان لغتهم تمت بصلة الى اللغة السومرية، وذهب البعض الآخر الى اعتبار السومريين والمجريين شعبين من اصل واحد. وهم في هذا المنحى يحاولون استغلال حقيقة عدم معرفة اصل السومريين ومن أين أتوا، وعدم تشابه اللغة السومرية مع اية لغة معروفة. ودلائلهم التي يسوقونها لدعم افتراضهم هذا تعتمد على "تشابه" بعض الكلمات المجرية مع اخرى سومرية في اللفظ والمعنى، وعثور العلماء على نصوص مكتوبة برموز تقرب الرموز السومرية وعلى خزفيات صنعت بتكنولوجيا سومرية في منطقة ترانسلفانيا برومانيا اليوم. ولحسن الحظ، لم يتبنّ العلماء المجريون هذه الفرضيات بل سخروا منها ودحضوها. وتتركز هذه الافكار لدى المجريين الذين يقيمون في خارج المجر، مثل الولاياتالمتحدة وكندا وأميركا اللاتينية، وأغلبهم ليسوا متخصصين بالسومريات، بل باحثين في التاريخ الحضاري المجري أو مؤرخين أو متخصصين لغويين في لغات اخرى. وظهرت أولى هذه الفرضيات في أواخر القرن الماضي، اثناء النهضة القومية المجرية التي أججتها الاحتفالات بالذكرى الألفية لقدوم القبائل المجرية الى حوض الكاربات حيث يقيمون اليوم، اذ ان اتحاد القبائل المجرية السبع قدم الى هذه الارض في فترة متأخرة. وحدد العلماء التاريخ التقريبي لهذا التروح في عام 895 م. ويفترض العلماء ان أواسط اسيا هي الموطن الاصلي للمجريين وباقي الشعوب الفنوغرية finno-ugric، وبعبارة أوسع، الشعوب التي تنتمي الى عائلة اللغات الاورالية. بذلك يكون المجريون والفنلنديون والاستونيون شعوباً تتحدث - نظرياً - بلغات متشابهة، على الرغم من ندرة الكلمات المشتركة التي نجدها في هذه اللغات المعاصرة اليوم. اللغات الاورالية وتطورها: يتفق العلماء على ان اللغة الاورالية القديمة ازدهرت بين الألف السادس والرابع قبل الميلاد، قبل ان تنشطر الى عائلتي اللغات الفنوغرية والسامويدية. وتكرر هذا الانشطار مراراً عبر القرون، لتتفرع اللغة المجرية من اللغة الاوغرية، ولتكون لغات أقوام صغيرة تقطن انحاء من روسيا الاقرب الى اللغة المجرية، مثل الاوستياك والفوجول الذين يقطنون الجزء الغربي الاوروبي من الاورال. ويعتقد العلماء المجريون ان مواطن الشعوب الاورالية الاصلي هو السفوح الشرقية لجبال الاورال في غربي سيبيريا. بدأت اللغة المجرية بالتكون قبل 2500-3000 سنة، عندما اخذت الاقوام المجرية بالترحال بسبب الضغط الذي تعرضت له على يد الشعوب التركية التي فقدت مراعيها جراء الجفاف الذي أصاب المنطقة التي تسمى بشقيريا اليوم. وكان هذا احد نقاط اللقاء الكثيرة بين اللغات التركية واللغة المجرية. وحدث لقاء آخر بين اللغتين في القرون من السادس الى الثامن الميلادي عندما تخالطت هذه الاقوام مع الخزر الذين يتكلمون لهجة خاصة من اللغات التركية - البلغارية. وهناك نحو 300 كلمة تركية وافدة في اللغة المجرية، مقابل نحو 1000 كلمة فنوغرية، علاوة على تشابه تركيب اللغة مع اللغات الفنوغرية. هذا الكم من الكلمات التركية كان الاساس الذي استند اليه البعض لاطلاق فرضية القرابة التركية - المجرية، نظرية الاصل الطوراني واللغة المشتركة. ومثلما اكتسبت اللغة المجرية 300 من الكلمات التركية، هناك نحو 100 كلمة هندواوروبية فارسية على الاغلب استعارتها من الشعوب التي قطنت سهوب اوراسيا. ومن بين الكلمات فارسية الاصل الكلمة الدلة على رقم الف وهي أزرِ ezer من هزار بالفارسية، وتعود كذلك كلمة اردا esarda المجرية المعروفة الى تشار طاق الفارسية سقيفة مفتوحة مبنية على اربع قوائم. لكن على الرغم من اكتساب هذا الكم من الكلمات التركية والهندواوروبية، لا توجد قرابة بين اللغة المجرية وهاتين العائلتين اللغويتين. والامر مماثل لحالة اللغات العربية والتركية والايرانية الحديثة، فبالرغم من ان الكلمات العربية تشكل نسبة عالية من قاموسي اللغة التركية والايرانية، لا يجرؤ احد على الافتراض بان اللغات الثلاث تنتمي الى عائلة لغوية واحدة. لكن المفكرين القوميين في القرن التاسع عشر وحتى في القرن العشرين كانوا يعتبرون القرابة مع شعوب الفولغا والاورال "المتوحشين" نقيصة، ويحاولون السكوت عن علاقتهم بشعب اللاب Lapp الذي يقطن شمال فنلندا، لبساطة حياتهم المشابهة لحياة الاسكيمو. لذلك انطلقوا يبحثون عن أقارب يفتخرون بهم أمام الشعوب الاخرى، ومن هم أصلح لتمثيل هذا الدور من السومريين مجهولي الاصل الذين قدموا للحضارة الانسانية الكثير؟ القرابة السومرية - المجرية: يحاول عدد من الباحثين ايجاد نقاط التشابه بين اللغتين المجرية والسومرية سواء في الكلمات أو في القواعد والنحو وهو الدليل الاكثر اقناعاً عند مقارنة لغة باخرى. وفي الواقع، لا يعرف احد معرفة اليقين نظام الاصوات في اللغة السومرية، وبالتالي بنى علماء السومريات قراءتهم للمقاطع المسمارية السومرية على اساس افتراضي، لان القيمة الصوتية للمقاطع غير معروفة. ويعود ذلك الى جملة اسباب، منها ان تدوين اللغة السومرية مقطعي ولا يجري باستعمال حروف ذات قيمة صوتية محددة كما هو متبع ومعروف في التدوين الأبجدي، وكذلك اختلاف اللغة السومرية عن اللغات القديمة والحديثة المعروفة مما يجعل الدراسة المقارنة لها اكثر صعوبة. ويؤكد المجريون اصحاب نظرية الاصل السومري ان قراءة النصوص السومرية أي اعطاء المقاطع قيماً صوتية ستسهل كثيراً لو استعمل النظام الصوتي للغة المجرية. من جانب آخر، يعتقدون ان الاقرار بقرابة السومرية والمجرية سيساعد على تفسير الكثير من الكلمات السومرية وحل العديد من المشاكل التي تواجه علماء السومريات. بالطبع لا يتمنى المرء عادة تعقيد حياته بنبذ النصائح المفيدة، لكن علماء السومريات واجهوا افتراضات القرابة اللغوية المجرية السومرية بتحفظ على الاقل، إن لم نقل برفض شديد. وفي الواقع هناك تشابه ما بين بعض القراءات للكلمات السومرية وهناك كلمات لها العديد من القراءات مع كلمات مجرية. وتجري محاولات لايجاد الصلة بين الكلمات المجرية والسومرية باستعمال الميثولوجيا والدين. مثلاً يذكر المؤرخ تيبور بارات Tibor Barath عدداً من المصطلحات التي يعتقد انها تفسر بعض الكلمات السومرية، من بين الكلمات كلمة "اور" اسم المدينة السومرية الشهيرة، فهي مماثلة للكلمة المجرية المستعملة اليوم ايضاً: ur التي تعني سيد وبالتالي رمز انظر: الرمز التي جاءت من كلمة رمز السامية المشتركة التي تعني السيد، الكبير بمعناها الدنيوي والديني على حد سواء. لكن لو بحثنا عن معان اخرى لكلمة أور السومرية سنجد الكلمات التالية: بطل، مدينة وانتقل هذا المعنى الى العبرية، أورشالايم = مدينة السلام، كلب، ارضية، قلب، صياد، أرجل، كبد، مزاج... اذا ما أهملنا الافعال، وهي كثيرة ايضاً. ويعتقد البروفسور بارات ان منظومة من المصطلحات يمكن تفسيرها بالاستعانة باللغة المجرية، وينطلق من فرضية اساسية هي اعتبار رمز الشمس المحور الاساسي للحياة الدينية والدنيوية في سومر ووادي الرافدين، وان ديانة السومريين هي ديانة توحيدية. على هذا النحو يفسر اسم سومر مستعيناً بالكلمة المجرية szem ur اي سيد العين، رمز العين، والعين هي عين الشمس، بذلك فان بلاد سومر هي بلاد رمز الشمس. اما أكاد السامية اول امبراطورية في التاريخ والتي خلفت السومريين في السيطرة على وادي الرافدين، فهي مقاربة للكلمة المجرية ژgeto اي الحارق، وهي من صفات الشمس ايضاً، اي ان أكاد هي أرض رمز الشمس. وللأسف، يصعب قبول اعتبار رمز الشمس الرمز الاول في وادي الرافدين، اذ نعرف ان إيا رمز الماء سبقه على عرش الالهة. وفي حال ثانية يعتقد اندراش زاكار Andras Zakar في كتابه "المحيط الديني السومري والكتاب المقدس" بان كلمة Ishtin اشتين = واحد، أوحد باللغة السومرية، تقابل الكلمة المجرية التي تعني رمز. برأيه ان الوحدانية هي صفة الرمز، لذلك يطلق عليه هذه التسمية بطريقة قسرية، متناسياً هو الآخر ان الدين السومري يؤمن بتعدد الرموز وليس بالتوحيد!. المشكلة الثانية هو أننا لم نعثر على كلمة إشتين في القاموس السومري!. وتشع من هذه الامثلة إرادية التفسير، مما يذكرنا باعتبار بعض العرب شكسبير الشاعر الانجليزي الاعظم عربي الاصل لان اسمه يقترب من "شيخ زبير". ولا أعرف الى اليوم هل كان من أطلق هذه الطريقة جاداً في قوله أم هو يسخر من هذا المنحى في مقارنة الكلمات المتشابهة في اللغات المختلفة دون أي اساس علمي واقعي. ومن الاجدر الانتقال لدراسة التشابه النحوي، فالحال في هذا المجال اكثر اثارة. يعقد البعض مقارنات نحوية بين اللغات الفنلندية والمجرية والسومرية والتركية ولغات اخرى. ويشيرون الى وجود ثمة تشابه في بعض حروف الجر وظروف المكان والتملك وغيرها من الادوات التي تدمج عادة بالكلمات ولا توجد بصورة منفصلة. كذلك هناك تشابه في بعض الحروف الملتصقة بالافعال سابقات والتي لا تنفصل عنه الا في حالات خاصة مثل النفي. كذلك يسوق هؤلاء أمثلة بعض التعابير والتراكيب التي يعتقدون انها مشتركة. والمشكلة التي تواجه هذا المنحى هي كيفية مقارنة المقاطع السومرية بالحروف التي تستعملها اللغات الاخرى. ان تشابه النحو اللغوي هنا أو هناك لا يعني ان اللغات يمكن تصنيفها ضمن عائلة واحدة، مثلاً تشترك العربية واللغات السامية عموماً مع اللغات الحامية والهندية الاوروبية واللاتينية والمجرية والبولينيزية في استعمال الاضافة: كتاب ابي مثلا، كما تشترك الساميات والحاميات واليونانية واللاتينية والقوقاسية الشمالية والغربية في تأخر الصفة عن الموصوف: بنت جميلة، في حين تستعمل لغات اخرى مثل القوقاسية الجنوبية الجورجية والمجرية والتركية والسانسكريتية وباقي اللغات الهندوأوروبية الحالة المعكوسة: جميلة بنت. فما هو مقياس التشابه والاختلاف اذن؟. يبدو مما سبق ان تحديد قرابة لغة باخرى عملية طويلة ومركبة، لها قواعدها وقوانينها. من جانب آخر، هناك دراسات اكثر جدية، تتعلق بالدراسة المقارنة للاساطير المختلفة للشعوب، من بينها الاساطير المجرية. وفي هذا المجال، نشاطر رأي العديد من العلماء الذين يميلون الى ان مواضيع الاساطير المختلفة ورموزها الاساسية متشابهة، ويمكن العثور على نفس العناصر في اساطير اقوام تبعد بعداً جغرافياً وحضارياً وتاريخياً كبيراً، مثل شعوب المحيط الهادي أو السكان الاصليين لأميركا. ولا تزال بقايا الاساطير المجرية حية في الشعر والعادات الشعبيتين، مثل اسطورة الوعل العجيب، أو اسطورة النسر الذي قاد قبائل المجريين السبع الى حوض الكاربات حيث يقيمون اليوم. تقول واحدة من أغاني عيد الميلاد التي جمعت من المجريين "التشانجو" من التجمعات المجرية في رومانيا ومولدافيا: الوعل العجيب قرنه الف فرع وعقدة ألف فرع وعقدة، الف شمعة مضيئة يجلب ضوء الشمس المبارك من بين قرنيه على جبهته النجمة وعلى صدره القمر ينطلق من الشاطىء المضيء للدانوب السماوي لينقل كرسول سماوي البشارة في هذا النص نجد نفس الرموز التي تستعملها الشعوب الاخرى: الشمس والقمر والنجوم، دورة الخليقة النور والظلام، الموت والحياة، الصيف والشتاء. وتتحدث بعض الاساطير المجرية عن المملكة الغنية التي شيدها الملك الصياد "نمرود" سليل "تانا" بعد الطوفان في الارض الممتدة بين البحر في الجنوب والجبال في الشمال والتي يخترقها النهران العظيمان وادي الرافدين. وتانا يقابل "إتانا" البطل - الملك السومري الذي أسس مدينة كيش حسب اسطورة جلجامش. وتتحدث الاسطورة عن زواج تانا من انث = عنات؟، التي ولدت له توأمين، اسمهما هونور Hunor وموغور Mugor. في يوم من الايام انطلق نمرود بصحبة التوأمين الى الصيد، وحدث ان افترق عنهما، فانطلقا في تجوال طويل وحدهما. ثم التقيا بحيوان هو الوعل العجيب، الذي قادهما عبر بلاد العجم! وعبر مستنقعات خطيرة عند بحر ميوتس بحر آزوف؟ ليصلوا الى ارض كثيرة الخيرات، عندئذ اختفى الوعل العجيب. في الجوهر تتحدث هذه الاسطورة عن اصل قبائل الهون والمجريين، فهونور هو جد الهون وموغور هو جدّ المجريين. وقبائل الهون معروفة في التاريخ، ونعرف ان الهون استقروا في حوض الكاربات قبل المجريين بقرون، وأسمى الرومان هذه المنطقة هنغاريا نسبة الى الهون. واشتهر ملكهم أتيلا الذي قاد القبائل الوثنية ضد روما ليقضي على الامبراطورية الرومانية الغربية في القرن الخامس الميلادي. ويبدو من مقارنة الاسطورة المجرية بالاساطير الاخرى، ان عناصرها متشابهة، وكذلك تتشابه الاسماء الواردة فيها لدرجة ما. والاساطير المجرية ميدان خصب للباحثين الذين سيجدون تزاوج العناصر التي أنتجتها حضارات مختلفة، سومرية وسامية وهندوأوروبية وتركية وكلتية وغيرها. لكن البعض يستعمل الاسطورة كوسيلة لبرهان نظرية الاصل السومري أو الطوراني. ولتبيان القسرية في التفسير، ننتقل الى مقالة نشرتها في العام 1953 باحثة مجرية هي "ردا بوبولا" في مجلة جامعة بوينس أيرس عنوانها "الوعل العظيم، الالهة السومرية" تتحدث فيها عن الاله السومري "إيا" رمز الماء. وتذكر بوبولا بأن لإيا انكي اسماء اخرى، مثل "دارا - ماه" اي الوعل الكبير، مما يذكرنا بمحور الاسطورة المجرية التي ذكرناها قبل قليل. كما تعقد مقارنات بين بعض الاسماء التي وردت في الاساطير المجرية مع اسماء سومرية. فتتناول ابن إيا، دوموزي، وهو تموز رمز الرعي، الذي تحول بعد ذلك الى أدونيس عند اليونانيين، الرمز المضحي الذي يولد ويموت سنوياً، وتفترض ان تموز هو الوعل الصغير، لان ابوه إيا الوعل الكبير، لذا يجب ان يكون لقب تموز بالسومرية "دار-جي" dar-ge? الذي سيتحول لاحقاً الى اسماء مثل تُرك وطوران!. كما حاول البعض استغلال عثور الآثاريين على فخاريات رافدينية الطابع وكتابات مسمارية واخرى تقلد الخط المسماري في بعض انحاء شرق أوروبا لنفس الاغراض. لكن البحث أثبت ان هذه الفخاريات والنصوص جاءت الى هذه البلاد البعيدة عن وادي الرافدين عن طريق التجارة عبر الأناضول. ثم قلد السكان المحليون الاشكال الرافدينية في صنع ادواتهم وأضافوا اليها الكتابات والنقوش. وقد طور المجريون السيكيون Szekelyek وهم فرع من المجريين قدموا الى ترانسلفانيا قبل قدوم باقي القبائل المجرية الى حوض جبال الكاربات خطاً أبجدياً استنبطوه من الخط المسماري الذي وجدوه على الفخاريات. لكن العلماء المجريين الذين رفضوا مثل هذه النظريات المزيفة التي تحدثنا عنها قبل قليل، قدموا للانسانية الكثير، وبرز بينهم مستشرقون كبار مثل إغناتس جولدزيهر وجولا جرمانوس وشاندور كوروشي - تشوما تشوما دي كوروش، وجمع بيلا بارتوك وزولتان كوداي كثراً من الموسيقى الشعبية المجرية وموسيقى الشعوب المجاورة وحتى بعض الموسيقى الشعبية التركية والعربية وصنفاه ووثقاه. وعلم الفولكلور يدين كثيراً للعلماء المجريين الذين كشفوا جذور الفنون الشعبية المجرية التي تعود ايضاً الى أصول اسيوية وشرق أوسطية.