شهدت الاسواق الاكترونية المالية منتصف الصيف الجاري حركة بيع لافتة بعدما خفضت شركات برامج الكومبيوتر توقعات أرباحها للفصل المقبل. نمط التراجع هذا المتواصل على رغم بعض اليقظات منذ مطلع العام الجاري خفض قيمة الاسهم في مؤشر ناسداك بنحو 20 في المئة من قيمتها منذ نيسان ابريل الماضي مما أدى الى إفلاس عدد من الشركات واندماج عدد آخر لعدم قدرتها على المنافسة منفردة إضافة الى صرف آلاف الموظفين من مؤسسات ال"دوت كوم"، وطرح سؤالاً كان له وقع الكارثة في الاسواق المذكورة... هل بدأت نهاية الفورة الالكترونية؟ وتراجع مؤشر ناسداك 128.83 نقطة اي ما يعادل 3 في المئة لينخفض الى 3863.10 نقطة وهو أدنى مستوى للمؤشر منذ 23 أيار مايو الماضي عندما انخفض الى 3164.55 نقطة الأمر الذي حمل المستثمرين على التخلص من أسهمهم للحفاظ على الارباح التي جنوها في العام 1999 وتحسباً لانخفاضات أخرى. لكن المستثمرين لم يكونوا وحدهم الذين عمدوا الى التخلص من أسهمهم بل شهدت الاسواق حركة تراجعية أخرى لم تستقطب الاهتمام الذي حظيت به الاسهم وتقلبات أسعارها والتراجع المقصود هنا هو تراجع عدد من الشركات عن طرح أسهمها للجمهور وتحولها من شركة خاصة الى عامة. وأحصت مؤسسة "هوفر" المالية 11 شركة أبلغت في نيسان الماضي لجنة البورصة والسندات المالية الاميركية أنها لن تطرح أسهمها للبيع. وانضمت نحو 30 شركة أخرى للشركات المتراجعة في الشهر التالي أيار. وأعلنت 14 شركة في حزيران يونيو أنها ستتراجع أيضاً عن طرح أسهمها على رغم الارتفاع في الاسعار الذي سجل في هذا الشهر، لكنه لم يصل الى مستوى نهاية العام الماضي. سلسلة التراجعات هذه أثارت مدى جدوى طرح الاسهم وماذا يعني أن تتراجع شركة ما عن طرحها لأسهمها وهل بالامكان اعتبار ذلك مؤشر سلبي قد يقوض عالم الاقتصاد الجديد الذي ما لبث أن يحطم كل الارقام بمبيعاته وتوقعات النمو للأعوام المقبلة. الغاء الاصدار أو تأجيله؟ بداية يجب التفريق بين الغاء الاصدار وتأجيله كما فعلت شركة "التا فيستا" ALTA VISTA مطلع العام الجاري فالشركات عندما تتقدم بطلب الى لجنة البورصة لالغاء الاصدار كأنها ترسل اشارة الى السوق المالية أن لا وقت لديها لانتظار انتعاش الاسواق وأنها بحاجة للمال لتتمكن من البقاء. وفي حال لم يكن ممكناً ذلك من خلال طرح أسهمها فالشركة المعنية ستلجأ الى وسائل أخرى لزيادة رأسمالها خصوصاً وأن الضربات المتعدددة التي أصابت الاسواق الاكترونية ولدت نوعاً جديداً من المراهنات بين رجال الاعمال على الشركات التي ستفلس قبل غيرها ولم يعد السؤال الآن من هي الشركة الرابحة بل من هي الشركة التي ستفلس قبل نهاية الشهر. ما هو الحل؟ وفي ظل أجواء القلق هذه اتخذت العديد من الشركات موقف التريث بانتظار جلاء فترة الانكماش وبانتظار عودة حماسة المستثمرين لأسهم شركاتهم. في حين رأت شركت أخرى في خطوة التراجع عن طرح أسهمها للجمهور بعض الحسنات منها التركيز على زيادة حصة الشركة في السوق بدلاً من التركيز بصورة أساسية على بيانات الارباح والخسائر التي ينصب اهتمام المستثمرين المحتملين عليها في شكل أساسي. والاستعاضة عن طرح الاسهم للجمهور بالتوجه الى مستثمرين محتملين بصورة افرادية والسعي الى قيام شراكات استراتيجية. فالكثير من تلك الشراكات يقوم بين زبائن الشركة ومورديها وبالتالي لا تقتصر الشراكة على التمويل بل على الاستفادة من النصائح، وشبكة العلاقات التجارية. المستقبل ومما لا شك فيه أن التراجع عن طرح الاسهم أو تضاؤل قيمة الاسهم لا يعني نهاية الشركة بقدر ما يعني أن عليها القبول بواقع أنها ستبقى شركة خاصة. فقد أظهرت الاحصاءات خلال الخمسة عشر سنة الماضية أن شركة واحدة فقط من أصل عشر شركات تتمكن من معاودة التجربة وبيع أسهمها للجمهور بنجاح وأن هذه النسبة قد تراجعت في السنوات الاخيرة. فمنذ عام 1997 لا يتمكن سوى 5 في المئة فقط من الشركات من اعادة المحاولة بنجاح. وهنا لا بد من الاشارة الى وجود عوائق قانونية تحد من خيارات الشركات التي تسحب اصدارها من العودة باصدار جديد اذ يتطلب الأمر تقديم طلب جديد وعادة ما يستغرق تجهيزه حوالى السنة ومن هنا تلجأ الشركات الى قرار تأجيل طرح الاسهم بدلاً من الغائه. ويرى الكثير من المراقبين أن هذا التحول هو لصالح شركات ال"دوت كوم" التي ستسعى الى ايجاد شركاء دائمين وتمويل مضمون وبالتالي يصبح الهدف من الانتقال من شركة خاصة الى شركة عامة زيادة سيولة الشركة بدلاً من أن يكون الهدف البحث عن رأسمال يفرض على الادارة قيوداً جديدة. البقاء للأصلح وأثبتت التطورات الاخيرة التي تشهدها سوق شركات الاقتصاد الجديدة نظرية داروين عن البقاء للأفضل من هنا حركة التملك الواسعة التي يشهدها السوق والتي يتوقع المحللون ان تؤدي بحلول العام 2005 الى تمركز النشاطات الاقتصادية في شكل كبير بحيث يسيطر على السوق عدد من الشركات الكبرى لكل قطاع: على سبيل المثال: 3 شركات عملاقة كبواباتportals و3 الى 4 شركات عملاقة كe-tailors بيع الكتروني بالتجزئة و3 الى 4 شركات عملاقة لتقديم خدمات الانترنت. وللتذكير فإن مطلع القرن الجاري شهد إنشاء أكثر من 240 شركة تصنيع للسيارات بقي منها اليوم أربعون شركة. ويتوقع روبرت ايتون، رئيس مجلس ادارة شركة دايمر كرايزلر للسيارات، الذي أشرف على عملية دمج العملاقين الصناعيين الالماني والاميركي، أن عمليات الدمج في عالم صناعة السيارات ستنتهي الى وجود أربع أو خمس شركات كبرى بنهاية العقد المقبل. وسجلت الاسواق الالكترونية الاميركية في العام 1998 نحو 639 عملية دمج بين الشركات في صفقات مالية بلغت قيمتها أكثر من 36.7 بليون دولار ومن المتوقع أن تتضاعف هذه الارقام في العام المقبل. وما سيؤثر ايجاباً على الاسواق الالكترونية انفتاح شركات الاقتصاد التقليدي على عالم الانترنت وليس غريباً أن تتمكن الشركات التقليدية بما تملكه من رساميل ضخمة من احتواء أو شراء شركات الكترونية وقد نرى يوماً شركة مثل "ياهو" أصبحت من أحدى فروع شركة "جنرال موتورز" وأن تتحول "أمازون دوت كوم" الى متجر من سلسلة "جي سي بيني". وكانت شركة "استية لودر" لمستحضرات التجميل قد اشترت العام الماضي موقع "غلوس.كوم" Gloss.com وضربت بذلك عصفورين بحجر واحد، الأول انها وفرت على نفسها عناء تأسيس موقع للتجارة الالكترونية والثاني أنها استطاعت أن تزيح من دربها موقعاً قد يشكل منافساً حقيقياً لموقعها الاكتروني المستقبلي. والتغيير الآخر سيأتي من التطورات التكنولوجية المتسارعة التي ستلغي احدى أهم ركائز التجارة الالكترونية ما يعرف بشركات B2B التي تقوم بدور الوسيط بين مصنع المنتوج والبائع اذ ستتمكن الشركات الكبرى من تطوير برامج معلوماتية وخبرات لانشاء أسواقها الخاصة على الشبكة من دون الحاجة الى أي وسيط، لكنها ستبقى ضمن ما يسمى بالتجارة عبر الشركات أو B2B اصطلاحاً. وعلى رغم جميع المؤشرات السلبية التي عللت إفلاس عدد من المستثمرين الالكترونيين وتراجع قيمة أسهم الشركات مما ألقى ظلالاً سوداء على عالم الانترنت المتسارع النمو تظهر الدراسات الاخيرة أن الاقتصاد الجديد مبني على أسس سليمة و أن المراحل الثلاث التي مرّ بها منطقية وكان أن سبق ومرت بها قطاعات أقتصادية أخرى وعانت ما عانته وعادت وضمنت نجاحها في عالم المال: المرحلة الاولى بدأت في أواخر الستينات عندما تم اختراع الاربانتArpanet التي تطورت في ما بعد لتصبح الجيل الأول من الانترنت الذي استخدمته الحكومة والمؤسسات التربوية وانتهت تلك المرحلة بانشاء شبكة العنكبوت الدولية WORLD WIDE WEB في بداية التسعينات. المرحلة الثانية عندما بدأت التطبيقات الجديدة تشعل المنافسة بدءاً بMOSAIC BROWSER الأول في العام 1993 والذي خرج من رحمه برنامج تصفح الانترنت الشهير "نتسكيب" انتهاء بدعوى الاحتكار التي أقامتها الحكومة الاميركية ضد شركة مايكروسوفت العملاقة. تلك الفترة التي تمكن فيها entrepreneurs من انتزاع الشبكة من الاكادميين وبدأ استخدامها للأعمال التجارية والخدماتية. المرحلة الثالثة، وهي المرحلة الحالية، هي انتشار الانترنت في الشكل الذي نشهده وظهور شركة "امازون كوم" وغيرها ونمو عمليات التجارة الاكترونية بشكل مطرد منذ العام 1998. ومن المتوقع أن يبلغ حجم تجارة التفرقة e-tailing في العام 2002 أكثر من 41 بليون دولار أميركي في الولاياتالمتحدة الاميركية لوحدها أي أكثر من ثلاثة أضعاف الرقم المتوقع لهذه السنة 11.9 بليون دولار وذلك تبعاً لتقديرات شركة جوبيتر للاتصالات. وضع متين وبالتالي يمكن الاستنتاج أنه بغض النظر عن عمليات الاندماج والتملك فإن صناعة الانترنت قد تمكنت من التأثير على الاسواق المالية في غضون أربعين سنة بما لم تتمكن صناعة السيارات من القيام به في خلال مئة عام. فقد بلغت مجموع الارباح الناتجة عن الانترنت حوالى 500 بليون دولار في العام 1999 مقارنة مع 350 بليوناً لصناعة السيارات. وتتوقع دراسة أعدتها جامعة تكساس لمصلحة شركة سيسكو سيستميز أن يتجاوز حجم تجارة الانترنت هذا العام مبلغ ال085 بليون دولار. كما تظهر الدراسة أن الانترنت قد أسهمت في تسريع عجلة الاقتصاد بصورة أكبر من التوقعات اذ بلغ نمو اقتصاد الانترنت 174.55 للفترة ما بين 1995 و1998 و68 في المئة بين عامي 1998 و1999. وعلى رغم تسريح أعداد كبيرة من موظفي شركات الاقتصاد الجديد بسبب حالات الافلاس الأخيرة وعمليات الدمج وتقليص الاعباء فإن شركات الانترنت والاعمال المتفرعة منها وفرت للسوق الاميركية العام الماضي أكثر من مليوني ونصف مليون فرصة عمل جديدة كما وفرت 650000 فرصة في العام 1998 أي أنها استطاعت خلال عامين فقط من توفير ضعفي فرص العمل التي وفرتها أجهزة الحكومة الاتحادية الاميركية بما فيها مؤسسات البريد الرسمية. ومع توقع استمرار هذا النمو والتوسع لاستخدام الانترنت، يبرز احتمال حدوث تغير جذري في القوى المسيطرة على الشبكة بخطوة شبيهة الى ما جرى في الستينات والسبعينات عندما تحول المستهلكون من السيارات الاميركية والادوات المنزلية الى تلك المصنعة في اليابان. ويعتقد الكثيرون أنه على المدى المتوسط والبعيد فإن السيطرة الاميركية على الشبكة ستزول وأن استخدام الانكليزية سيتراجع مع زيادة الاستخدام العالمي للشبكة. وتظهر دراسة أخرى لمؤسسة أبحاث في فرامينغهام ماس أن عدد مستخدمي شبكة الانترنت في أوروبا سيتجاوز عدد المستخدمين في الولاياتالمتحدة الاميركية. ويتوقع رئيس قسم الاتصالات في جامعة إلينوي في شيكاغو، ستيف جونز أنه بحدود العام 2005 لن يعود هنالك حديث عن الاقتصاد الجديد والاقتصاد القديم فالانترنت ستندمج في الاقتصاد بحيث سيصبح التفريق بين الاقتصادين القديم والجديد مصطنعاً وزائلاً وستتحول الانترنت الى وسيط حيوي أو حتى محوري لاقتصاديات العالم وبالتالي فإن أي تراجع في أسواق التجارة الالكترونية يمكن قراءته على أنه آني وتحضير لوثبة مقبلة. [email protected]