روبرت ليتل ترجمة محمد نجار. شمعون بيريز - مستقبل إسرائيل. الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت. 2000. 220 صفحة. لا يخفي المؤلف - المحاور، والروائي الأميركي روبرت ليتل، بداية إعجابه بشمعون بيريز، فهو يصفه بأنه رجل دولة من الطراز الأول ويمتاز بذاكرة قوية للغاية. ولديه القدرة على إحياء الأحداث التي شهدها منذ خمس وستين عاماً. ويخلص المؤلف الى نتيجة، بعد سلسلة الحوارات التي أجراها مع بيريز منذ نهاية 1996، بأنه كان فيلسوفاً أكثر منه سياسياً. لا تعود أهمية هذا الكتاب الى أهمية شخصية شمعون بيريز ودوره في بناء دولة اسرائيل وإدارة سياستها فحسب. كما لا تعود الى أهمية الأفكار التي طرحها من خلال إجاباته المطولة والحاذقة فقط. إنها تعود أيضاً، وإلى حد كبير، الى أن المحاور روبرت ليتل امتلك خبرة فكرية وفنية عالية في طريقة السرد وترتيب الأسئلة وصياغتها. صياغة تمسك بالمتلقي وتطغى عليه حتى لا يكاد يستطيع الفكاك من بنية السؤال المصاغ. استطاع المحاور أن يُخضع العلاقة بين السؤال والجواب لمقدرته الفائقة، وخبرته الصحافية في التوجه الى القارئ والقارئ العربي بشكل خاص. ولن يخفى على القارئ المتمرس أن يدرك أن هذا الكتاب موجّه إلينا بالدرجة الأولى، من خلال تقديم صورة جديدة لشمعون بيريز. يتألف الكتاب من خمس محادثات، أو لنقل خمس جلسات حوار ومناقشة مطولة. في المحادثة الأولى يحكي بيريز عن نشأته في قرية فيشنيفا في جمهورية روسيا البيضاء ولا يفسر لنا بيريز لماذا يدعو مسقط رأسه فيشينفا حيث ولد وعاش طفولته وفترة من يفاعته بالشتات؟! ففي تلك الفترة، أي العشرينات والثلاثينات من هذا القرن لم تكن دولة إسرائيل قد قامت بعد. ولم تكن فكرة إنشاء وطني قومي يهودي إلا مجرد وعد. وعندما يسأله محاوره عما إذا كان قد تحرر من التفكير في بلدة الشتات، أم أن هناك زاوية محدودة في عقلة وفكره لا تزال تعود به الى هناك، يحاول بيريز التملص من حرج الإجابة، فيزعم أنه كان يعيش جسدياً في قريته، في حين أنه كان منخرطاً بتفكيره في الحلم اي إسرائيل. ويقع شمعون بيريز في حرج بالغ حين يسأله محاوره: إبان الحرب العالمية الأولى وعند إعلان وعد بلفور أظهر إحصاء بريطاني أن هناك نحو 700 ألف عربي في فلسطين وحوالى 70 ألف يهودي. بالتأكيد لم تكن فلسطين أرضاً بلا شعب، كيف تفسر هذا الإخفاق في الرؤية من جانب الصهاينة الأوائل؟ هنا لا يجد بيريز مناصاً من الاعتراف بأن الزعماء الصهاينة لم يكونوا مدركين ذلك. ويحاول التذرع بأن فلسطين لم تكن دولة مستقلة على أية حال، بل كانت تابعة للامبراطورية العثمانية ثم فُرض عليها الانتداب البريطاني. ولا يجد بيريز ذريعة لتخفيف مسؤولية الصهاينة الأوائل عن العنف في فلسطين إلا بوصفهم أنهم كانوا على درجة كبيرة من السذاجة! يكشف لنا بيريز في هذه المحادثة الكثير من أسرار علاقات الصهاينة الأوائل ببريطانيا بدءاً بوعد بلفور وانتهاء بنكبة 1948 التي يدعوها "حرب الاستقلال". ولا يخفي بيريز حقده على بريطانيا بسبب تذبذب مواقفها، أي بسبب عدم وقوفها دوماً الى جانبهم! ونعلم هنا أيضاً أنه وصل الى فلسطين وعمره 11 عاماً وانتسب الى الهاغاناه وعمره 15 عاماً وتظاهر ضد الوجود البريطاني، وأسهم في المقاومة السرية ضد "الاحتلال"، وهو يشبه وصوله الى فلسطين بأنه كمن ينزل على سطح القمر. ويتابع ليتل في المحادثة الثانية مع بيريز عدداً من القضايا المهمة. فبعد "المحرقة" ودورها في هجرة - أو تهجير - اليهود الى فلسطين، جاءت التفاصيل التي رافقت نشوء "الدولة" ومواقف بن غوريون في هذا الصدد. ويقول بيريز في هذه المحادثة إنه كان من أتباع بن غوريون الخلّص لأنه كان يؤمن أن الأخير كان من صانعي التاريخ. ويكشف بيريز النقاب، أثناء الحوار، عن كثير من الحقائق. فهو يكشف مثلاً لماذا كانت تشيكوسلوفاكيا، وهي دولة شيوعية، هي الدولة الوحيدة التي باعت السلاح لإسرائيل في أعقاب قرار التقسيم. ويعزو ذلك الى سببين: حاجة تلك الدولة الى المال وموافقة ستالين على ذلك. ويُذكِّر بيريز هنا محاورَه بأن الاتحاد السوفياتي صوت الى جانب إنشاء دولة إسرائيل. كما يكشف بيريز النقاب عن دوره في اختراق القرار الفرنسي بحظر بيع السلاح الى إسرائيل، مستغلاً عواطف رئيس الأركان الفرنسي آنذاك الجنرال ايلي الصهيونية. ولا يبخل بيريز بالكثير من الثناء على فرنسا ودورها في تلك المرحلة الحرجة، في الوقت الذي امتنعت فيه كل من بريطانيا وأميركا عن تقديم السلاح لإسرائيل. ويقول: "شعرت بأنني في وطني مع غي موليه". كيف لا وقد فتح الأخير ترسانة السلاح الفرنسي على مصراعيها طوال عقد من الزمن أمام إسرائيل! وعندما يسأل روبرت ليتل: "هل كان تزويد فرنسا لإسرائيل بمفاعل نووي هو نقطة النهاية في ذلك التعاون المتواصل"، يعترف بيريز ضمناً بأن مفاعل ديمونا كان ثمناً لاشتراك إسرائيل في حملة السويس العدوان الثلاثي على مصر! وينتقل ليتل بعد ذلك الى الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 والمستنقع الذي وجدت إسرائيل نفسها فيه. ويسأل ليتل: هل كان لبنان يمثل حرب شارون؟ وهل خطط شارون لزجّ إسرائيل في لبنان من دون إبلاغ الحكومة عن خططه؟ ويجيب بيريز: "بطريقة ما نعم، فقد كان لدى شارون رئيس وزراء ساذج هو مناحيم بيغن الذي كان نادراً ما يفهم طبيعة الأمور. وأعتقد أن شارون أراد أن يقلد ديان في حملة سيناء 1956...". لم يكن الحوار يقتصر على السياسة وحدها. وكانت هناك قضايا ثقافية أيضاً. إذ يذكر بيريز أن بعد زيارته الأولى للولايات المتحدة عام 1949 بمنحة من جامعة هارفرد بدأ يكتشف أميركا على أرض الواقع. ويقول: ما أعجبني في أميركا احترام العمل. فمهما يكن عملك فأنت شخص محترم... الناس فخورون بأعمالهم، فهم يأخذونها على محمل الجد، إنهم شعب دؤوب لا يفرط بوقته... هذا أول انطباع عظيم لي عن أميركا. الشيء الثاني هو قدرة الشعب الأميركي على التكيف مع الأفكار والاختراعات الجديدة. ويسأل ليتل محاوره عن رأيه بالكاتب الفرنسي لويس فريناند سيلين الذي كان مناهضاً كبيراً للسامية ومتعاوناً مع الألمان إبان الحرب العالمية الثانية. ويجيب بيريز بذكاء وقد أدرك ما يرمي إليه ليتل إذ إن سيلين كان كاتباً مهماً حتى لو كان مناهضاً للسامية: "لقد قرأت لسيلين يجب على المرء أن يميز بوضوح كبير ما بين الموهبة والحقد الخلقي... ويجب أن تكون متطوراً كفاية للتمييز بين الشر والموهبة... لا بد أن أعترف أن وصفه للشؤون العسكرية والحرب كان قوياً جداً ومقنعاً للغاية...". يخصص ليتل المحادثتين الثالثة والرابعة لتناول العلاقات الإسرائيلية - الفلسطينية منذ ما قبل أوسلو وحتى توقيع ذلك الاتفاق الشهير. هاتان المحادثتان تكشفا لنا عن حقائق وآراء مهمة جداً إزاء قضايا شائكة مثل القدس، وقيام الدولة الفلسطينية، وطبيعة العلاقات المستقبلية مع الفلسطينيين، إنها آراء اثنين من جهابذة حزب العمل هما رابين وبيريز. يكشف بيريز هنا الكثير من الملابسات التي سبقت اتفاق اوسلو وتلته، كما يكشف عن تقويمه لشخصية عرفات وكيفية التعامل معه. ويسأل المحاور: هل كانت نقطة البدء في أوسلو في ضعف السيد ياسر عرفات؟ ويجيب بيريز بالإيجاب معللاً ذلك أن عدم وجود عرفات كان خطراً أعظم من وجوده. ولم يخف بيريز أن ضعفه أدى به الى تقديم تنازلات للتوصل الى اتفاق. ان الاطلاع على خفايا أوسلو وما تلاها، ووجه نظر بيريز في السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين وطبيعة العلاقات المستقبلية قضية مهمة جداً. فحزب العمل هو الحاكم الآن وبيريز نفسه ما زال شخصية مهمة على الساحة السياسية الإسرائيلية. وكثير من الشخصيات التي شاركت في اوسلو أو في الاتفاقات التي جرت بعدها ما زالوا لاعبين مهمين ويشاركون في المفاوضات الصعبة اليوم. لا يسعني بالطبع أن ألخص تلك الحوارات الغنية والشيقة. قد نختلف في قليل أو كثير مع السيد بيريز في تقويمه لعدد من المسائل، إلا أننا لا يمكن إلا أن نعجب بطريقة إدارته للحوار وذاكرته الثرة - وهو في هذا السن المتقدم - وثقافته الواسعة. كما لا يسعنا أيضاً إلا أن نعجب أشد الإعجاب بأسئلة المحاور روبرت ليتل الذي كان يتمتع بقدر كبير من الذكاء وسعة الاطلاع وحسن الفهم والتحليل.