والدة واحد من ضباط الغواصة المنكوبة "كورسك" تركت دموعها تسيل على خديها وهي تصرخ في وجه نائب رئيس الوزراء الروسي ايليا كليبانوف: "لم أنجب ولدي لكي تقتلوه مقابل خمسين دولاراً!". هذه الصرخة تجسد ألم الأم التي تشعر أنها ثكلت ابنها وتكشف في الوقت ذاته المأساة الكبرى التي تعاني منها روسيا وقواتها المسلحة وسلاح البحرية تحديداً. فخلال عقد واحد من الزمن تحولت روسيا من قوة عسكرية عظمى ودولة بحرية لها صولات وجولات في كل مكان، إلى بلد يتقاضى ضباطه مرتبات تراوح بين 50 و300 دولار، فيضطرون إلى العمل حمالين أو حراساً ليليين لإعاشة عوائلهم، ضاربين عرض الحائط بكفاءاتهم المهنية. وقائد الغواصة "كورسك" التي سمتها إحدى الصحف الروسية "التابوت المصفح"، المقدم غينادي لياتشين كان يتقاضى ما يوازي 250 دولاراً في الشهر، في حين أنه مسؤول عن غواصة تقدر قيمتها بنحو بليون دولار. وكان "المشروع 949 اي"، وهو الاسم الرمزي لغواصات هذا الطراز، بدئ العمل فيه أواسط الثمانينات، إلا أنه قلص تدريجاً وانجز صنع آخر غواصة وهي المنكوبة في بحر بارنتس عام 1994. وهناك عشرات من الغواصات النووية التي اخرجت من الخدمة ولا تزال راسية في موانئ شمالية ولا تجد الدولة المال الكافي لتفكيكها، لذا صارت عرضة للنهب ومصدراً لخطر اشعاعي. أما القطع البحرية العاملة، فإنها تجد في الغالب الوقود الكافي للخروج إلى عرض البحر وتبقى في مراسيها، لكنها تظل بلا كهرباء في أحوال كثيرة، إذ أن مسؤولي البحرية عاجزون عن تسديد الفواتير اما لأن الأموال لا تحول من الموازنة أو لأنها تنهب أو... للسببين معاً. وخلال العقد الماضي جرى تقليص عشوائي للقوات المسلحة، وبهدف توفير الأموال ابقي على الوحدات المقاتلة فيما "اختزل" الكثير من قطعات المساندة، في حين ان الخبراء يؤكدون مثلا ان كل بحار يجب ان يقابله ما لا يقل عن خمسة أشخاص يعملون على اليابسة. وأظهر حادث الغواصة "كورسك" ان هناك ثغرات خطيرة في تدريب وإعداد كادر البحارة ورجال الانقاذ على حد سواء. وفي زمن الاتحاد السوفياتي كانت هناك مدرستان لإعداد غواصي الانقاذ في مدينتي ريغا وسواسبتول وكلاهما الآن خارج روسيا. وكان تدريب الغواص الواحد يقتضي نفقات توازي ما ينفق على إعداد طيار. وإذا كانت الحرب الشيشانية اثبتت ضعف القوات البرية الروسية فإن حادث الغواصة النووية بيّن المطاعن في اسطول الدولة التي كانت تسود البحار وصارت اليوم تستعين بالنروج لانقاذ طاقم "كورسك". ويشير خبراء البحرية الى أن تركيا صارت تملك في البحر الأسود قطعاً تفوق ثلاثة أضعاف ما تملكه روسيا وأوكرانيا وجورجيا وهي الدول المستقلة حديثاً والتي كانت جمهوريات سوفياتية. وليس هذا بغريب بالنسبة لبلد ينفق أقل من خمسة بلايين دولار على الأغراض العسكرية في حين ان نفقات الولاياتالمتحدة تقترب من 300 بليون. وربما أصبح غرق "كورسك" دافعاً لمراجعة شاملة لواقع القوات المسلحة الروسية التي جرى "اصلاحها" من دون استراتيجية ولكن بهدف واضح توخته المجموعة المحيطة بالرئيس السابق بوريس يلتسن، وهي منع الجيش من التدخل في شؤون الدولة واستخدامه من جهة أخرى ك"عصا" لضرب المعارضة كما جرى عام 1993. والى ذلك فإن موازنة القوات المسلحة كانت من جهة مصدر "رزق" للمقربين من الكرملين وعدد من كبار الجنرالات وسبب مصرع الكثيرين من الضباط والجنود من جهة أخرى.