صدرت في القاهرة، خلال الأشهر الماضية ثلاثة كتب سودانية جديدة، هي "مواقف فكرية" لحيدر إبراهيم علي مدير مركز الدراسات السودانية في القاهرة، "خطاب المشّاء نصوص النسيان" للكاتب أسامة الخواض المقيم في اميركا، و"عودة للزمن الجميل" للشاعرة الشابة نادية مختار المقيمة في القاهرة. الكتابان، الأول والثاني، صدرا عن مركز الدراسات السودانية، فيما صدر الديوان، أو الكتاب الأخير عن "دار الكاتب السوداني"، وهي، في الأصل "آلية" أنشأها، منذ أعوام، في القاهرة، بعض المبدعين والمثقفين السودانيين، حيث تهدف، وفق بيانها التأسيسي، إلى تذليل العقبات البنيوية والتاريخية الماثلة أمام نشر وتوزيع "الكتاب الأدبي والفني والثقافي السوداني"، وإلى "بناء جسر يعبر الكتاب من خلاله حدود المحلية الضيقة وينطلق الى خارج الحدود ويشغل موضعه الطبيعي في عصر الانفتاح العالمي وحوار الثقافات ليصبح جزءاً من حركة الثقافة الانسانية". مستعيناً بالرؤية البنيوية حول مفهوم المقدمات، أو التقديم للمنتوجات الثقافية، يذهب حيدر ابراهيم علي، في مقدمته، الى القول "لم أكن أرغب في كتابة مقدمة، فالمقدمة عادة هي بمثابة تعريف أو توجيه، بينما يفترض أن تقدم المواضيع نفسها بما تقوله لا بما يقال عنها. كذلك، لا داعي للتوجيه المباشر أو الخفي، لأن القارئ هو الذي يعيد خلق الكتابة وتصبح ملكاً صافياً له". ويستدرك حيدر ابراهيم، مبرراً "ولكن أردت بهذه الكلمات أن أبين أن هذه المقالات على رغم اختلاف المناسبات والأزمنة، يربطها خيط واحد في التفكير. فهي مشغولة بقضية الحرية، لذلك تتشابك مع قضايا العقلانية والتنوير والإبداع والحداثة. فكل هذه القيم والمبادئ مشروطة بالحرية. ونحن نعاني من غياب الحرية التي تطاردها الديكتاتورية والاصولية والسلفية والجمود، لذلك ظلت الحرية خائفة ومنحسرة في أوطاننا". وعليه، جاءت مواضيع الكتاب المتسلسلة حاملة للعناوين التالية "الإبداع والتخلف"، "ظاهرة العنف والتطرف"، "حدود اعتدال الإسلام السياسي"، "الأسس الاجتماعية للظاهرة الدينية"، "إلياس مرقص: فكرة التمايز النقدية"، "الاتجاه السلفي"، و"الحداثة المعكوسة في الفكر الإسلامي". في كتاب أسامة الخواض، تتقاطع ثلاثة مفاهيم أساسية، هي "الخطاب"، "المشّاء"، و"النسيان". ولذلك الخطاب مهمة مزدوجة تتمثل، وفق مرجعية الكاتب لمفاهيم ميشال فوكو وادوارد سعيد وعبد الكبير الخطيبي حول الخطاب، في "إنتاج خطابه الخاص، والشغل على نصوص الآخرين". حيث تنسج نصوص الكتاب "فضاءها الدلالي" من خلال الاشتغال على حقول معرفية وثقافية عدة، هي "الأدب، النقد، الإبداع، الخطاب السياسي، السوسيولوجيا، الثقافة، الحرب، المجاعة والخطاب التلفزيوني". وفي هذا السياق، يذهب المؤلف، من خلال ما يسميه بعض النقاد بپ"توطين المصطلح"، إلى القول "ولقد حاولت توظيف تلك المفاهيم لتحليل خطابات، انتجها السياق الثقافي والسياسي والإبداعي السوداني، كما حاولت نحت بعض المصطلحات مثل النسيان". "المشَّاء" مصطلح قصد به المؤلف توصيف وتحليل "تجربة الرحيل السودانية"، خلال العقد المنصرم، لا سيما وأن المؤلف، الذي انتهى به المطاف في اميركا أخيراً، قد تجول، خلال الفترة ذاتها، ما بين بلغارياوالقاهرة وليبيا واليمن وبيروت، هروباً من خيارين "الجنوب أو الموت". وفي هذا السياق، يقول أسامة الخواض "في اليمن، أعدت اكتشاف "رامبو" عبر رسائله الافريقية، وعبر سيرته الذاتية، وقد وجدت تشابهاً كبيراً بين تجربتينا. هنالك - في اليمن - أعدت اكتشاف المشّاء حين قال: أنا مشّاء الطرق الكبيرة". ويمضي اسامة، قائلاً "منذ ذلك الحين ابتدأت في نحت اسطورتي الخاصة عن "المشّاء"، واعتقدت - حينها - أن الكتابة ستكون البديل عما يسميه - ادوارد سعيد - الشعور بالبيتوتية. وغاليت في الأمر، حين اعتقدت أن الكتابة - كما قال ادورنو - ستصبح "لمن لم يعد عنده وطن، مكاناًَ للعيش" ويبدو أن الكتابة ستكون هي الفضاء الوحيد الممكن لكي يلتقي فيه الكتاب المنفيون". أما مفهوم "النسيان"، فنحته الكاتب بعد "تجربة شخصية مريرة انطلاقاً من السؤال الذي انتصب بعد ذلك: لماذا ينسى الصديق صديقه؟"، ويضيف الخواض "قادتني فكرة نسيان الصديق لصديقه - بعد تأمل - إلى فكرة نسيان العالم كله لوطني السودان، وبعد ذلك توصلت الى قناعة مفادها أن أية مقاربة جادة للمشهد الثقافي السوداني المعاصر - ومن ذلك تجربة جيلنا - لا يمكن أن تكون متماسكة من دون تبني مفهوم النسيان كمفهوم مركزي لا غنى عنه". وعليه، يتأسس مفهوم النسيان، في هذا الكتاب، انطلاقاً من مقولة محمد بنيس في حديثه عن العلاقة ما بين المركز والهامش الثقافي "هنالك قانونان أساسيان أولهما اجتماعي تاريخي، وثانيهما ثقافي، وهما رئيسان في خلق المركز وشروط تعامله مع الهامش". يتمثل ذلك، وفق تحليل الخواض، في "بنيتنا" الاقتصادية والاجتماعية الموسومة ب"التخلف" وهي ذات البنية "التي خلقت منا هامشاً ثقافياً، في علاقتنا بالمراكز الثقافية العربية الأخرى". حيث "ظل السؤال السوداني - إجمالاً - مطروحاً في الخطاب العربي السائد، في فضاء الإلحاق والاختزال المقرون بالتبسيط، ويبدو أن لذلك صلة بالطريقة التي عاد بها السودان من مكمنه في قاع النسيان العربي، بوصفه - أي السودان - هامشاً ثقافياً. ولم يكن هنالك وقت كافٍ للعبور من قاع النسيان الى مشهد الاكتشاف"؟ وضمن بنية التخلف هذه، يواصل الخواض. فنجد "أن للكاتب السوداني واجبات، ولكنه منعدم الحقوق، لأن المجتمع - أصلاً - لا يحتاج إليه. فبنية التخلف، وانعدام الاستقرار السياسي، وانهيار البنية التحتية للنشر، وغياب التقاليد والعادات المشجعة على الكتابة، كل ذلك ساهم في انزواء الكاتب السوداني في عتمة النسيان". على صعيد آخر، آثار نشر "دار الكاتب السوداني" لديوان الشاعرة نادية عثمان مختار الأول جدلاً واسعاً على صفحات جريدة "الخرطوم" الصادرة في القاهرة. كانت البداية، عندما نشر الصحافي يحيى فضل الله العوضي مقاله الاسبوعي تحت عنوان شديد اللهجة "مَن المسؤول عن إهدار مشروع دار الكاتب السوداني؟"، في ذلك المقال، وصف فضل الله الديوان ب"القبح والركاكة" وحمل على القائمين على إدارة ذلك المشروع، متسائلاً حول المعيار "الذي جعل هذا الكتاب يتسلل الى هذا المشروع الوليد"، مستنكراً "هل هذا النوع من الكتابات هو الذي ستساهم به دار الكاتب السوداني في إيصال الكتاب السوداني الى ساحات معارض الكتاب الدولية؟ هل ستحل هذه الركاكة أزمة غياب الكتاب السوداني داخل خريطة الكتاب العربي؟". كما حمل فضل الله، في غمرة هجومه الشامل على ديوان الشاعرة الغنائية نادية مختار، على الشاعرين الغنائيين فضل الله محمد رئيس تحرير "الخرطوم" والسر قدور محرر الصفحة الثانية في الصحيفة نفسها، اللذين وضعا، على وجه الترتيب، تصديراً ومقدمة للديوان "عودة للزمن الجميل". الأول أشار، في تصديره، إلى قاموس نادية الشعري، قائلاً "فكأنها تكتب للصحافة بلغة الشعر وتستعير مفردات الصحافة في نظم قصائدها"، مضيفاً "هي في بداية الطريق، ومن الظلم أن نعمل في الحكم على محاولاتها قواعد الشعر وأوزانه ومعاييره النقدية". فيما ذهب السر قدور الى أبعد، مشيداً "وقد استطاعت نادية عثمان مختار أن تعبر عن تجاربها ومشاعرها تعبيراً جميلاً وصادقاً"، ذاكراً "نادية عثمان مختار شاعرة جديدة لا لكونها اسماً جديداً يضاف الى قائمة الشاعرات السودانيات تميزاً وشعراء السودان اطلاقاً، ولكن لأنها ذات اسلوب وطريقة تعبر عن شخصيتها فهي لا تستلف من الآخرين". في العدد التالي مباشرة، رد السر قدور، تحت عنوان "حول ديوان الشاعرة نادية عثمان مختار: أحزان لا مبرر لها"، قائلاً "أن موقف يحيى "الانطباعي" من الديوان "لم يستخدم القواعد النقدية، حيث اتجه الى الأوصاف، فكرر كلمة الركاكة والابتذال اكثر من مرة"، مشيراً الى أن "موضوع الركاكة أو الابتذال موضوع نسبي"، موضحاً "أن تناول العمل الفني أو الأدبي يجب أن يتم من خلال الرؤية إليه ككيان قائم بذاته، وإظهار أوجه الكمال والقصور فيه، وليس بالوقوف خارجه، مع إرسال الأوصاف والنعوت"، متسائلاً في نهاية رده "هل وجود شعر ركيك يستلزم بالضرورة أن يتبعه نقد ركيك؟!"، الفنان التشكيلي حسان علي أحمد، الذي صمم الغلاف ووضع الرسومات الموازية للقصائد، رد، في عدد تالٍ، على مقال يحيى فضل الله، قائلاً "رسوماتي للديوان ليست من قبيل الاستسهال والمجاملة ولكن تقديراً للآخر وخصوصيته واختلافه". تحت عنوان "النية والعلامة مقاربة هادئة لحيثيات محاكمة يحيى فضل الله لپ"دار الكاتب" وتجربة ديوان "عودة للزمن الجميل"، كتب الناقد أحمد عبد المكرم، محرر الصفحة الثقافية في جريدة "الخرطوم" وأحد المؤسسين لمشروع "دار الكاتب السوداني"، معقباً "ومع ذلك تبقى القضية الأخرى المتعلقة بمسؤولية نشر هذا العمل وتعارضه مع مضمون البيان التأسيسي"، مقراً ذلك كپ"واقعة قائمة وصحيحة نعترف بالتساهل الذي تم بشأن معيارية التقويم"، مستدركاً "إلا أن ذلك لا يستتبع كل هذا التأويل المفرط في أنه - أي هذا العمل - يمثل اعتداءً على سمت الإبداعية السودانية المصون وانحطاطاً بشأنها الذي لا تملك دار نشر "مفردة" مهما كان لها من القدرة على نشر الأعمال الضعيفة أن تنال منه"، مضيفاً "كما أن ديواناً يمثل مشروع البدايات لصاحبته لا يستحق منا كل هذه القسوة التي تبلغ حد الإقصاء من حديقة الشعر والنفي من واحة الإبداع". ومن جانبها، تساءلت نادية مختار، قائلة "جاءت كلمة ركاكة تسع مرات وكلمة القبح ثلاث مرات وكلمة الابتذال ثلاث مرات في مقال الاستاذ يحىى فضل الله، فهل إلقاء النعوت والأوصاف الجارحة هكذا جزافاً يعتبر من حق الناقد؟ وهل هذه لغة نقدية موضوعية من الممكن أن تفيد أي مبدع بغض النظر عما إذا كان هذا المبدع في أول الطريق أو آخره؟ وهل يعامل النص الشعري ذو المفردة الجريئة على أنه أخلاقي أو لا أخلاقي؟ لمجرد أنه من فتاة؟ أم ماذا كان يعني يحيى فضل الله بالابتذال؟". لم يُعقب يحيى فضل الله بشيء. القاهرة - عبدالحميد البرنس