تشهد القصة القصيرة في السودان انتعاشاً في هذه الفترة، فقد نشط نادي القصة على مدار الشهور الماضية وعقد ندوات ناقشت تقنيات كتابتها واستحضرت تجارب عدد من الأسماء القصصية الرائدة وترافق ذلك مع مسابقات عدة أقامتها جهات مثل وزارة الثقافة ومركز عبدالكريم ميرغني الثقافي، أيضاً ينتظر ان تصدر دار ماجلان انطولوجيا القصة القصيرة السودانية باللغة الفرنسية من إعداد وترجمة اكزافييه لوفان وتضم نصوصاً لعبدالعزيز بركة ساكن، رانيا مأمون، وأحمد حمد الملك، ستيلا قايتنيو، شوقي بدري، عبدالغني كرم الله وغيرهم، وهي المرة الثانية التي تُترجم فيها مختارات من القصة القصيرة السودانية الى اللغة الفرنسية، فقد اصدر مركز فريدرك كايو الفرنسي في الخرطوم بالتعاون مع اللجنة الوطنية لليونسكو كتاب «التواصل الثقافي» وضمّ 10 نصوص قصصية سودانية في وقت سابق. كما شهدت الفترة الماضية صدور مجموعات قصصية عدة، منها «قصص بشرى الفاضل» عن دار الحضارة للقاص بشرى الفاضل، كما أصدر القاص عثمان شنقر باكورة انتاجه «ثلاثتهم دهاقنة حروبات لدنة خضراء»، وأضاف عبدالماجد عليش مجموعة ثالثة لسيرته القصصية بإصداره «المجالس» عن الدار العالمية للنشر. فيما فازت القاصة رانيا مأمون بمنحة النشر الخاصة بمؤسسة المورد الثقافي التي أصدرت لها مجموعتها القصصية الأولى «13 شهراً من إشراق الشمس»! ويبدو كل هذا كمؤشر على حيوية لطالما افتقرها المشهد القصصي السوداني نظراً لما ظل يعانيه من غياب للمنابر وضعف في حركة النشر، على رغم أنه كان سبّاقاً في الستينات من القرن الماضي، إذ أصدر أول مجلة عربية متخصصة في القصة القصيرة وقد وقف على تأسيسها وذيوعها الرائد عثمان علي نور. وما يبدو تتويجاً لهذا الحراك الفعّال الذي أسهمت به «الانترنت» ربما بدرجة أكبر، صدور انطولوجيا / مختارات، تضم نصوصاً ل31 كاتباً قصصياً سودانياً في إطار مهرجان الثقافة الأفريقية الثاني الذي أقامته الجزائر أخيراً، وجاءت بعنوان «غابة صغيرة» وقد أعدها وقدم لها الكاتب نصّار الصادق الحاج. وهذه الأنطولوجيا التي تقع في 423 صفحة من القطع المتوسط تلفت بصدورها خارج السودان، من الجزائر التي كانت أعطت الشعر السوداني فرصة سابقة في العام 2007 حينما أصدرت مختارات أعدها الكاتب ذاته بعنوان «تحت لهاة الشمس»، بالتالي يمكن القول إنها أول بادرة عربية في الاهتمام بالأدب السوداني الذي ظلّ لوقت طويل على هامش المراكز الثقافية العربية وكل أسمائه الابداعية مُختزلة في الفيتوري والراحل الطيب صالح! وقد ركز نصار الحاج في اختياراته على الأسماء القصصية التي برزت في العقود الاخيرة ولم يتوقف عند تجارب عدة سابقة وإن كان أشار الى بعض الاسماء مثل معاوية نور، خليل عبدالله الحاج، ملكة الدار محمد، الزبير علي، أبو بكر خالد، عثمان علي نور، الطيب صالح، خوجلي شكرالله، مصطفى مبارك، محمود محمد مدني، عثمان الحوري، علي المك، مختار عجوبة. ولعل السبب وراء ذلك ان غالبية هذه الاسماء الكلاسيكية نُشرت أعمالها في مختارات من القصة السودانية كانت صدرت ضمن «كتاب في جريدة» لليونسكو في العام 2008 من إعداد محمد المهدي بشرى، كما ان غالبيتها متوافرة على عناوين في المكتبة السودانية. وباستثناء إبراهيم اسحاق، عيسى الحلو، بشرى الفاضل، يحيى فضل الله، وصلاح الزين، فأكثر الكتّاب في «غابة صغيرة» من جيل الثمانينات، وفي معظمهم لم تصدر لهم مجاميع قصصيّة على رغم حضورهم على مستوى ملاحق الثقافة في الصحف وفي المجلات والدوريات العربية ورقية كانت أم إلكترونية. ولم يهتم نصار الحاج بالترتيب الهرمي للتجارب، الأقدم فالأحدث. لم يعتمد فكرة «الجيل» أو ان ذلك لم يتضح في الكتاب، على الأقل كما هو ملحوظ في مختارات سابقة، ويرى نصار الحاج في مقدمته، ان من الصعوبة، في هذا الوقت، الحديث عن كتابة «اجيال»، فتجارب الكتّاب صارت أكثر تواصلاً وأكثر تحولاً وأكثر عبوراً وقابلية لتبَصُّرِ المعطيات الجديدة! لكنه يقر بأنه لم يكن محايداً في اختياراته، وانه تحيّز لتجارب العقود الاربعة الأخيرة، وفي هذا الإطار جاء تبويب الكتاب مقدماً للنماذج الأكثر جرأة في انفتاحها على التحديثات التي حصلت في مجال الفن القصير، كما يلفت في الكتاب تمثيله لتجارب بعض الكتّاب بنصين ولبعضهم الآخر بثلاثة نصوص أو أكثر. ومطالعة الكتاب توقفك على التطورات التقنية التي أحرزتها القصة القصيرة السودانية في العقود الأخيرة. ولئن ظل المشهد النقدي يتحدث لوقت طويل عن تأثر القصة السودانية بالتجارب المصرية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، بل حتى في بعض التجارب الحديثة، فإن هذه المختارات تكشف ان ثمة خصوصية لافتة بدأت تبرز في القصة السودانية بخاصة في تجارب ابراهيم اسحاق وعيسى الحلو مروراً بمنصور الصويم وستيلا قايتنيو وبركة ساكن ومحمد خلف الله وعلي عيسى وسواهم، ويقاس ذلك بالطبع بانشغالاتها المضمونية حيث انفتحت في معظمها على معطيات الحياة السودانية، في العقود الأخيرة، في المدينة والريف، وشُغلت على نحو خاص بالحروب التي شهدها السودان، خصوصاً حرب الجنوب، وإفرازاتها كالهجرة والنزوح والجوع والتشرد، ولعل ثمة مطابقة للعنوان «غابة صغيرة» مع الطقس الأفريقي الذي يطبع بعض النصوص، خصوصاً التي لآرثر غبريال ياك وستيلا قايتنيو، وهما من جنوب السودان. لكن، إن قرأنا في دلالة «الغابة» ما يفيد التداخل والتشابك ما بين مكوناتها، فإننا نجد ان أكثر النصوص استفادت مما يزخر به هذا البلد الوسيع من تعدد وتداخل ثقافي ما بين قبائله العربية والافريقية، ويبرز هذا التعدد بالنصوص في ما تقاربه من عادات وتقاليد وفضاءات مكانية وفي استثمارها للاساطير والمحكيات الشعبية، هنا وهناك، وفي تطعيمها اللغة العربية ببلاغة «عاميات» هذه البيئة المتميزة بمزاوجتها بين العروبة والأفريقانية.