على عتبة العنوان من كتاب "في الأدب السوداني الحديث" للناقد عبدالمنعم عجب الفيّا، وقفت مليًا استذكر النماذج التي لن يكون في مقدور الكاتب أن يتجاوزها في كتابه، إن أراد له أن يكون إضاءة وافية لماهية هذا الأدب الحديث في السودان، ولما كثرت عليَّ النماذج التي تداعت بعفوية في جلاء صورها الناصعة، ساورني كثير من الشك في أن كتابًا تبلغ صفحاته "418" صفحة من القطع المتوسط، سيكون من العسير عليه أن يقدّم صورة متكاملة وشاملة للأدب السوداني الحديث، ومرد ذلك أن مفردة "الأدب" تشير باتجاه فروع عديدة، تتوزّع ما بين الشعر والقصة القصيرة، والرواية، والمقالة بصنوفها العديدة وفي أعلى سنامها النقد، وما إلى ذلك من ضروب الأدب المعروفة.. التي يبدو أمر تناول نماذج لها في عدد هذه الصفحات التي أشرت إليها موسومًا بالعسر إلى لم يكن الاستحالة، إلا إذا أخذنا في الاعتبار الطرق لمحًا، أو الإشارة في مسح عابر هو إلى الإيجاز المخل أقرب منه إلى الإيضاح المفيد، وبخاصة إن كان الحديث عن "الأدب السوداني"، الذي ظل لسنوات عديدة – وما زال – يشكو من ضعف الحضور في المشهد العربي، إلا من نماذج محفوظة في الذاكرة العربية، تُستدعى كلما ذكر الأدب السوداني، وكأنها الصورة الأمثل، والجديرة بالحفاوة من كراسة الأدب في ذلك البلد الأسمر. يتألف الكتاب من ثلاثة أبواب، وقد آثر عجب الفيّا أن يقدّم نموذج الشاعر والأديب السوداني حمزة الملك طمبل (1893م – 1960م)، بوصفه واضع اللبنات الأولى لمعمار الأدب السوداني الحديث، في مقال تحت عنوان "طمبل والتأسيس للأدب السوداني الحديث"، وقبل أن يتبادر إلى ذهن القارئ أي التباس في ما يخص الإطار الزمني غير المحدد بصورة قطعيًا وفق مفردة "الحديث"، فإن المؤلف يستهل بإشارة إلى أنه يقصد بالأدب السوداني الحديث ذلك الذي بدأ في الظهور مع بداية النشر الحديثة من مطابع وصحافة ومن انتشار للتعليم عبر المدارس النظامية، المقرونة جميعها ببداية الاحتلال الإنجليزي للسودان في سنة 1898م، مشيرًا ظهور جريدة "حضارة السودان" في العام 1919م بوصفها أول صحيفة وطنية وتولى رئاسة تحريرها الأستاذ حسين شريف، كما ظهر أول كتاب "شعراء السودان" في العام 1923م ليمثل أول كتاب في الأدب السوداني بالوسائط الحديثة، أعده مخائيل نعيمة، وحوى تراجم وقصائد مختارة ل(37) شاعرًا سودانيًا ممن يلتزمون بالقصيدة العربية لغة ومبنى.. ويذكر المؤلف أنه وبعد أربع سنوات من صدور "شعراء السودان" بسمته التقليدي، ظهرت أولى بوادر التجديد والدعوة إليه من خلال كتابين هما "أعراس ومآتم" لمؤلفه أمين علي مدني، و"الأدب السوداني وما يجب أن يكون عليه" لحمزة الملك طمبل، وكلا الكتابين صدرا في العام 1927م. أمام هذين الكتابين مال المؤلف إلى كتاب "طمبل" أكثر من كتاب صاحبه "مدني" مكتفيًا بالإشارة إلى أن كتاب الأخير "تضمن نماذج من شعره التجديدي ومقالات متمردة في النقد الأدبي والاجتماعي"، منصرفًا بالكلية إلى كتاب "الأدب السوداني وما يجب أن يكون عليه" الذي أراد له مؤلفه "طمبل" أن يكون مقدمة نظرية لديوانه الشعري التجديدي "ديوان الطبيعة" الصادر في العام 1931م، ساحبًا رؤيته من ثم لتكون أساسًا للصورة التي ينبغي أن يكون عليها الشعر السوداني. ويكشف عجب الفيّا عن الصراع الدرامي الذي خاضه الشاعر "طمبل" من أجل طرح رؤيته التجديدية والهجوم الكاسح الذي شنّه على الشعراء المقلدين، عائبًا عليهم محاكاة بنية القصيدة العربية التقليدية، وما يصحب ذلك من تخميس وتشطير ومعارضة، إلى الحد الذي وصف فيه "من يمارس التشطير كمن يسكب من روحه في كأس غيره فيصير الكأس مزيجًا من روحين"، ولم تخلُ لغة "طمبل" في سياق هجمته من كلمات مدببة الحروف، وجمل يطل منها لسان الاستهزاء والازدراء والسخرية من شعراء لكان لهم حضورهم اللافت في المشهد الشعري آنذاك، داعيًا إياهم إلى الارتباط بمكونات وموروثات الأمة السودانية، بعيدًا عن استدعاء نماذج البيئات الأخرى بحسب مقتضيات القصيدة العربية التقليدية، خالصًا من ذلك إلى إجمال رؤية "طمبل" حول الأدب السوداني الذي يسعى إليه وينادي به، ويقاتل من أجل إبرازه والتي ضمنها بقوله: "نريد أن يكون لنا كيان أدبي عظيم، نريد أن يُقال عندما يَقرأ شعرنا من هم في خارج السودان: إن ناحية التفكير في هذه القصيدة أو روحها تدلّ على أنها في السودان، هذا المنظر الطبيعي الجليل الذي يصفه الشاعر هي حالة السودان، هذا الجمال الذي يهيم به الشاعر هو جمال نساء السودان، نبات هذه الروضة أو هذه الغابة التي وصفها الشاعر ينمو في السودان".. ويمضي الباحث الفيّا في استقصاء رؤية "طمبل" من خلال شعره، ومدى التزامه بما أشار إليه في رؤيته، والتقاطعات والاتقاءات الواردة في سياق هذه الرؤية مع مدرسة الديوان في مصر، وأفكار الشاعر والأديب الإنجليزي ماثيو آرنولد. وينتقل الباحث الأديب معاوية محمّد نور، الذي لم يعمّر سوى بضع وثلاثين عامًا؛ لكنه أحدث ثورة كبيرة في مجال الكتابة النقدية، دفعت بالأديب الكبير عبّاس محمود العقّاد إلى رثائه بقصيدة دامعة القوافي، مشيرًا إلى عبقرية "نور" بقوله: "لو عاش معاوية لكان نجمًا مفردًا في سماء الفكر العربي". ويرسم عبدالمنعم صورة لحياة المعانة التي عاشها معاوية، وكيف أنه آثر دراسة الأدب على الطب معاندًا بذلك رغبة أسرته، وهروبه إلى مصر التماسًا لدراسة الأدب، والتحاقه بالجامعة الأمريكية ببيروت، وتخرجه فيها في العام 1928م، مبينًا انحياز معاوية إلى جانب العقّاد، مناصرًا إياه في وجه الحملة التي استهدفت شعره ورأت فيه فكرًا محضًا خاليًا من العاطفة والإحساس، مما دفع معاوية إلى الرد على هذه "التهمة" بالقول: ".. فات هؤلاء أن أقصى ما يرتجيه الشاعر أن يترجم العاطفة والإحساس إلى لغة الفكر والمنطق، ذلك أن العاطفة لا يمكن أن يعبّر عنها بعاطفة وإنما سبيل التعبير عنها هو اللفظ، واللفظ أداة الفكر لا أداة العاطفة، ويجب أن نزيد على هذا غرض الشعر الصحيح، هو إثارة عاطفتك، لأن خبر موت أحد أقاربك يثير عاطفتك وليس هنالك من يقول إن هذا الخبر شعر وإنما غرضه الأسمى هو إرضاء وتهدئة العاطفة المفكرة." ويؤكد الباحث أن معاوية نور أول أديب عربي جاء على ذكر مصطلح "المعادل الموضوعي"، وأول من كشف عن مصطلح "تيار الوعي"، مستفيدًا في ذلك من فتوحات علم النفس. وفي مقال ذا صلة بالموضوع السابق يتناول المؤلف في المقال الثالث في الباب الأول "الطيب صالح وعبقرية معاوية نور"، عارضًا للمقدمة التي كتبها الراحل الطيب صالح للطبعة الثانية من كتاب "من أدب معاوية محمد نور" لمؤلفه السُنّي بانقا، وكشف فيها المأساة التي تعرض لها معاوية في حياته وكان دور الإنجليز فيها كبيرًا، حيث نفثوا عليه ذكائه الوقّاد ومعرفته الكبيرة بالأدب الإنجليزي بحيث بات يفوق كثيرًا منهم في هذا المجال، عاقدًا نوعًا من المقارنة بين شخصية مصطفى سعيد في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" وشخصية معاوية نور من حيث التوجه الاشتراكي الفابياني لدى الشخصيتين، وبعض الملامح الأخرى التي يشير إليها المؤلف. ويطل الشاعر التيجاني يوسف بشير في المقال الرابع عبر دراسة الباحث لمقال كتبه الشاعر الدكتور محمد عبدالحي تحت عنوان "الرؤيا والكلمات – قراءة في شعر التيجاني يوسف بشير"، مبينًا أن عبدالحي استطاع من خلال فصول كتابه الخمس أن يستخلص النظم الجمالية التي وسمت شعر التيجاني في ديوانه الوحيد "إشراقة"، لتغدو القصائد كلها وفق دراسة عبدالحي قصيدة متصلة الحلقات. خامس مقالات الباب الأول "عبدالله الطيب وعمود الشعر العربي"، تناول آراء الراحل الدكتور عبدالله الطيب المنحازة بالكلية للقصيدة العربية التقليدية، إلى الحد الذي ألف فيها كتاب "المرشد في فهم أشعار العرب" بأجزائه الأربعة الذي قال عنه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين :"هذا كتاب ممتع غاية الإمتاع، لا أعرف أن مثله أتيح لنا في هذا العصر الحديث". ويشير المؤلف الفيا أن افتتان عبدالله بالقصيدة العربية بلغ حد تفضيلها على الشعر الإنجليزي بالتخصيص والأوربي بالعموم، حيث يأخذ الطيب على الشعر الأوروبي "التطويل وضعف النغم وكثرة التفصيل والتفريغ مما لا حاجة إلى لحاق البيان الوجداني الشعري إليه.."، خالصًا من ذلك إلى بيان اتجاه بوصلته الشعرية بقوله: "وقد ثبت في فؤادي ثباتًا راسخًا أن خير الشعر ما كان مستقيمًا سليمًا ناصع المعاني يفصح بالأغراض إفصاحًا ولا يجنح صوب الغموض والإبهام والتكلّف". ويعرض الباحث إلى موقف طه حسين من شعر عبدالله، وامتداحه لنصاعة بيانه، في ديوانه "أصداء النيل" آخذًا عليه الجنوح نحو إيراد الغريب والحوشي من المفردات، الأمر الذي وجد فيه شانئ شعر عبدالله الطيب الفرصة لتوجيه سهام النقد، بضراوة لم يقف أمامها الطيب ساكنًا إذ رد الهجوم بأعنف منه إلى غاية قوله: " وتعرض لأصداء النيل من بعد أناس ضعفاء، بعضهم نقل كلام الدكتور طه حسين دون تدبّر له، وبعضهم تحامل يكرر كلام بعض غربان السياسة الناعقة وحمرها الناهقة وبغاثها ذي الصياح الرتيب، وبعضها تعمّد الظلم إما بروح نفاسة، وإما بسواد قلب حسود..". وعلى خطى طمبل ومعاوية نور الجانحة نحو التجديد يجئ الحديث عن "محمد محمد علي ناقدًا ومفكرًا"، حيث يشير مؤلف الكتاب إلى أن البحث الذي قدمه محمد علي "الشعر السوداني في المعارك السودانية" تتجلى نزعته الواقعية بصورة واضحة، كما أن كتابه "محاولات في النقد" كشف عن سعي محمد علي إلى إيجاد لغة نقدية بديلة، مبينًا أن الوقت قد تجاوز الأدوات النقدية التقليدية التي تبحث عن المحسنات اللفظية والبديعية في القصيدة، وعلى هذه الفرضية مقرونة مع الواقعية أعمل علي فكره في المنتج الشعري المعروض وقتذاك، ولعل من أبرز ما كتبه في هذا المجال تعرضه لموضوع الغموض في شعر التيجاني يوسف بشير، بإيراد نماذج أأشار الباحث إلى أن علي خلط فيها بين فكرته عن الغموض، ورؤيته لما يجب أن يكون عليه الشعر. ويمضي الكاتب في تخير نماذجه لبيان وجه "الأدب السوداني الحديث" من خلال المفكر السوداني جمال محمد أحمد، معتبرًا أنه صاحب أحد أميز ثلاثة أساليب في النثر السوداني الحديث،. ثم يعرض المؤلف إلى كتاب "مهارب المبدعين" للدكتور النور حمد، مفندًا اختياره لشخصية معاوية محمد نور نموذجًا لهرب المبدعين. الباب الثاني من الكتاب اشتمل على تسعة مقالات تناولت أولاً "الطيب صالح والنقد ما بعد الكولونيالي"، حيث يشير إلى أن النقد ما بعد الكولونيالي يعنى بأدب ما بعد الاستعمار المناهض للخطاب الاستعماري والرافض للهيمنة الإمبريالية والمركزية الثقافية الغربية، مع تحريضه للاستقلال السياسي والثقافي والتحرر الوطني الكامل، كما عرض في مقاله لموقف إدوارد سعيد من رواية موسم الهجرة إلى الشمال، عاقدًا مقارنة بينها وبين رواية "قلب الظلام". أما في المقال الثاني فيتناول المؤلف "الخصائص الأسلوبية عند علي المك" مشيرًا على أن خاصية السخرية والتهكم تمثل أبرز الخصائص الأسلوبية التي تميز المك، ومن علي المك ينتقل المؤلف إلى "حكاية البنت التي طارت عصافيرها" للدكتور بشرى الفاضل، لافتًا إلى أن الفاضل قفز بالقصة القصيرة السودانية رأسيًا بعد أن سارت ردحًا من الزمن أفقيًّا، كما أنه ضخ في جسدها الهزيل طاقة ودماء جديدة. وقريبًا (قرب زمني) من الدكتور بشرى يتناول المؤلف منجز الأديب والشاعر يحيى فضل الله الذي اشتهر بتداعياته التي كان مسرحها جريدة "السودان الحديث"، باحثًا في أسباب عدم تسمية يحيى لنصوص القصصية وتركها جميعًا تحت لافتة "تداعيات" فقط. كما يكتب عجب عن رواية "صباح الخير أيها الوجه اللامرئي الجميل" للروائي عيسى الحلو، مشيرًا على أوجه التقائها مع رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، ثم يتناول الكاتب كذلك رواية "الطريق إلى المدن المستحيلة" للروائي أبكر آدم إسماعيل، واصفًا إياها ب"الرواية الصاعقة"، موردًا ما كتبه الروائي صنع الله إبراهيم عنها. كذلك تناول الكتاب المنظور السودانوي عند القاص أحمد الطيب زين العابدين من خلال مجموعته القصصية "دروب قرماش"، وحديث عن شعرية القص لدى عادل القصّاص، والنص السردي "قيامة الزئبق – فصل في سيرة مرجان مورغان مورغاي" للأديب المحامي كمال الجزولي. أما الباب الثالث فيعود الباحث إلى الشاعر الدكتور محمد عبدالحي مستجليًا النظم الجمالية في أشعاره، وفي ذات السياق يكتب عن أشهر دواوين عبدالحي "عودة السمندل" باحثًا في رمزيتها، كاشفًا عن "التناص في قصيدة سمندل في حافة الغياب"، كما يعود مرة أخرى لكمال الجزولي من باب الشعر قارئًا قصيدته "شهقة النضار"، مختتمًا بإيراد نظراته في ديوان "عاليًا.. عاليًا مثل شهيق الحسرة" للشاعر محمد عبدالقادر سبيل. يمكن القول إجمالاً أن الكتاب فلح في تقديم نماذج مضيئة تمثل جانبًا من صورة الأدب السوداني الحديث وقف الإطار والإيضاح الذي بينه المؤلف عجب الفيّا لمفهوم "الحديث"، وإن كنت أرى أن الكاتب أغفل أسماء لها من الصيت والمكانة الأدبية ما لا يحمد لمن يتناول الأدب السوداني أن لا يقف عندها طويلاً ناهيك أن يغفل تمامًا الإشارة إليها ولو لمحًا؛ ومن بين هذه الأسماء الشعراء صلاح أحمد إبراهيم، ومحيي الدين فارس، ومصطفى سند، ثم هناك الروائي إبراهيم إسحق، غير أن أكثر ما لفتني في هذا الكتاب الغياب التام لأي صوت نسائي أدبي وهو أمر كان يجدر بالمؤلف أن يلحظه، وإن كنت آمل أن يفعل ذلك في مقبل مؤلفاته.