تعتبر تجربة الفنان عبدالحليم الرضوي واحدة من التجارب الرائدة لا في السعودية والخليج فحسب، بل في الوطن العربي. فالتجربة التي انطلقت مطلع الستينات من أكاديمية الفنون في روما، عبر اطلاع ومعايشة للتجارب العالمية، كانت تختزن في الذاكرة سمات خاصة لعالم عربي وإسلامي ذي حضارة واسعة تمتلك البيئة والرموز والعناصر الجمالية ذات الثراء والتنوع. كان الرضوي وهو في روما يحمل تراثاً وأدوات أساسية ورؤية أخذت تتبلور تدريجاً في اتجاه هوية عربية إسلامية تجمع الأصالة والمعاصرة. وفي لوحات الرضوي، شاهدناها اخيراً في صالة حمورابي - عمّان، نجد سمات الهوية في إصالتها عبر الرموز العربية والإسلامية ممثلة في الأهلة والأقواس والزخرفة والبيئة الصحراوية الجمل في تشكيلات تجمع بين الواقعية والتجريد، الرمال، الشمس... الخ، ولكنك تجد المعاصرة في التكنيك اللوني وفي انفجارات الأشكال والتكوينات التي تقترب في بعضها من السريالية. عن المعرض، وعن تجربة الفنان الممتدة ما يزيد على أربعين عاماً، هذا الحوار: يلاحظ مشاهد لوحاتك ارتباطاً وثيقاً بالبيئة من جهة، وبالتراث والرموز العربية والإسلامية من جهة ثانية، والى ذلك فلوحتك معاصرة تفيد من الفن العالمي... كيف استطعت الجمع بين هذه العناصر منطلقاً من البدايات؟ - في بداياتي، قبل حوالى خمسين عاماً، لم تكن هناك حركة معروفة للفن العربي، ولم نكن نسمع بمدارس فنية، وكان من المفترض أن أتوجه لدراسة الطب بحسب رغبة الأهل. وحين قررت السفر الى روما لدراسة الفن عام 1960 كان الأمر في غاية الغرابة وإثارة الاستهجان. في ذلك الوقت كنت ما زلت أرسم بالفطرة، وبأسلوب واقعي، حيث تحضر البيئة في صورة كبيرة، وكانت نصائح المدرسين لي، وكذلك زملائي العرب في أكاديمية الفنون في روما من عراقيين وجزائريين ومصريين، أن أطلع على المتاحف وصالات العرض لأرى المدارس الحديثة في الفن، فكان أن جذبتني الانطباعية التأثيرية والتكعيبية والتعبيرية ورؤاها المختلفة، وبدأت أتأثر بمجموعة كبيرة من الفنانين الأوروبيين، وأخذت أنتبه الى أهمية اللون والخط والحركة...الخ. دعنا نتوقف قليلاً قبل مرحلة الدراسة الأكاديمية، كيف تجلت موهبتك لأول مرة، ومن أين كنت تنهل مادة تجاربك الأولى؟ - أذكر أن موهبتي قد ظهرت في وقت مبكر، في صورة "خربشة" على الحيطان والورق بالفحم والطباشير، ثم أخذت أرسم خرائط لفتت انتباه المعلم. وفي 1950 دخلت المعهد العلمي السعودي، ووجدتني في تنافس مع طلبة قادمين من الصين وإندونيسيا ويجيدون الخط والرسم، وكسبت إعجاب المدرسين والطلبة بما أرسم، وكان حضور القرية والنخيل قد بدأ منذ ذلك المعرض الأول. فأنا كنت أسكن في طرف المدينة، وطريقي تمر في أزقة وبيوت ضيقة وبهائم، وكانت تشدني الجبال الجرداء المحيطة بمكة المكرمة، ويجذبني مشهد الطواف حول الكعبة، وأجلس فوق الجبل وأشاهد المدينة تحتي... هذه المشاهد وسواها شكلت جزءاً من ذاكرتي البصرية الأولى. المعرض الأول كيف كان بالنسبة إليك؟ - المعرض في المعهد السعودي كان مشجعاً لبداية واقعية كلاسيكية، المعرض الأول الحقيقي كان في روما في سان مارغو وأذكر أنني بعت سبع لوحات وكان هذا أمراً مشجعاً لبداية جديدة، فقط بدأت أدرس اللون والسطح، وظل الموضوع هو الطبيعة الصامتة، بعدها بدأت أرسم البيوت والشوارع وأهتم بالفن العالمي، وكان أول من تأثرت به "فان غوغ" وخصوصاً الحركة اللولبية التي صارت تحضر في أعمالي. وفي إسبانيا عام 1974 تنبهت الى الفن العربي، وبدأت أسعى الى تشكيل هوية خاصة بي، وأن أرسم عالمي وبيئتي، وعرفت أن الفن يحمل إحساساً إنسانياً، وأن لكل لون خاصية وهوية، وأخذت ألوان الصحراء الزاهية - الفاتحة بحرارتها ووهجها تحتل حيزاً في أعمالي. ولكن ظل مفهوم الفن كرسالة عندي فوق التجريب العبثي. تتحدث عن هوية عربية للفن، ولتجربتك الفنية... عدا البيوت والعمارة، ما العناصر التي تشكل هذه الهوية؟ - هناك عناصر مشتركة في العالم العربي، ثمة الحروف العربية التي تحضر في أشكالها الفنية المجسدة والمجردة، وقد شكلت لدى بعض الفنانين عالم لوحاتهم كله، أما أنا فتدخل الحروف إلى لوحتي في صورة كلمات، وقليلاً ما تبرز قيمتها الحركية الزوايا ولين الخط واستدارته، عندي دائماً فكرة أو مقولة. أنا أعتبر أن الحضارة العربية ضخمة وواسعة المعالم وفيها الكثير من التفاصيل القابلة للاستخدام، هناك الزخارف والملابس والعمارة، وهناك القيم المعنوية مثل المحبة والتسامح والعدل والسلام... هذه كلها يمكن أن تظهر في العمل الفني. وإذا أنا استخدمت تقنيات غربية، فذلك لخلق التواصل بين التراث الأصالة والمعاصرة. نحن علينا أن نبرز الجوانب الروحانية في مواجهة طغيان المادية في الغرب. في لوحتك مجموعة من الرموز التراثية لا تظهر مباشرة، وإنما في صورة مجردة..؟ - طبعاً... الفن يراعي الشفافية. أنا مثلاً إنسان متفائل، لهذا تجد الأهلة جمع هلال، والطيور التي تعني التحليق، والمثلثات من الملابس والعمارة... وغيرها من رموز عربية أقوم بتجريدها الى أشكال تخدم رؤيتي في اللوحة. وتقف وراء هذا التطويع ثقافة الفنان وبساطته - عفويته في آن. فالثقافة والتجربة والانفعال، عناصر تصنع اللوحة من لون وحركة وخط... والمتذوق الواعي يستقبل العمل بعقله ووجدانه، والنظر هو وسيلة. نعود الى ذاكرتك البصرية، ما دور الطفولة أولاً، وما دور العناصر الأخرى تالياً في تشكيلها؟ - في الطفولة يكمن المخزون الحضاري. بعد الطفولة يبدأ التشكل المعرفي والخروج الى العالم والتطور، ولكن أهم العناصر، بعد الموهبة، هي التجربة، فثمة تجارب تقود الى العبث والعدمية، وتجارب تذهب في اتجاه الالتزام والفن الإنساني الذي يعالج قضايا الإنسان مهما كانت هويته. والأهم هو الصدق، حتى لا يغرق الفنان في الحرفية والتصنيع. أستاذ رضوي، منذ بدايتك الى الآن، كيف وصلت الى هذا المستوى من التجريد؟ - طبعاً بعد النقلة الأولى من الواقعية البسيطة الى الانطباعية ثم الى التجريد الذي يتناول التراث العربي في صورة جديدة، وقد حدثت النقلة الأخيرة في إسبانيا أمام حضارة العرب والمسلمين في الأندلس، ومنذ نصف قرن أقوم بتطوير عملي في إطار العلاقة بين التراث والمعاصرة... كما أقوم بجمع أعمال عربية وعالمية تنضوي في هذا الإطار، وسأقوم بفتح متحف للفن العربي المعاصر في مدينة غرناطة، على غرار متحف الرضوي في جدة. الى كونك فناناً، أنت صاحب "صالة الابتكار" و"متحف الرضوي". كيف توظف هذين الموقعين الفنيين؟ - منذ السبعينات رحت أجمع أعمالاً فنية ذات صبغة عربية أو أوروبية متأثرة بالفن العربي، وفيها حال إنسانية، هذه اللوحات هي في اعتقادي ذات قدرة على البقاء وستكون من القيمة بحيث ترتفع مكانتها في الفن العالمي، ولهذا فهي جزء من مقتنيات المتحف. وفي الصالة نحاول عرض أعمال فنية ذات سوية عالية، عربية وسعودية. ما مدى الحرية التي تتمتع بها صالات العرض عندكم؟ - تعرف أن لنا وضعاً خاصاً، فكل ما فيه إثارة جنسية وعري وتشخيص للإنسان أو الحيوان، لا يمكن عرضه. ما عدا ذلك، ليس هناك مشكلة، هناك نحاتون يعرضون منحوتات مجردة، ونحن نتحدث عن التحديث في الفن الذي يعني التجريد. ففي التجريد حرية أكبر من التجسيد. ولهذا فالفن في السعودية أكثر تطوراً منه في بقية دول الخليج مثلاً. لدينا الآن فنانون متنوعون، فتجربة شادية عالم مختلفة عن تجربة عبدالله الشيخ وطه صبان ومنيرة موصلي تختلف عن إلهام بامحرز، صحيح أن أكثر الغاليريات توجد في جدة والرياض، لكنها منتشرة في المدن كلها تقريباً. ماذا عن النقد، هل له حضور فاعل في الحركة الفنية؟ - مع الأسف فالنقد غائب حتى على الصعيد العربي، وعدا المتابعات الصحافية - وهي لا ترقى الى مستوى النقد المتخصص - لا يوجد من يقيّم الفن، حتى أن الأعمال الجيدة يمكن أن تعرض الى جانب أعمال لا تملك الحد الأدنى فتختلط المستويات. وحين أطالب بفرز الجيد من الرديء، يتهمونني بالرغبة في قمع الآخرين، لكن المسألة هي للتمييز بين المستويات المختلفة. بحسب تجربتك، أنت من الجيل المؤسس، ما البصمة التي تعتقد أنك تركتها في أعمال الجيل اللاحق؟ - نحن من الجيل الذي كان يبحث عن هوية عربية للفن، وأعتقد أن هذا الجيل منتشر في الوطن العربي، فمن فاتح المدرس في سورية، وأحمد نوار وإنجي أفلاطون وسواهما في مصر، وجواد سليم وضياء العزاوي في العراق... كان الفن العربي يأخذ مكانه في التجريب ضمن سياق الهوية العربية، وترك آثاراً مهمة على صعيد التعامل مع اللون والضوء والخط وسوى ذلك من العناصر. وقد قمنا، من خلال جمعية الثقافة والفنون في جدة، بإقامة معرض عربي متنقل من تركيا الى إسبانيا وغيرها، ويشجعنا نجاحه على تجربة إقامة معرض عربي يتنقل في الوطن العربي، وكذلك سنقيم معارض لكل بلد عربي في البلدان الأخرى، لأن غالبية الفنانين العرب في بلد ما لا يعرفون ما يجري خارج بلدهم.