تحتفل فرنسا بالذكرى المئة لولادة الكاتب أنطوان دو سانت اكزوبري صاحب "الأمير الصغير" و"طيران الليل" وسواهما من الكتب التي تعنى بعالم الطيران والفضاء ولكن أدبياً وروائياً. والكاتب الذي قضى شاباً قبل 56 عاماً هو من الاسماء البارزة جداً والشعبية في حركة الأدب الفرنسي المعاصر. وعرفت رواياته رواجاً كبيراً في الأوساط الأدبية والشعبية. ويحتل اسمه مرتبة بارزة وسط أدباء فرنسا على رغم انحسار ترجمته عربياً. هنا قراءة في أدبه وظاهرته الفريدة. عندما يكون طموح الانسان في حجم الفضاء والنجوم تضيق الحروف والعبارات. هذا ما يتجلى في مأساة الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت اكزوبري 1900 - 1944 الذي اختطفته المنية وهو في غمرة عطائه الأدبي. رحل هذا الرجل وهو يحمل سرّ الثنائية التي عاشها: حب الحياة وسطوة الموت المترصد في الفضاء بين النجوم. استوحى سانت اكزوبري أسلوب كتابته الأدبية من تقنية الطيران. فكما أن الطيار يربط القارات والأقاليم بعضها ببعض فكذلك الكاتب المثالي - وهو كذلك - يربط الناس بعضهم ببعض. يعرف الأول دروب الفضاء ومسالكه ومطباته الجوية، ويفقه الثاني دروب اللغة وشعابها ومضائقها وأرخبيلاتها وأنواءها. ففي عام 1928 - وكان عمر الكاتب 28 عاماً - كتب رواية "بريد الجنوب" التي يتقاطع فيها الخيال مع الشهادة. وكأن الكاتب هو الطريق المؤدي اليه. إن "بريد الجنوب" رواية تتأمل في الموت، كتبها سانت اكزوبري في الخلوة التي عاشها في "كاب جوبي". ثم كرّت الكتب التي بلغ عددها أحد عشر كتاباً: "طيران الليل" 1931، "أرض البشر" 1939، "طيار حربي" 1942، "رسالة إلى رهينة" 1943، "الأمير الصغير" 1943. وبعد وفاته صدرت البقية الباقية: "قلعة" 1948، "رسائل الشباب" 1953، "دفاتر" 1953، "رسائل إلى أمه" 1955، "معنى الحياة" 1956. وكلها كتب نستطيع أن نعدّ الطائرة بطلتها. وكانت الطائرات التي كتب عنها سانت اكزوبري طائرات قديمة لها أجنحة بدفتين متوازيتين، وكانت محفوفة بالمخاطر. كما أن مهنة الطيّار الحربي كانت شبه انتحارية، فمن زاولها يرى الموت دائماً نصب عينيه. لا بل هناك تعايش مع الموت وتداخل مستمرّ بين الموت والحياة. وهنا تكمن فلسفة سانت اكزوبري الوجودية. أجل، يطفح العالم بالوجود، كما يطفح بالعدم. وعندما تختلّ المعادلة، تهوي كفّة الميزان وترجح كفة الموت ويسقط الطيّار مرة هنا ومرة هناك، حتى يسقط أخيراً في براثن الموت. وهذا ما حصل لسانت اكزوبري نفسه. ففي عام 1933 تعرّض لحادث طائرة في سان رافائيل، وعام 1934 تعرض لحادث آخر في فييتنام وسقطت طائرته في نهز ميكونغ. وعام 1935 اصطدمت طائرته بأحد الكثبان الرملية في الصحراء الليبية فأنقذته من الموت إحدى القبائل البدوية. وتتوالى حوادث الطيران سنوياً، ويتعرض سانت اكزوبري للكسور والارتجاجات حتى 31 تموز يوليو عام 1944، إذ سُمح للكاتب أن يطير للمرة الأخيرة، لأنه تجاوز العمر المطلوب في الطيران، فحلقت طائرته فوق منطقة غرونوبل، فطاردتها طائرات الاحتلال الألماني وأسقطتها قرب جزيرة كورسيكا. وقتل سانت اكزوبري. وعلى رغم مخاطر المهنة، كان الكاتب يشتهي دائماً التحليق ويصر على السباحة في الفضاء وكأنه كان يجد في الابتعاد عن الأرض غبطة الاتصال بعوالم أخرى يتوق إليها وبأناس قادمين من الكواكب الأخرى، كما ذكر ذلك في روايته الخالدة "الأمير الصغير". بماذا كان يشعر الطيّار عندما كان يتباعد بطائرته عن الأرض واليابسة؟ كأن هاجس ايكاروس وعبّاس بن فرناس كان يسكن أنطوان دو سانت اكزوبري. فعلى رغم جميع العقبات التي اعترضت طريقه للوصول إلى قيادة الطائرات، وصل ذات يوم إليها. ولمّا حاول رؤساؤه منعه من الطيران، استطاع دائماً أن يتملّص من هذا المنع ويطير. هل كان يريد الوصول إلى الكواكب الأخرى؟ صحيح أنه كان انساناً حالماً، ولكن حجم أحلامه لم يكن في حجم مغامرة على طريقة جول فيرن أو سيرانو دي برجيراك. هل كان يشعر في الفضاء الخارجي أنه فوق الخساسات البشرية وأهواء الناس وحروبهم؟ ربما، لأنه كان ينادي بأفكار رفيعة من التآخي ومحبة البشر. ترى هل كان يشعر في ذلك الفضاء أنه تجاوز ثقل المادة وأحس بلطافة الروح ورفرفتها؟ أعتقد ذلك، لأن سانت اكزوبري كان يحمل بين ضلوعه نفساً شغيفة ورهيفة وكان يتمتع بشاعرية عميقة، على رغم عمله كطياراً حربياً. ونجد في كتبه "أرض البشر"، و"طيران الليل" ذلك التوق إلى المطلق وإلى مهاجمة المستحيل، كما يقول الروائي ادوار الخراط، وإلى المصالحة بين البشر. وفي كتابه "طيّار حربي"، يؤكد عبثية الحروب وينادي باحترام حقوق الانسان وباعتماد القانون الدولي في حل النزاعات القائمة. وعبّر سانت اكزوبري عن هذه الأفكار الانسانوية بشفافية الهارب من أدران المادة والصابي إلى نسائمية الهيولى، كأنه كان يرصف دروب الفضاء بالكلمات وألحانها. لماذا أهمله الأدب العربي؟ من يراجع عدد الكتب التي كتبها أنطوان دو سانت اكزوبري وترجمت إلى العربية، يرى عملياً أنها محدودة جداً. لقد اهتم العرب بكتاب "الأمير الصغير" وترجموه أكثر من مرّة، وترجموا "أرض البشر" و"رسائل الشباب"، أما اعماله الأخرى فما زالت في منأى عن القارئ العربي الذي لا يعرف الفرنسية. هل يعتبر هذا الإغفال باباً من أبواب النسيان أم هو موقف ذو دلالة؟ أرى أولاً أن العرب - على رغم كل جهودهم - ما زالوا مقصرين في ميدان الترجمة. فإذا قارنّا عدد الكتب المترجمة في العالم العربي من محيطه إلى خليجه بعددها في بعض البلدان الأخرى، نجد أنها ليست لصالح العالم العربي إطلاقاً. فبينما يحصل كل مليون عربي على كتاب واحد مترجم، يحصل المليون اسباني على 240 كتاباً احصائات 1986 والمليون مجري على 108 كتب، والمليون اسرائيلي على 93 كتاباً الاحصائات نفسها. والمعلوم أن عدد الكتب المترجمة دليل واضح على نمو الثقافة في مجتمع ما أو على ضعفه. ونمو الثقافة يعني الانفتاح على العالم الخارجي وعلى ثقافات الشعوب الأخرى عبر الترجمة. ولا شك أن هناك عاملاً آخر لم يكن لصالح سانت اكزوبري، وهو الوضع السياسي الذي وجد فيه الفرنسيون ما بين الحربين العالميتين. كان سانت اكزوبري جزءاً من المشهد الاستعماري الفرنسي الذي عانت منه الأقطار العربية في المغرب وفي المشرق، ولا سيّما أنه انخرط في السلك العسكري وفي سلاحه الأمضى: الطيران. وأعتقد أن ذلك جعل المترجمين العرب يهملهون الإقبال على ترجمته في شكل مكثّف. لقد ترجموا "الأمير الصغير" لطرافته وبراءته. ولكنهم خافوا من ترجمة الأعمال التي تتكلم عن سلاح الطيران وعن أسراب الطائرات العسكرية القاصفة. لم أقرأ أي تحفظ على أنطوان دي سانت اكزوبري بالذات، وإنما كانت هناك مخاوف من كل ما يمتّ إلى المؤسسة العسكرية بصلة بقضها وقضيضها. أما سانت اكزوبري نفسه فلم يكن عنصرياً أو متسلطاً، بل كانت له صداقات مع بدو الصحراء الذين أنقذوه مرتين من الموت بعد سقوط طائرته. وكان لديه أيضاً شغف بالصحراء وأناسها، بحيث قال "أنا الصحراء أنا" أنظر "أرض البشر". لقد فتنته الصحراء الواسعة الأطراف التي كان يشعر فيها بصمت الدهور وبتأمل الانسانية، تماماً كما كان الفضاء يسحره ويجذبه إلى عوالم أخرى. لقد كسر سانت اكزوبري المقولة التي تدّعي أن البدو قطاع طرق وقتلة محترفون ومتعطشون للدم. فعندما احتك بهم بعد سقوط طائرته، شعر أنّ هؤلاء البدو طيبون ويغيثون الملهوف والغريب ويقرون الضيف، فجرّوا له طائرته التي غرزت في الرمال. يخسر القارئ العربي كثيراً عندما لا يجد الإ نتفاً من أعمال سانت اكزوبري مترجمة إلى العربية. يخسر التعرف على كاتب تبنّى البراءة والنقاء في عصر الحروب والهمجية. يخسر لأن سانت اكزوبري شعر عميقاً بمأساة الانسان في القرن العشرين، فراح يخفّف عنه من طريق تجاوز الواقع الأليم وفتح آفاق وفضاءات جديدة أمامه. يخسر لأنّ هذا الرجل أتقن لعبة الموت والحياة: رأى في الموت قدراً محتوماً فراح يزجّ بنفسه في مغامرات التحليق ومخاطره في الثلاثينات والأربعينات وما أكثرها!، ورأى في الحياة ابتسامة وصداقة ومحبة. لم يقل كالفيلسوف هوبز "الانسان ذئب للانسان"، بل قال "الانسان صديق للانسان"، وما أرض البشر إلا أرض الصداقة والوئام" هكذا يجب أن تكون. كان سانت اكزوبري شاعراً في نثره ورهيفاً في أسلوبه ونقياً في كتابته. راودته مغامرة ايكاروس فأحبها ومات من أجلها. يا للحلم الجميل!