بعد شهرين، كيف يرى شباب الأراضي المحررة مرحلة ما بعد التحرير وما هي هواجسهم المستقبلية وكيف يصفون واقعهم الجديد اجتماعياً واقتصادياً؟ تقول بترا بركات التي تدرس العلوم التربوية أن الوضع بعد الانسحاب أسوأ لأن عائلات كثيرة من سكان بلدتها عين إبل قد غادرتها الى اسرائيل. ولهذه الهجرة الجديدة للمسيحيين كما وصفتها أثار سلبية خاصة على نتائج الانتخابات التي ما زالت تعتمد الواقع الطائفي. وروت بترا ان صديقة لها غادرت من دون أن تراها مما ترك لديها انطباع حزين على رغم فرحتها بالتحرير. وطالبت شباب البلدة بالعودة اليها خصوصاً في مثل هذا الوقت الصعب، معتبرة أن الوعي عندهم موجود. فقط علينا أن ننسى الماضي ونبدأ من جديد". ومن يجول في بلدة عين ابل الجنوبية لا بد أن يلاحظ ان الطرقات تكاد تكون شبه خالية من المارة ومعظم المحالِّ مقفلة بشكل دائم. وتقول رولا الأشقر دياب طالبة الأدب الفرنسي في الجامعة اليسوعية أنه لولا قدوم الطلاب من أمثالها للإقامة في بلدتهم موقتاً خلال فصل الصيف لماتت الحياة في هذه البلدة. لأن الشباب هنا يساهمون الى حد بعيد بإنعاش الوضع واعادة الروح الى البلدة. "لسنا مجبرين على البقاء" وإذا كان هؤلاء الطلاب القادمون من بيروت يعبّرون عن تفاؤلهم الحذر حيال تحسن أوضاعهم وعن فرحتهم غير المكتملة بالتحرير، فإن تمسكهم الكبير بالأرض بدا واضحاً خصوصاً عندما عبّر بسام خريش مهندس الاتصالات الذي تخرج حديثاً عن ارتباطه ببلدته، داعياً الدولة التي ما زالت غائبة بقطاعها الخدماتي والإنمائي لانقاذ البلدة من أزمة بطالة تفاقمت بعد التحرير، وقد تدفع الباقين هناك الى التفكير بالهجرة الى الخارج أو النزوح الى العاصمة بحثاً عن عمل. ولعل أكثر عبارة يرددها الشباب هناك هي "لماذا هذا التقصير الواضح من قبل الدولة في سد الفراغ الأمني والاقتصادي وتأمين البدائل لسكان المنطقة". فالسؤال الهاجس المطروح عند الغالبية العظمى منهم حول عدم قدرة الدولة على التعاطي مع المشكلات القائمة واستيعاب ضغوطها مما شكل صدمة سلبية لدى البعض، خصوصاً في المناطق التي شهدت مغادرة أهاليها الى اسرائيل. في دبل ورميش وعين ابل، يردد الشباب دائماً "لقد انتهى كل شيء، لسنا مجبرين على البقاء". ومنهم من قال: لقد عشنا فترة طويلة تحت الاحتلال وتحملنا عبء غياب الدولة والآن نحن من يدفع الثمن. وتقف هذه الفئة حائرة أمام خيارات متناقضة فإما البقاء على رغم كل الصعاب، وإما الذهاب الى بيروت. أو الخيار الصعب الذي يتمثل باللحاق بأهاليهم وأقاربهم الى اسرائيل ممن غادروا بعد التحرير. وفي هذا السياق يروي ادغار مارون الحاج مهندس زراعي من سكان بلدة رميش كيف ان البلدة تعاني من وضع اقتصادي سييء جداً ومن فراغ سكاني شكّل شرخاً اجتماعياً ونفسياً لكثير من العائلات التي انقسم أفرادها بين الداخل الإسرائيلي وجنوب لبنان، وتحدث ادغار عن أزمة انقطاع المياه عن البلدة منذ أكثر من أسبوعين، مشيراً الى أن المياه كانت تأتي من اسرائيل عبر مضخات كبيرة، وفوجىء أهالي البلدة بغرباء يسرقون هذه المضخات في وضح النهار. فلم يعد هناك مصدر لمياه الشرب للمتبقين هنا، لذلك فإن قسماً كبيراً منهم سوف يغادر الى بيروت في أوائل الخريف المقبل. والحال لا يختلف كثيراً عند فئة من الشباب في المناطق ذات الغالبية الشيعية، إذ عبّر علي صعب من بلدة شبعا المتاخمة للحدود عن فرحته بالتحرير الممزوجة بلحظات أسى وخوف. إذ أن عائلته بعد عودتها من بيروت في الأيام الأولى للتحرير فوجئت بعناصر غريبة مسلحة تحاصر المنزل لمدة ساعات. وأقدموا على تهديد اخواته ووالدته، ثم أحرقوا معملاً للبلاط عائداً الى والده وعمدوا الى قطع نحو 100 شجرة كرز مثمرة. مما أغرق العائلة في خسائر مادية ومعنوية كبيرة، وأنقص فرحة التحرير. ويقول علي أنه لا ينتمي الى أي حزب سياسي وهو يعمل في كراج للسيارات في بيروت وأهله يتنقلون بين العاصمة والبلدة. وطالب بعودة سريعة للجيش لتسلم الأمن في الجنوب ليمنع التجاوزات الحاصلة هناك لأن قسماً من السكان هناك لا ينتمون الى أي جهة سياسية معينة. "مقاومون لكن بالحجارة" في المقابل يقف فريق من أولئك الشباب على الضفة الأخرى من المشهد، فيرون انها ليست فقط سوى البداية. بداية قطف ثمار التحرير واستعادة الأرض التي ناضلوا من أجلها سنوات، وهذا الفريق عبّر عن الانتصار الحقيقي على "العدو الصهيوني"، فأخذوا يرفعون أعلامهم عالياً حتى أن البعض أحس "أنه جنوبي للمرة الأولى". وتحولت عند هؤلاء مناطق كالخيام وبوابة فاطمة مزاراً يومياً". يقول شادي كسرواني من بلدة مرجعيون ان حلماً تحقق بعودة قسم مسلوخ من لبنان الى حضن الوطن فقد زال الاحتلال بعد مرور 25 سنة من القهر والذل والعذاب. وروى شادي معاناة العائلة أيام الاحتلال وكيف منعوا من الإقامة في بلدته وتعرضوا لضغوطات كثيرة من بينها إبعاد أخته وأخيه عن المنطقة لأسباب مجهولة. وأعرب شادي عن تفاؤله حيال تحسن الأوضاع نحو الأفضل "أملنا كبير بالدولة والعهد لاستعادة وظائفها ودورها هنا عبر سياسة حكيمة تثبت للعدو أننا أكبر من مخططاته العدوانية". وإذا كان الصراع مع اسرائيل بلغ عقده الخامس فإن أمتاراً قليلة تسمح للجنوبيين خصوصاً عند بوابة فاطمة بإيجاد صيغة جديدة لهذا الصراع. والأمثلة على ذلك كثيرة وتكاد تكون يومية وتتجلى في رشق المواكب العسكرية الإسرائيلية بالحجارة أو بتوجيه العبارات اللبنانية الساخطة والإشارات باتجاه المارة من الإسرائيليين من دون أي تواصل حقيقي. وفي هذا يقول أحمد من كفركلا "لقد أصبحت هوايتي المفضلة قضاء فترة بعد الظهر عند بوابة فاطمة حيث عجقة الزوار والقادمين من كل مكان لرؤية الأسطورة الإسرائيلية كيف تحطمت عند أقدام المقاومين". وروى أحمد قصة معاناته مع الاحتلال فهو خرج من بلدته قسراً مع بقية أهله عندما كان طفلاً صغيراً. وهو اليوم شاب في مقتبل العمر لا يعرف بلدته كفركلا سوى من خلال الصور وبعض الذكريات وأحاديث الأهل والأقارب. ويبدو واضحاً من ردود الفعل العفوية لشباب بوابة فاطمة، اننا أمام ثقافة ورأي عام شبابي قد يكون بعيداً عن السلام وطرقه ويعبّر عن إصرار وتحدٍ لجيل بكامله ذاق الاحتلال وعانى من حرمانه من أرضه. ويُجمع شباب الأرض المحررة على جميع انتماءاتهم ومناطقهم ان مرحلة جديدة بدأت وان بصعوبة، حملت معها جملة تغييرات سياسية وديموغرافية واقتصادية، تستدعي حضوراً قوياً وفاعلاً للدولة ليس أقله ايجاد فرص عمل لهؤلاء الشباب الذين يمثلون العنصر الحيوي للدورة الاقتصادية في تلك المنطقة، وفي انشاء معاهد وجامعات للتعليم العالي أو في اقامة مشاريع زراعية وسياحية كما يطالب البعض منهم، في اشارة للاستفادة من طبيعة المناخ والجغرافيا.