بعد صدور الحكم مطلع العام 1956، التقيت الرفيق معين عرنوق، وهو مسجون أيضاً، فنقل لي مضمون حديث جرى بينه وبين عبدالمنعم دبوسي. حيث قال لي "كنت في الحمّة يوم 18 نيسان ابريل 1955، وهناك شاهدت عبدالمنعم دبوسي، فسألته عن الأخبار، فقال لي البارحة كان يوم الجلاء، والبعثيون احتفلوا فيه في مقهى اللونا بارك، بشارع بغداد، وقمنا برصد عدنان المالكي الذي كان من المتوقع حضوره، وذلك بنيّة قتله"، فاستفهمه معين مستنكراً "ما هذا الخبر؟!" فأجابه عبدالمنعم "العم قرر ذلك". فقال له معين: "اذهب الى دمشق لترى العم، وقل له لا داعي لكل هذا الأمر، لأن الضباط الكبار في الجيش طالبوا رئيس الأركان تغيير عدنان المالكي لأنه يقوم بتشجيع الضباط الصغار الحزبيين ضارباً عرض الحائط بنظام الجيش...". جاء كلام معين عرنوق ليضيف إثباتاً آخر لدي على دور عبدالمسيح ومسؤوليته في عملية الاغتيال، كما ان معين وبذكره للضباط الكبار، جعل ذاكرتي تتداعى لتعود بي الى ذلك الاجتماع الذي تم بيني وبين المقدم حسين الحكيم في منزل الدكتور عبدالكريم الشيخ. في أحد الأيام مساء، وكما هي عادتي عندما لا يكون عندي عمل، كنت في مطعم مطار المزة، وإذ بالدكتور عبدالكريم الشيخ يتصل باحثاً عني، فكلمته على الهاتف، وطلب مني أن أذهب الى بيته إن كان ذلك ممكناً، لأن هنالك موضوعاً مهماً يجب أن أكون على بينة فيه. وهكذا تركت المطعم وقصدت منزل عبدالكريم في منطقة الشهدا، فوجدت عنده المقدم حسين الحكيم الذي بدا أنه يريد أن يكلّمني بأمور مهمة. بدأ حسين الحكيم حديثه قائلاً: "نحن، وكبار الضباط في الجيش أصبحنا مستاءين من تصرفات الضباط الحزبيين، خصوصاً البعثيين منهم، ولذلك نفكر ومعنا رئيس الأركان الزعيم شقير، بكيفية وضع حد لهذه التصرفات، فأعددنا حركة في الجيش تساعد رئيس الأركان في إجراء تغييرات، فيتم نقل عدنان المالكي وغيره من الذين يسيؤون الى نظام الجيش. ونحن نريد أن يسهم في هذه الحركة القوميون وذلك لضمان نجاحها. فنحن نعرف ان عندكم مجموعة ضباط، في الأركان، في الجبهة..، ونعرف أنهم يفيدوا كثيراً، ولذلك نريد أن نتساعد في هذه المسألة، ونحن مصممون بعدها ان يبتعد الجيش عن التدخل في الشؤون السياسية، ولذلك قررنا تشكيل مجلس على رأسه زكي الأرسوزي، يتولى المسائل السياسية مع الحكومة، وينأى بالجيش بعيداً من العمل السياسي". أنهى حسين الحكيم كلامه، فقلت له مجيباً على مضمون عرضه: "اذا كان رئيس الأركان معكم في هذا الموضوع، فلا حاجة للقيام بحركة انقلابية، يكفي أنتم كضباط جيش أن تساندوا رئيس الأركان، وهو يقوم بعمليات التغييرات التي تريدونها، فلا داعي لعمل انقلابي، وخصوصاً ان بلادنا تعبت من الانقلابات، فكل انقلاب تكون حصيلته تسريح مجموعة من الضباط، في الوقت الذي تعزز فيه اسرائيل قواتها يوماً بعد يوم، نحن كل يوم نقوم باستنزاف جيشنا. هل هذا معقول؟!". وتابعت محاولاً إنهاء التفكير بهذه الطريقة "اسرائيل على الحدود، والحزب أخذ موقفاً انه لا يجوز اطلاقاً حدوث حركة انقلاب؟". أنهيت كلامي على هذا النحو، وحاول حسين الحكيم مناقشتي في صواب ما يفكرون به، وتجاه اصراري قال لي "هذا يبقى رأيك. ولكن اطرح الموضوع على الحزب" فوعدته بذلك. وبالفعل طرحت الموضوع على عبدالمسيح في اليوم التالي فوافقني الرأي، فبلّغنا الدكتور عبدالكريم الشيخ رفضنا الموضوع. أصدر حسين الحكيم مذكراته، في وقت قريب، وطلب مني كتابة مقدمة لها، فكتبت، ورويت القصة السابقة في سياق المقدمة. على أن المذكرات تؤكد هذه الواقعة على نحو واضح، حيث يقول حسين الحكيم فيها، ان رفيق دورته المقدم عبدالمسيح داغوم زاره في السجن - وقد أوقف حسين - سابقاً، وقال له "جاءني أحد كبار الضباط المعنيين، أي عبدالحميد السراج، وقال لي، نستطيع أن نخرج صاحبك - أي حسين - من السجن، ولكن يتوقف ذلك على أن تأتي شهادته غداً ضد القوميين" وتابع عبدالمسيح داهوم قائلاً "نريدك يا حسين أن تغير، تعطي إفادة ضد القوميين". وفي الواقع يطلبون من حسين الحكيم هذا التغيير لأن شهادته جاءت مطابقة لشهادتي، ومن أجل ادانتي طلبوا منه أن يقول ما معناه انني تحمست لفكرة الانقلاب التي عرضها عليّ، وانني عقّبت عليها، بأنه اذا لم يحدث هذا الانقلاب، فلا بد أن يحدث الاغتيال، فتغيير المالكي سهل والحالة هذه. بالطبع، أجاب حسين الحكيم على هذا العرض رافضاً قائلاً "هل هذا معقول؟ أنا أعرفهم، وأعرف عصام المحايري، وهو بريء، وليس له أي علاقة بهذه القصة، عبدالحميد السرّاج يعرف جوابي المباشر، قل له، كيف سأظلمهم فوق ظلمهم؟ أأظلمهم أكثر!! لست على استعداد اطلاقاً". فقال له داهوم "أنا أعرف موقفك، وحسبي أني نقلت لك الرسالة". هذه القصة، ليست مذكرات وحسب، بل انها وردت في محضر التحقيقات إلا أن حسين الحكيم في السجن قال لي، صحيح انك لم تستجب لعرضنا بالمساهمة في حركة الانقلاب، وصحيح اننا تبلغنا موقف الحزب بالرفض في اليوم التالي، ولكن من الأمانة الذكر أن عبدالمسيح ابلغنا من وراء ظهرك، أنه موافق على عرضنا. نهج ضد الانقلابات لم يكن رفضي لمشروع الضباط الكبار، كما عرضه حسين الحكيم أمام عبدالكريم الشيخ، موقفاً ارتجالياً مفرداً، بل إنه يندرج في سياق نهج عام، حيث سبقته مواقف من نوعه، ومن طبيعته. ففي يوم من الأيام، تم الاتصال بي الى البيت بضرورة الحضور الى بيت عبدالكريم الشيخ، لأن هنالك اجتماع لرئيس الحزب وبعض العمد على نحو استثنائي وعاجل. ذهبت الى هناك فوجدت سامي خوري وكامل حسان وعيسى سلامة، اضافة لوجود جورج عبدالمسيح، فضلاً عن صاحب البيت عبدالكريم الشيخ. استهل عيسى سلامة الكلام قائلاً انه وبينما هو قادم من اللاذقية، مر الى حمص لرؤية غسان جديد، الذي لم يكن وقتها عميداً للدفاع، فيروي له غسان قصة محاولة جرت لاغتياله، وكيف نصبوا له كميناً، وكيف العقيد شوكت شقير الذي هو آمر المنطقة الوسطى وغسان رئيس اركانه، أرشده الى طريق فرعي، بحيث لا يمر على نقطة الكمين، وذلك ليستطيع الذهاب من دمشق الى حمص. وبالفعل عندما وصل الى هنالك استنفر الوحدات العسكرية. وتابع عيسى سلامة قائلاً ان غسان قال له ان الجيش على استعداد للقيام بحركة، وبحكم علاقاته بمختلف القطعات العسكرية فإنه يضمن اشتراكها في هذه الحركة، وهو لن يسكت عن محاولة اغتياله، حتى اذا احتاج الأمر للانتقال الى جبال العلويين وإعلان العصيان. وهو، أي غسان، يريد رأي الحزب في هذا الأمر. أجاب عبدالمسيح على نحو فوري ومعهود فيه، انه يؤيد هذا الاقتراح، وبدأ يتحدث عن تصوراته حوله قائلاً: نعم، نقيم عصياناً ونتمرد هناك اذا لم تنجح الحركة. ... ومع الأسف كان سامي الخوري مأخوذاً في ذلك الوقت بعبدالمسيح، فأيّد موقفه بحماسة واضحة، وكذلك عيسى سلامه بعد أن أضاف من خياله صوراً حول العصيان المزعوم. دهشت من هذه المواقف فتكلمت بحدة قائلاً "شو؟ عصيان!!... وين عايشين؟ كيف نفكر مثل هذا التفكير؟ هل هذا معقول؟!". يجيبني سامي الخوري "عصيان لأنهم سيعتقلوه". قلت "فليعتقلوه"، فأجابني "بل سيغتالوه" فأجبت "فليغتالوه!!". وتابعت: "شو يعني إذا اغتالوا غسان جديد، يتغير مجرى التاريخ؟ وبعدين شو غسان طير حتى يقتلوه، هذه مسألة لها نتائج وذيول، ونحن هنا موجودون، نستطيع ان نقلب المسألة عليهم، إذا اغتالوه لن تمر الحادثة هكذا، وإذا اعتقلوه، فليكن... يغتالوه!! وين رايحين؟! عصيان!! هل تتحمل بلدنا حركة من هذا النوع؟ هل الوضع السياسي العام مناسب؟ نحن طلعنا من تجربة أديب الشيشكلي من شهرين... ثلاثة، هل نسينا إننا بحالة حرب مع اسرائيل؟ وندفع جيشنا بعيداً...". أنهيت كلامي، ثم بلغنا عيسى سلامة الذي ينتظر الجواب لنقله الى غسان، انه عليه انهاء حالة الاستنفار، وان هذه المسائل تعالج مع قيادة الأركان، من دون الحاجة الى أي حركة عسكرية على الأرض. من المفيد أن أشير هنا، ان هذا الاستنفار الذي لم يدم سوى ساعات معدودة، أثير في المحاكمات، وكان مدار لغو شديد، وحاولوا بطريقة أو بأخرى إيجاد رابط بينه وبين مقتل المالكي. وفي السياق ذاته، أذكر أنه بعد الانتخابات النيابية 1954 تلك التي لم أنجح فيها، جاء المقدم سهيل الطايع وهو طيار مع مقدم آخر في زيارة لجورج عبدالمسيح. وأثناءها يلتفت سهيل اليّ قائلاً "أمين عصام، هذا التفكير بالنيابات وتغيير الأوضاع بالنيابات لازم نعدل عنه. يجب أن نستلم الأمور بشكل قسري - انقلابي". فقلت له "يا مقدم سهيل، إذا كنا سنصل الى الحكم، وقدم لنا على طبق من ذهب، عن طريق الانقلابات فإننا لن نقبل. إذا لم ننجح بالانتخابات النيابية، فإننا بالمقابل نجحنا شعبياً. نحن نراهن على شعبنا". وختمت كلامي حاسماً "إيمولنا من راسكم هالموّال". خاتمة في ختام روايته، يستند المحايري الى الوقائع السابقة وغيرها، في تحليل الحادثة ودوافعها ومسبباتها وما آلت اليه من نتائج، فيؤكد بأن "المناخ الذي كان سائداً في أوساط الحزب، بعد استشهاد سعادة، كان مشبعاً بأننا ضحية مؤامرة، وبأن الحزب موضع تآمر داخلي وخارجي، وأن الحزب عرضة لمواجهة محاولات الإلغاء والشطب بكل الوسائل". وعلى ذلك فإن على الحزب أن يظهر نفسه بشكل لا يسمح لأحد بالتجرؤ عليه "لأن القوميين الاجتماعيين لديهم الاستعداد للموت في سبيل قضيتهم...". يضاف الى ذلك مسألة استقالة عبدالمسيح وقبولها من المجلس الأعلى، وافتعاله أزمة داخلية بسبب ذلك أدت لإقالته أولاً، ثم إعادته مرة ثانية الى رئاسة الحزب، ولكنه بدأ يشعر ان اسطورته بدأت تتأثر وتختل عواملها "فلم يعد قادراً على الإبهار كما كان يفعل، وحتى انه صار هنالك عدد من الأمناء قادرون على أن يحجبوا عنه الأصوات كمرشح لعضوية المجلس الأعلى، وشعوره بأن الأرض ما عادت مستوية وثابتة أمامه، بل إنها بدأت تهتز". وتكتمل هذه العوامل بقضية "التصادمات التي حدثت بين الحزب والبعث الذي بدأ يبرز سياسياً، في حين أخفق الحزب في الانتخابات، ولم ينجح ممثله الرئيسي عصام المحايري في دمشق، لأن كل القوى تضافرت لإسقاطه - وهذا صحيح - حيث واجه كتلة تضم في عدادها خالد العظم وخالد بكداش وصلاح البيطار، أي احزاب الوطني والشيوعي والبعث، وعلى رغم ذلك خسر مقعده بفارق 300 صوتاً عن المرشح صلاح البيطار، من أصل عشرات الألوف التي نالها من مختلف القوى التي دعمته، في الوقت الذي وقفت فيه هذه القوى يمينها ويسارها ضد عصام المحايري..... وهكذا ازداد الشعور بالتوتر عند القوميين، وبأن الحالة غير مريحة وتنذر بأمور عديدة، وبأن ادواراً أجنبية مسؤولة عن كل ذلك... ضمن هذا المناخ شعر عبدالمسيح انه بحاجة لتعزيز سلطانه داخل الحزب، بحاجة الى شيء يكهرب النفوس، وهو أصلاً بنى سلطانه على أسطورة العنف ومواجهته للقوى الفرنسية وغيرها، فهو رمز المواجهة العنفية ومطالب دائماً بأن يكون البطل الذي يتصدى للمصاعب!! كل ذلك من أجل استقطاب القوميين، بعدما شعر انه لم يعد في المكان الذي كانه". ويستفيض المحايري في تحليل الجانب الدللخي المسبب للحادثة، مفسّراً علنية الحادثة ومشهديتها الصارخة، بكونها "رسالة للآخرين"، وخصوصاً تلك التي يعبّر عنها يونس عبدالرحيم، عندما يعمد الى قتل نفسه "فنحن جميعنا كقوميين اجتماعيين قادرين على تفجير أنفسنا من دون أن نسمح لأحد بأن يمسنا...". وأخيراً، وفي معرض بحثه، إن كان يوجد جهة خارجية تقف وراء الحادثة، يقول المحايري إنه "لا يمكنه تأكيد ارتباط الحادثة ومفاعيلها بأي جهة خارجية.. والوحيد الذي كان ممكناً أن يوضح خلفيات هذه العملية، إن كان لها خلفيات خارجية، هو فاعلها، ولكن هنالك بعض القرائن على وجود مثل هذه الجهات، منها، مثلاً: رفض الزعيم شوكت شقير لعرضي بالمساهمة على تسليم عبدالمسيح لنفسه، فما هي مصلحة الزعيم شقير في ألا يتم تسليم عبدالمسيح لنفسه؟ وهل يفسّر هذا أيضاً لماذا لم تتقدم السلطات السورية من الحكومة اللبنانية بطلب استرداد عبدالمسيح الذي أدين بالمحاكمة، وجريمته تعتبر عادية وليست سياسية؟". من دون أن يهمل المحايري السؤال الدائم والكلاسيكي حول دور المصريين والسفارة المصرية في ذلك، وهو ما أسهب في الحديث عنه، لاحقاً، رياض المالكي، وأيضاً مصطفى طلاس. يؤكد المحايري ان روايته هذه لا تشكل رداً على أية رواية اخرى حول الحادثة، فهو ينقل ما رآه وشاهده وعايشه من دون النظر الى ما أوردته الروايات المتعددة للحادثة. على أنه يقول إن الحادثة تستأهل رواية تفصيلية طويلة، يكون من ضمنها ربما، مناقشة مضمون الروايات الأخرى وما ذهبت اليه.