قبل أربعين عاماً نشر ياسين رفاعية مجموعته القصصية الاولى وأعقبها بديوانه الشعري الأول، ثم انتظر قرابة عقدين من الزمان حتى خرجت روايته الاولى، وتراكمت أعماله القصصية والشعرية والروائية في تناوب منتظم حتى نيّفت على العشرين كتاباً. وهي تقدم في جملتها عالماً متجانساً في شعريته، عميقاً في معايشاته، صادقاً في خبرته الحياتية والجمالية، معجوناً بالفن والحب والهم القومي والشخصي لكاتب يعيش على الحافة، ويستصفي من تجاربه الخاصة والعامة رحيقاً إبداعياً يشبع حاجاته الملحة في الشهادة على الحراك العاطفي والاجتماعي وخلخلة منظومة القيم المستقرة من قبل في المجتمع الشامي. ولعل روايته الاخيرة "اسرار النرجس"* تعود الى تعرية الجذور وتسمية المواقف وتقديم أقنعة جديدة الى قلبه أثيرة على قلمه لأطياف الصبا والشباب، ففيها حرارة السيرة الشخصية المتوارية وصراحة الكشف عن المسكوت عنه في البيئات الوسطى ومبالغة الاستقطاب لنماذج الخير والشر المتلبسة في الحياة والممتزجة في الواقع بنهاياتها الفاجعة ومصائرها الصارخة. ومع أن الرواية تحدد بنية المجتمع الشامي في سورية، بما يتميز به من تكوين برجوازي عتيد، وزئبقية طبقية لافتة، وبما يجسده من سطوة التقاليد العائلية الخانقة لحرية الأفراد، فإنها تتبنى منظور جيل الشباب، إذ تُروى بصوت "نبيل" الذي يحكي أحداث عقدين من حياته المفعمة بالتجارب والمآسي والمباهج، وخصوصاً عبر مغامرات المراهقة الاولى وملاحظاتها المرهفة عن نفسه ومن حوله من الأهل والأصدقاء، إذ يقص نبيل تجربته المبكرة في اكتشاف جسده على يد بنت عمته "لمياء" التي تكبره في العمر وافتضاح امرهما بعد ضبطهما متلبسين، والأثر العميق الذي تركته هذه الحادثة في مسار حياته ومصير بنت عمته. ثم يحكي عن أمه التي كانت بالغة الجمال والعبودية لأبيه مشهداً مثيراً لم يفارق ذاكرته طوال حياته. ومع أن الرواية حافلة بأحداث العشق في حالاته السوية والشاذة، في درجات الهيام بالرجال والنساء، وجرائم زنا المحارم وأخبار القوادين وشنائع الحياة الجنسية السرية، غير أن المشهد الذي يخلخل قداسة الأمومة ظل يراود مخيلة الصبي ويستثير كوامن شعوره حتى نهاية الرواية كمظهر لخلخلة منظومة القيم الصلبة في المجتمع، مثلما ظلت الوردة التي أهدتها اياها حبيبته الاولى تحكي له أسرار هذا المجتمع. لكن أبرز ظاهرة موضوعية في هذه الرواية تتمثل في انبهام حدودها التاريخية وغيبة أي أثر للشواغل السياسية في حياة أبطالها، فمع أنها تستغرق قرابة عقدين من الزمان من حياة راويها "نبيل" - منذ تجاوز العاشرة من عمره حتى أشرف على الثلاثين - إلا أننا لا نستطيع موقعتها تاريخياً من دون عناء كبير، فالأب ينتمي الى الجيل المناضل الذي أسهم في حروب الاستقلال، وظل يعيش بعد ذلك متمنطقاً بخنجره ومعتصماً بمبادئه في وأد البنات - بالزواج - باعتباره أهم المكرمات. والابن يعاصر في شبابه ازدهار مستعمرات "الروبير"، أي البغاء بالتعبير الشامي المعرّب، وتمزق جيل البنات بين رغبة التحرر والاستقلال العارمة وشراسة القوامة الأبوية الصارمة. كل هذه الاشارات تجعلنا نتصور زمن الرواية في الاربعينات والخمسينات من القرن العشرين. لكن هذين العقدين على وجه التحديد كانا يغلبان بالمشاعر القومية وقد شهدا متتالية الانقلابات العسكرية السريعة والنوران العروبي الذي انتهى الى إعلان الوحدة مع مصر عام 1958 والانفصال بعد ثلاث سنوات. كل ذلك ليس له أثر في الرواية، وكأن البعد السياسي تم حذفه قصداً بمقص رقيب داخلي باتر لم يسمح للشباب أن ترف على شفتيه أية أحلام وطنية أو قومية. ومع ما نعرفه عن شدة "تسييس" الشباب السوري في هذه الفترة فإن هذا الحذف الباتر يعتبر مؤشراً دالاً على تجاوز الواقع الحي وإهمال هذا البعد الذي خضع للتحريم والتجريم في ما بعد. أي أن الراوي كشف بهذا الغياب الذي لا يمكن أن يعتبر عفوياً ولا طبيعياً عن عملية الاجتثات القيصرية التي أجريت في العقود اللاحقة للمواطن السوري حتى يكف نهائياً عن ممارسة حقه السياسي الذي كان قد تولع به لدرجة الإدمان. ويصبح غياب السياسة في بنية المجتمع شهادة على سياسة التغييب الغالبة عليه. دوائر الحب والموت تعتمد تقنيات الرواية الفنية على أسلوب القص المنتظم طولياً في خطوط متتابعة، من دون حالات استباق واضحة يتم فيها القفز على الأحداث الجارية للتنبؤ بمصائر الشخوص، ومن دون حالات استرجاع فادحة تقطع زمن القص لتعود الى الماضي باستغراق، اللهم إلا في تلك الحالات الضرورية التي كانت تحكي فيها "نجمات" المبغى قصص انتهائهن إلى هذا المصير. ما عدا ذلك نجد أن ذاكرة الصبي الراوي "نبيل" هي التي تعطي للزمن نسقه وللمكان حضوره وللحوادث ترتيبها. فالقصة من هذا المنظور تقليدية لا أثر فيها لمحاولات التجريب التقني، وهي ترتكز على مفهوم مستقر لشبكة العلاقات الاجتماعية التي تتدرج في المكان من الاسرة الى الاصدقاء والاهل والمحيطين بهم. فتجعل الصداقة قيمة جوهرية في حياة الأفراد تأتي بعد دور القرابة الأول، لكنها تقوم بخلق استقطاب شديد في حياة الشباب بين طرفين متضادين، يمثل المسجد أحدهما، عندما يعبران خلاله عن ذروة الهوس الديني في فترات التوهج الروحي في الصبا المبكر، وخلال لحظات الندم. ويمثل "المبغى" او "الروبير" الطرف الآخر الذي ينزلقان إليه ويستغرقان في عالمه حتى يصبحا من شخوصه في علاقات عضوية حميمة. هذا الاستقطاب الشديد يؤدي الى تصنيف حياة الناس بوضوح الى لونين متناقضين، وإظهار المجتمع إما غارقاً في الرذيلة المستترة أو المفضوحة، أو الفضيلة النقية الملائكية. لكننا سرعان ما ندرك ان الحفر والتنقيب تحت تاريخ أية شخصية في محيط الاسرة أو الحيّ أو المسجد سيكشفان لنا عن أسرار العفونة الكامنة والخطيئة المتوارية وجرائم اللواط والعدوان على المحارم وفتنة الجسد، مع الحفاظ على حق العقاب الصارم. والنتيجة الحتمية لهذا التحلل الاخلاقي هي الموت، فحبيبات "نبيل" انتهى مصيرهن كلهن الى الموت أو الانتحار. وقد اصبحت المقبرة ملتقاهن الطبيعي ابتداء من الطفلة البريئة مها الى المومس الفاتنة التي انتحرت بين يديه لتجبره على المضي معها عنوة، واصدقائه المقربين: اسامة الوسيم الذي يستغل عشق زين العابدين له ويتجاوز كل الخطوط الاخلاقية ينتهي الى الموت بسرطان الرئة. وحتى لمياء التي تتحدى تقاليد الاسرة وتتزوج عنوة بحبيبها المدنس تنتهي للموت أيضاً، ولا يحيا في الرواية إلا من يلجأ للتطهر الديني ويعتصم بالمسجد أو ينذر بقية عمره لدراسة الدين في الازهر كما يفعل نبيل في ختام الرواية. ومن الطريف أن نلاحظ صرامة هذا المعيار الأخلاقي الديني المتسلط على رؤية الرواية على رغم الطابع الاباحي الجريء الذي تزعمه. فالناشر، ولا بد في أن يكون الكاتب مؤيداً له، يضع على غلاف الرواية للتشويق والاثارة كلمة "الدنس"، "لولا التكتم والسرية لما كان هناك فن أو أدب إباحي" وعبارة غادة السمان الموهمة "فرحت بنبأ الحصول على ناشر تجرأ على نشر هذه الرواية". علماً ان البنية العميقة لدلالة الرواية تشير الى اهتمامها الشديد بردع المنحرفين وعقاب الخاطئين لإغلاق دوائر الحب بالنهاية الفاجعة دائماً. وفي وسعنا أن نلمح طرفاً من خصوصية المجتمع الشامي يتراءى خلف الصور المقدمة للنماذج الانسانية والمواقف الاجتماعية والروح المتحررة في النظر الى الجسد وحاجاته الملحة والاعتراف الضمني بها. يسعى الأفراد رجالاً ونساءً لتحقيق ذواتهم وممارسة حريتهم ومعاندة أقدارهم وكسر طوق التقاليد التي كانت طاغية عليهم. غير أن الصبغة الشعرية الغالبة على سكان الشام - وخصوصاً دمشق - تبدو في اللهجة التي يتحدثون بها عن الجنس والحب وبرزت التعبيرات المميزة التي اضطر الكاتب لشرح معناها في هوامش الرواية عند إدراكه صعوبة فهم القارئ العربي لها، بما يقدم النبرة الخاصة للشخصية الشامية والحس المميز لوعيها بالحياة عن طريق اللغة. يحكي الراوي عن عزلة غرفة أبي عرب التي تتيح له أن "يفعل السبعة وذمتها" أي يقترف ما يشاء من محرمات. وعندما هربت لمياء مع حبيبها يقول خالها "لقد هربت مع هذا العكروت" ويعلق الكاتب في الهامش على هذه العبارة بأنها شتيمة شامية. بينما نشعر نحن القراء العرب بأن السينما المصرية قد أعطت لهذه الكلمة مذاقاً كوميدياً طريفاً ينم عن الشقاوة المستحبة والشيطنة الجميلة، خصوصاً إذا صدرت عن "حسن فائق" وهو يصف شقاوة احمد رمزي مثلاً في خفة ظله مع البنات. هناك شتمية اخرى لم أدرك سر جرحها للإحساس الشامي عندما يقول أحدهم للآخر "بلا أكل هوا ولا...". فأكل الهواء قد يشبه ما يقال في العامية المصرية عن "دهان الهوا دوكو" أو لعله أقرب الى "أكل بعقله حلاوة". ومع أن حوار الرواية كتب بالفصحى المبسطة مما جعله مقروءاً ومفهوماً لدى القارئ العربي غير أن ضرورة ترك هذه "البصمات" المميزة للهجة الشامية لإضفاء قدر من الحيوية وصبغة الفورية على المواقف وألفاظ الشخصيات تدعو للتساهل في ايرادها. ويلعب الحسّ العروبي الفائق لدى الكاتب والوعي اليقظ بفروق اللهجات دوره في التنبيه الى معناها. وهي ليست مجرد "لوازم" لغوية، بل عبارات تستقطر خبرة الأفراد ورؤيتهم في اللحظات المحتدمة التي تنطق كل شخص بمخزونه الثقافي في اللغة والحياة معاً، مما يعطي للتجربة نكهتها وللواقع مذاقه الخاص. هنا يتعين علينا أن نبرز ما تتميز به شعرية هذه الرواية من اعتمادها على الأنساق السردية المألوفة في تتبعها للشخوص والمواقف والوصول بها الى مداها الاخير، مع العناية الفائقة بتلك اللحظات المتوهجة المعضلية التي تتجلى فيها درامية الحياة ومفارقاتها القصوى، مما يقدم رؤية جدلية للحياة تجعل كشف الأسرار معادلاً رمزياً لوردة النرجس الحاضنة لعطرها الفواح على رغم مرور السنين، اذ لا تذبل ولا تذوي منذ بداية السرد الى ان تختفي من صفحة الكتاب في المشهد الأخير. وكأن هذا السرد الذي يستحضر عبق الماضي ويصف جذوره التي أينعت في الحاضر وحددت خطوط المستقبل ليس سوى ما تبوح به زهرة النرجس العجائبية من خواطر حميمة واعترافات مكنونة في ضمير الكتابة وصفحات الكتاب. هنا تتجلى لنا الخاصية الاخيرة للشخصية الشامية كما تبوح بها "زهرة النرجس" وهي الافتتان الحاد بشهوة الجسد والاستغراق الشديد في طيوبه وملذاته. مع اليقين المستقر بتحولاتها وانطفاء جذوتها، حيث لا يبقى بعد ذلك سوى عالم الروح المطمئن الذي تسكن اليه النفوس التواقة للتوبة والخلاص. هذا التوالي في مسار التجربة الفردية هو الذي يمثل ويحدد ايقاع التوازن للمجتمع ويشكل مدارات الحياة فيه، حيث تصبح فترة الشباب أنشودة المتعة الحسية المفرطة بقدر ما تمتد مباهج الحياة الروحية لتمثل نقطة الخلاص لمن يسرف على نفسه قبل التطهر الأخير.