الكتاب: جسد أول رواية المؤلف: نبيل نعوم الناشر: سلسلة روايات الهلال - 1998 على رغم أن الكاتب نبيل نعوم ينتمي زمنياً الى جيل السبعينات، إلا أن كتاباته القصصية والروائية شقت طريقاً فنياً انحرف عن السمات الفنية لأغلب كتابات ذلك الجيل. في روايته الجديدة "جسد أول" يعمل الكاتب على استيهام الديني، الأسطوري، الصوفي، الواقعي في خطابه الروائي متابعاً الصنيع الأسلوبي والجمالي نفسه الذي اتسمت به مجموعاته القصصية الثلاث "عاشق المحدث"، "القمر في اكتمال". "طراوة العين" وروايتيه "الباب"، "العودة الى المعبد". "جسد أول" رواية في أحوال الجسد وتصاريفه وهو في نهاياته. الإشارات والرموز تنتشر في تضاعيف الخطاب الروائي وتتكثف متحولة سؤالاً ميتافيزيقياً عن الجسد، لا إجابة عنه، كأنما الإجابة هي موت للأفق الذي يفتحه السؤال. بؤره الرواية تقوم على رصد ومعاينة مفارقة الروح للجسد، فالشخصية المحورية: الدكتور فؤاد أستاذ علم الاجتماع العائد من أوروبا، تعمل على تجميع كل الكهول والمسنين، من العائلة، في ملجأ تبنيه خصيصاً لهم وتعيش معهم مراقبةً موتهم، الواحد تلو الآخر، مسجلة ملابسات مغادرة أرواحهم لأجسادهم، في كتاب تعمل على تأليفه عن الموت والموتى. وإذ يسعى فؤاد الى استكناه سر الجسد غائصاً على طبقاته السرية الداخلية عشية موته فإن الرواية تظهر لنا أنه لا يتوخى نتائج مباشرة، بالقبض على المجهول واللامرئي وفك أسراره وطلاسمه، فالفضاء الذي يتشكل في الرواية فضاء غير ناجز، على رغم احتشاده بالإشارات الدينية، الصوفية، والفلسفية عن الجسد. لكن هذه العناصر كلها، لا توصلنا الى ما هو نهائي في شأنه، بل يظل الخطاب الروائي يشف، ويخايل بالرموز والأجواء المعتمة. فلا شيء يتضح في النهاية، فضلاً عن أن تيمة غير موجودة في البداية، يمكن أن تترتب عليها نتيجة ما في النهاية. الراوي يؤسس للجسد الأول، باعتباره جسداً أخيراً، فالحياة حياة بوصفها وقفاً على الجسد. على رغم ذلك إن عالماً فسيحاً للروح يظهر ويتبدى في الخطاب الفني الذي يؤسس له. كل الكهلة والمسنين في الملجأ يعتقدون أن موت أحدهم ما هو إلا انتقال وقتي، وغياب آني سيعقبه لقاء قريب. الكل على ثقة مطلقة بأنهم سيدخلون الجنة بوصفهم قديسين طاهرين ونقيي السريرة، هذا داخل الملجأ، أما خارجه، فالأمر مختلف، فنهاية جسد أحدهم وموته تنتج طقوساً عديدة: كزيارة الأقارب، والسهر حتى منتصف الليل، فضلاً عن الولائم المقامة على شرف نهايته. من جهة أخرى لا يشكل الجسد أكثر من سلعة يسرقها حارس المقبرة ثم يبيعها لطلاب كلية الطب ليشتري بثمنها طعاماً لأطفاله. أما رجال الدين فالأمر عندهم مختلف، فالجسد يتم إعداده، وتنظيفه، وغسله، ودهنه، وتطييبه، كأنما هو عريس يذهب لملاقاة عروسه ليلة الزفاف. فالموت ليس أكثر من "عودة الى المنبع" ص 47 فيما فؤاد لا يهمه شيء سوى إكمال فصول كتابه. يشكل تأليف فؤاد كتاباً داخل الملجأ اختراقاً لزمن الموت. فانفصاله عن زوجته "نانسي" وعيشه في الملجأ أدى الى دخوله زمن الموت، تدريجياً، وتحوله شخصاً ميتاً، هذا ما أعلنته "نانسي" في الصفحة الأولى من الرواية "كل ما يصلك من الخارج هي صور ما يدور في خيالك، أنت ميت" ص 5. تحول من شخص "موجود" الى شخص "متواجد" ص 10، الأمر تم بقضائه على جسده، من خلال الغاء حاجاته الأساسية. فالمرء يكون على قيد الحياة إذا كان على قيد جسده. فعزلة الشخصية الرئيسية وانقطاعها عن الآخرين، تخفي عمق أزمتها الروحية، ألا وهي الرغبة النقيض: أي الاندماج بالآخرين وإذا كان الخطاب الروائي يرسم فضاء الجسد، والكتابة والموت، فإن فضاء آخر يتشكل هو فضاء الوحدة، التي جعلت جسد فؤاد يلتهب شهوانية في حال من غياب الآخر نانسي إذ صار جسدها الغائب عنواناً رئيسياً لرغبته المشبوبة. كأن ابتعاده عن جسدها شرط للدخول في مناخ الموت، لكنه ظل وهو غائب الرائي والمرئي وأفق الرؤية. إن الوعي الذكوري المهيمن عند فؤاد جعله يعتبر النساء اللواتي عرفهن: "نانسي زوجته، سامية عاملة الملجأ، مارغريت عشيقته العابرة أثناء زيارته فرنسا" على رسم صورة أجسادهن، طبقاً للصورة التي شكلها في ذهنه عنهن، فضلاً عن رسمه لهن صورة العالم نفسه. يسير فعل الكتابة تأليف كتاب الموت والموتى. متوازياً مع الموت موت الكهول فما يسوغ الإصرار على الكتابة هو اشتداد الموت، وهنا لحظة تفوقه الوحيدة على الكهول وهم يموتون. فالموت إذا كان نفياً للجسد فإن الكتابة تبدو فعل خلاص، وحياة، مصحوبة بتوق آخر هو جسد نانسي، كأن الكتابة وحدها تعيد الموت حياة، في عمق هاوية الملجأ. فسلطة الجسد التي تشكل فضاء الخطاب الروائي وسؤاله امتزجت مع سؤال الكتابة ذاتها. تحتشد في الرواية الجمل المستقطرة من القراءات، والشطحات التي تتوخى ما هو صوفي، لكن أحياناً نجد أنها لا تنبثق من عمق بنية الخطاب الروائي نفسه إذ يتم اقحامها اقحاماً، من دون أن يتحقق الاتساق بين البعد المعرفي، ودغمه في تحتانيات الخطاب الروائي. تقوم الرواية على حسابات أسلوبية دقيقة، إذ نجد تنوعاً في أساليب بنية الخطاب، حيث يتجاوز الشطح، بالتراثي الفرعوني، بالديني القبطي، وتحتشد في الخطاب الروائي الإشارات والرموز كعناصر تشكله وتصوغه في آن معاً. "جسد أول" رواية عن الاستيهامات التي يحدثها الموت فينا، إذا ما راقبنا جسداً يموت. الموت الذي يقيم بين ظهرانينا. يخترقه في الرواية ويضيئه جسد الكتابة.