لا يكف الكاتب المصري أسامة حبشي عن صناعة الدهشة، فهي تبقى المقصد الغالب على سرده إلى جانب نزوعه نحو تجريب أشكال أخرى للكتابة الروائية، حسبما أمدَّنا في أعماله السابقة «خفة العمى»، و»موسم الفراشات الحزين»، و»سرير الرمان»، و»حجر الخلفة»، وإبداعاته السابقة تلك قد تجعلنا نظن أنه منح مفتاح دخول يسيراً لروايته الأخيرة التي أعطاها عنواناً مختلفاً هو «1968»، ليذكرنا به فحسب بعنوان جورج أورويل الشهير «1984» وثلاثية المصري جميل عطية إبراهيم «1952» و»1954» و»1981»، والرواية التي يكتبها الجزائري واسيني الأعرج «العربي الجديد: 2084» وثار في شأنها جدل لتشابه مضمونها مع رواية أخرى لمواطنه بوعلام صنصال وعنوانها «2084: نهاية العالم» التي صدرت حديثاً في باريس عن دار غاليمار العريقة. لكن رواية «1968» (دار العين) لا تأخذ منحى التأريخ ولا التنبؤ الذي أخذته تلك الروايات، إنما تحفر في اتجاه مغاير، خالطة الحكمة بالهذيان، والواقعي بالمتخيل، وساعية وراء نصوص لأربعة أدباء كبار هم: المكسيكي خوان رولفو، والروسي دوستويفسكي، والجزائري مالك حداد، والسوداني الطيب صالح، الذي أهدى إليهم الكاتب روايته وبدا متيماً بنصوصهم، ومتفاعلاً معهم أحياناً، أو سابحاً في عوالمهم المدهشة الموزعة على السحر والجنون والعفوية، لكنه لا ينقل عنهم. فما سبق قد يوحي بأننا أمام رواية سهلة التناول، تتهادى لقارئها بلا عناء، لا سيما أن حجمها لا يزيد على 118 صفحة من القطع المتوسط، ولكن ما إن تبدأ في مطالعة أول سطورها حتى تجد نفسك في حاجة ماسة إلى أن تطلق كل حواسك لتستيقظ، حيث تقول: «ماذا أنتظر من رجل كلما ذهبت عيناه للغفوة قليلاً، وجد نفسه يبتلع جسماً كبيراً، غريباً، وبمجرد أن يبدأ في ابتلاع جسم آخر مشابه، فإذا بالجسم يتوقف في حلقه، وتبدأ يد غامضة المصدر تضرب على ظهره كي تساعده في الإفلات من الموت، ولكنه يتقيأ قططاً... رجل يبتلع القطط». ثم نكتشف أن ذلك الذي يبلع ويلفظ القطط هو كاتب، يقترب من العقد السادس في عمره، يعيش حالة ولادة متعثرة لرواية «1968» نفسها مع أخته العانس الشاهدة على معاناته، ويكرر هذا العنوان في صفحات عدة، وبطريقة مباشرة تصل إلى حد أن يقول في متن النص: «روايتي ليست سياسية، ولا تتحدث عن حلم طلاب العالم أجمع، حيث حركة الطلاب في عام 1968، ولا هي رواية عن النكسة، ولكن رواية 1968 كانت رحلة داخل الحلم المدفون داخل شخوص روايتي»، ثم يقول في مكان لاحق عن أخته «نرجس» التي برعت في صيد الطيور وتحنيطها: «يا ليتني كنت مثلها صياداً ماهراً في رسم شخوص روايتي 1968»، ويقول أيضاً: «فرحة إغماض الهي قليلاً بعيداً عن ضجيج التذكر تستعصي عليَّ، لا نوم ولا أفكار تسعفني كي أنهي روايتي 1968»، و»رواية 1968 تقتل فيَّ كل أمل للاستمرار في الكتابة»، وفي موضع خامس: «مرت ساعة لم ينطق كل منا حرفا، وتذكرت خلالها روايتي 1968»، وفي سادس يقول عن أخته: «أذكر قبل دخولي نوبة الهذيان ذات مرة أن جاءت وجلست بجانبي وحدثتني عن روايتي 1968، وأعلنت رفضها القاطع لما كتبت». ويدلل على الولادة المتعثرة للرواية فيقول في موضع سابع: «حذفتُ ما كتبتُ للمرة الألف على ما أعتقد... لم أكن مقتعنا بما كتبته في روايتي 1968، خاصة وأن استخدام اللغة الدارجة يرعبني... لذلك مزقتُ كل ما كتبتُ». ويتصرف الشخص الذي يريد كتابة هذه الرواية، وهو بطلها في الوقت نفسه، على أنه صار من المثقفين، وراح يدلل على ذلك بذكر أسماء لأدباء وفلاسفة وعلماء كثر في مضمون روايته منهم: المتنبي وابن خلدون وعمر بن الفارض ومحمود درويش وإدوارد سعيد ووليم شكسبير وأنطونيو غرامشي ودوستويفسكي وباندا وغيرهم، ثم يقتبس من هؤلاء مقولات وأبياتاً شعرية ينثرها في ثنايا الرواية، لكنه لا يتباهى بكونه مثقفاً، بل يعتصر ألماً، لأنه صار ضمن هؤلاء، فها هو يقول في متن روايته: «أدخلتني الكتابة عالم القتل الخفي، عالم القتل السري، أدخلتني دائرة المثقفين، وما أدراك ما المثقفون! كل شيء تحول إلى سيرك من الخداع». ووسط انشغال بطل الرواية/ كاتبها بهمومه كمثقف أو أديب، يقتحمه السياق الاجتماعي القاتم الذي يحيط به، حيث البشر الذين أرهقهم العوز وموت الأمل في حياة تليق بآدميين، لا سيما «نرجس» أخت سارد الرواية، التي تموت في النهاية فينتحر هو خلفها: «خرجت الكلمات مني بغزارة وأنا أخبط رأسي بالأرض حزناً على موت نرجس. وكنت لا أعلم هل أنا حزين على موتها أم حزين لأنها تركتني وحيداً، وهي تعلم أنني سأموت معها حال قررت الموت؟ كنت أنانياً في تفكيري حتى لحظة انتحاري». وهناك أيضاً شخصية «شهد» التي تبيع جسدها لتأكل والتي يقول عنها الراوي: «كانت شهد هي ناستاسيا دوستويفسكي». وربما تكون الجملة التي أوردها المؤلف وتقول: «الحياة والخيال وجهان لعملة واحدة هي الإنسان. والإنسان ما هو الإنسان؟ هو محطات من التفاصيل»، هي تجسيد لما فعلته هذه الرواية بالضبط، رغم ضيق مساحتها، حيث تتنادى الشخصيات، وتتداخل المصائر، وتتسابق الأصوات لتعبر عن نفسها، وتتزاحم الأحداث وتتكدس وتتكثف متنقلة ذهابا وإيابا في الزمان والمكان، لتقف في النهاية على الحافة، ناظرة إلى مدى مفتوح على جراح شخصياتها المتعبة وأتراحها. هذا المدى يترك في نفس من يقرأ هذه الرواية حيرة ودهشة، ويسأل نفسه: هل انتهى النص؟ هل انتحر الكاتب قبل أن يُكمل روايته؟ وهل ترك لنا نحن إمكانية إكمالها إن كانت ناقصة؟ أم أنها قد اكتملت بموت بطليها؟ لكن بغض النظر عن أي إجابات على هذه الأسئلة فإن المؤلف تمكن من توظيف تقنية نادرة، سبق أن استخدم ما تشبهها السوري خليل صويلح في «ورَّاق الحب»، ليجعلنا نعيش معه معاناة الكتابة، لكننا لا نعاني من معاناة القراءة، مع نص ثري مدهش، يقف في منتصف المسافة بين الشعر والحكاية، ويقبض على حكاية غريبة، هي واحدة من الحكايات التي ألف الكاتب البحث عنها، ويبدو مخلصاً لها، رغم توالي أعماله.