طوال عقود الاحتلال، وقبله الانتداب البريطاني، كانت مشكلة العملاء واحدة من أهم الاشواك التي أدمت خاصرة النضال الفلسطيني وكلفته أثماناً باهظة. ولعل جوهر فكرة الانتفاضة التي اندلعت في نهاية العام 87، بما تنطوي عليه من فعل جماهيري غير مسلح، كان رداً على فشل العمل الفصائلي في جعل الاحتلال مكلفاً، وهو الفشل الذي كانت مسألة العملاء سبباً من أهم أسبابه، وذلك عندما نجحت سلطات الاحتلال في شل عمل الفصائل بزرع جحافل من العملاء في صفوفها الى درجة مذهلة في بعض الاحيان. ربما كان ذلك هو السبب الذي دفع الانتفاضة في بداياتها الى التوجه مباشرة الى العملاء واستهدافهم باعتبارهم سبب المصائب، واجترح القائمون على فعالياتها أساليب شتى في مقاومة تلك الظاهرة، بدءاً بإفساح المجال للعملاء بالتوبة في المساجد والمنتديات العامة، وصولاً الى اغتيال الكثيرين منهم مباشرة أو بعد خطفهم والتحقيق معهم واخذ الاعترافات منهم، حتى ان فصيلاً مثل "حماس" تأسس في لحظات الانتفاضة الأولى، كان قد شكل حتى قبل إعلانه جهازاً أمنياً خاصاً بملاحقة العملاء. في بداياتها نجحت الانتفاضة في الحد من خطر الظاهرة، غير ان المسألة كانت اكثر استفحالاً مما توقع الناس، إذ بدأت اعمال المقاومة في التراجع شيئاً فشيئاً، فيما كان جيش العملاء يسجل تقدماً مضطرداً وصل حد اختراق أعمال الانتفاضة وتحويلها الى عبء على الشارع الفلسطيني، وذلك عبر ممارسات قذرة أرهقت الناس، وجعلت لسان حالهم يقول "خلصونا من هذه الانتفاضة". لم يمض وقت طويل حتى تحولت الانتفاضة بسبب تلك الاعمال الى فعل فصائلي تحت سيطرة الاحتلال أكثر منها أعمالاً جماهيرية واسعة، اللهم الا في بعض محطات محدودة. ولعل هذا الوضع هو الذي دفع حماس والجهاد الى التحول صوب نوع جديد من المقاومة تمثل في العمل العسكري بإطلاق الرصاص وخطف الجنود وصولاً الى العمليات الاستشهادية، وهي الأعمال التي جرى الحد منها شيئاً فشيئاً عبر العمالة والاختراق ايضاً، وان كان سبب تراجعها الأكبر هو تعاون السلطة واجهزتها وليس عملاء الاحتلال فقط. في سياق الاختراق يعترف كرمي غيلون قائد جهاز الشاباك الاسرائيلي في كتابه الذي صدر حديثاً بعنوان الشاباك بين الانقسامات بأن الجهاز قد منع 269 عملية ضد الاسرائيليين، كما منع حدوث 64 عملية "انتحارية"، وتحدث عن تجارب مختلفة من الاختراقات في صفوف الفصائل، ومنها "حماس" و"الجهاد". وقد اعتبر غيلون ان مسألة اختراق "المجموعات المتطرفة" ضرورة لا بد منها لأمن الدولة العبرية. من المؤكد ان قصة العملاء في الجنوب اللبناني كانت سبباً في اعادة قضية العملاء الى أولويات الذاكرة، على رغم ان السؤال المتعلق بهذه القضية كان وما زال مطروحاً على أجندة الشارع الفلسطيني. ذلك ان أبسط الاحصاءات أيام الانتفاضة وما بعدها كان يتحدث عن أكثر من 15 ألف عميل كانوا يعملون في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، وكان كثير منهم معروفاً لدى الناس، ذلك ان سجون السلطة الفلسطينية لا تؤوي من هؤلاء سوى حفنة قليلة ممن تورطوا في أعمال دموية بعد اتفاق اوسلو، أما الآخرون فهم يسرحون ويمرحون في مناطقها من دون حسيب أو رقيب. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة، هو ما الذي يفعله هذا الجيش من العملاء منذ وصول السلطة الى الآن، وهل تركوا مهماتهم القذرة أم انهم يواصلونها، بأساليب مختلفة؟ ربما ذهب البعض الى ان العملاء قد فروا مع مجيء السلطة الى المناطق المحتلة عام 48، غير ان ذلك ليس صحيحاً، فمن فعلوا ذلك هم القلة ومنهم من عادوا بعد رحيل موقت، أما الأكثرية والذين كان يسميهم البعض "تدليعاً" بالمتعاونين، فلم يرحلوا ليعودوا، بل ظلوا "صامدين" تحرسهم ارادة الاحتلال!! أما السؤال الآخر الذي طرحوه ثم تجاوزوه، فهو لماذا لم تقم السلطة بمعاقبة أياً من اولئك على جرائمهم، خصوصاً ان من بينهم من كان تورط في قتل فلسطينيين، عبر مشاركته الدوريات الاسرائيلية في أعمال القتل بشكل مباشر. بل لماذا لم تقم بالتحقيق معهم لمعرفة حجم ما ارتكبوه من جرائم، أو على الاقل معرفة مصير ارتباطاتهم المشبوهة مع اجهزة الاحتلال وتحولاتها في المرحلة الجديدة. الإجابة على هذا السؤال لها شقان، الأول يتعلق بوجود اتفاقات ضمنية بين سلطات الاحتلال والسلطة الفلسطينية تفضي بعدم التعرض لأولئك العملاء بالاعتقال أو الملاحقة، اما الشق الثاني فمتعلق بثمن تلك الملاحقة ان تمت، ذلك ان خضوع السلطة ومناطقها للرقابة الاسرائيلية يجعل ثمن ذلك كبيراً، ذلك ان أي ضابط يتورط في مثل هذه الممارسة سيجد نفسه عرضة للملاحقة امام الحواجز الاسرائيلية، بفرض امكان ذلك بوجود رقابة الاجهزة الاميركية على العمل الأمني للسلطة تحت لافتة التحقق من مقاومة الارهاب. على الأصعدة الأخرى، يمكن القول ان المواطنين الفلسطينيين، فضلاً عن اجهزة السلطة، ما زالوا يحسون بوطأة وجود العملاء في كثير من المجالات، ويصطدمون بهم بشكل يومي، وفي هذا السياق يتحدث ضباط الأمن في السلطة عن تجاربهم ومعلوماتهم على هذا الصعيد، فمنهم من يشعر بالقهر بسبب عدم قدرته على مقاومة كل ذلك نظراً الى الثمن المتوقع، والى القيود التي تحول دون ذلك في العلاقة مع اجهزة الاحتلال. ولعل الأسوأ من ذلك كله هو معرفة بعض المواطنين لعملاء يعملون في صفوف السلطة واجهزتها. جيش العملاء في الضفة وغزة ما زال يعمل سواء كان ذلك باستمرار التجنيد والإسقاط، أم بالأعمال القذرة الاخرى من دعارة ومخدرات، أم من خلال الاختراق، الذي يركز كثيراً هذه الأيام - حسب مصادر السلطة والمعارضة - على فصائل المقاومة حماس والجهاد تحديداً وذلك عبر اسقاط بعض الصغار الذين يرتادون المساجد، وكذلك الطلبة في المدارس والجامعات، ليبدأوا رحلة العمل مع الفصائل الاسلامية، لملاحقة أي تفكير باستمرار المقاومة، ولعل ذلك ما يفسر بعض الفشل في أعمالها أي المقاومة اضافة - وهي الأهم - الى أنشطة اجهزة السلطة الأمنية. ان شعور العملاء بأن سلطات الاحتلال تقف خلفهم بكل جبروتها يجعلهم اكثر قوة في عملهم ونشاطهم، فما يكاد احدهم يقع في قبضة السلطة أو بعض رجالها، حتى تتحرك اجهزة الاحتلال لفك أسره، وإعادته الى الحلبة من جديد، واذا كان العملاء القدماء يحظون بشيء من المتابعة، فإن الجدد يتحركون بصورة أفضل. لذلك كله، فإن بالامكان القول ان هذه المشكلة ما تزال قائمة وعميقة في آن، وستتواصل حدتها ما دامت سيادة السلطة على مناطقها منقوصة، ووجود الاحتلال في مفاصلها كبيراً، وهي بالطبع مشكلة اكبر لقوى المقاومة التي سيعمل العملاء على مزيد من اضعافها ما استطاعوا الى ذلك سبيلاً، والاهم من ذلك انها مشكلة للمجتمع الفلسطيني الذي سيعمل جيش العملاء على استمرار العبث بأخلاقه ووحدته بكل السبل الممكنة. من الصعب الحديث في هذه السطور عن حل لهذه المشكلة، فما دامت السلطة خاضعة لشروط الاحتلال فإن الظاهرة ستواصل فعلها، ولا أمل سوى في قدرة المجتمع المدني الفلسطيني على المقاومة عبر ملاحقة هذه الفئة وتعريتها ومقاومتها ومن ثم عزلها، للحد من تأثيراتها السلبية، ما دام ان شلها تماماً ليس وارداً في المدى القريب. * كاتب أردني.