انتهت جولة في كامب ديفيد، وستتبع جولة ثانية يُعتقد انها ستكون حاسمة. اذا بقي الموقف الفلسطيني كما يوصف الآن بأنه قوي بواقعية، فإن الاميركي - الاسرائيلي سيجد نفسه امام خيار التنازل لأن استراتيجيته التفاوضية تهدف الى "حل نهائي" يشكل "نهاية" الصراع وينطوي على آخر التنازلات المطلوبة من اسرائيل. برهن الرئيس الفلسطيني في هذه الجولة انه يعرف كيف يفاوض. فهو موجود اصلاً امام الخصمين التاريخيين، الاميركي والاسرائيلي، ويقول انه جاهز للحلّ النهائي، ولكن ليكون هذا الحل نهائياً فعلاً فإن أهم متطلباته أن يجد حلولاً دائمة وربما "تاريخية"، لمسائل شغلت تاريخ المنطقة العربية طوال القرن العشرين، وأهمها: القدس بما تعنيه دينياً وثقافياً وحضارياً للشعب الفلسطيني وللعرب والمسلمين والمسيحيين، وقضية تشريد شعب وسرقة أرضه وأملاكه. وفي هاتين المسألتين جوانب معنوية - أخلاقية لا يمكن الالتفاف عليها بموازين القوى او بمنطق المنتصر، وإلا فإن حلّها سيكون ناقصاً وآنياً. وبرهن رئيس الوزراء الاسرائيلي ان "اللاءات" التي شدد عليها قبيل سفره الى كامب ديفيد، انما هي للاستهلاك الاسرائيلي الداخلي. فالمفاوضات وضعت كل تلك "اللاءات" على الطاولة، فحتى الرأي العام العربي استسلم للاعتقاد بأن القدس، كمدينة وسيادة، لن تكون مطروحة، نظراً الى ما بلغه التشدد الاسرائيلي في هذا الشأن. كذلك موضوع اللاجئين، اذ ان الموقف الاسرائيلي المتحجّر والمتهرّب من اي مسؤولية معنوية - اخلاقية حياله بدأ يتحرك باتجاه البحث عن صياغات واجراءات ل"اخراج" هذه المسؤولية بأقل مقدار ممكن من التكاليف. اذاً، واجه الاسرائيليون والاميركيون لحظة الحقيقة، ويبقى ان يقدموا هم بدورهم على القرارات الصعبة لمعالجة آثار ما ارتكبوه طوال العقود السابقة من جرائم في حق الفلسطينيين خصوصاً والعرب عموماً. لكن الجولة الثانية في كامب ديفيد قد تشهد انقلاباً على الواقع النفسي - التفاوضي الذي فرض على الاطراف، لأن الاعتراف بالحقيقة مكلف. واذا كانت التنازلات صعبة على الجميع فهذا يعني اما تأجيل الحل والاستمرار في التفاوض كوسيلة لامتصاص التوتر وابقائه تحت السيطرة، او يفلح الضغط الاميركي في جعل الطرفين يقبلان بمجرد "اتفاق اطار" سيحتاجه الرئيس كلينتون ليقول ان القمة لم تنته الى فشل، ويحتاجه باراك ليقول انه لم يتنازل، اما عرفات فيمكن ان يقبله لئلا يخرب العلاقة مع الادارة الاميركية. أسوأ ما يمكن ان يحصل في الجولة الثانية من مفاوضات كامب ديفيد هو ان يلجأ الأميركي - الاسرائيلي الى مرجعيات عربية للضغط على الرئيس الفلسطيني. صحيح ان كثيرين من العرب يستهجنون كيف ان المفاوضات تجري وسط لامبالاة عربية، معتبرين ان دعم المفاوض الفلسطيني مطلوب بل واجب. لكن الأصح ان اي تدخل عربي قد يفسد على الفلسطيني هذه المعركة التي عرف عرفات حتى الآن كيف يخوضها من دون مظاهر ولا استفزازات. واذا لاحظنا ان اسرائيليين عديدين في كامب ديفيد شكوا من ان عرفات يبدو حالياً اكثر تشدداً من "المتشددين" في وفده، وبالتالي لم يفلح كلينتون في تليين مواقفه، فلا عجب اذا تكاثرت الاتصالات عشية الجولة الثانية بغية استجلاب الضغط من جهات عربية. اخطر ما في احتمال كهذا انه يرمي الى تمييع البعدين الديني والسياسي للقدس، مثلما يهدف ايضاً الى تسخيف موضوع اللاجئين وقصره على الحلول الاجرائية كالتعويض والتوطين. من شأن المراجع العربية، أياً كانت، ان تربأ بنفسها عن التدخل. فهي صمتت عندما طلب منها الاميركيون ان تصمت، لكن المصلحة العربية والفلسطينية تقتضي منها ألا تنطق الآن ب"الكفر" اذ يطلب منها الاميركيون ذلك. للمرة الاولى يفاوض الفلسطيني بشكل عقلاني وبنتائج معقولة، فليدعمه العرب ليكمل على هذا النهج حتى لو تطلّب الامر ان يتمردوا على الاميركي... بالصمت.