ريشار دندو مخرج يحب النصوص الأدبية. وهو في فيلمه الأخير "جينيه في شاتيلا" اشتغل انطلاقاً من نص أدبي، لأنه شاء - على ما قال بنفسه - أن يقترح مشاهدة ما يسميه "السينما - الكتاب" أو "النظرة - القراءة". إذاً، استناداً الى نصين مكتوبين هما "أسير عاشق" و"أربع ساعات في شاتيلا" لجان جينيه، يحاول دندو هنا، ليس فقط أن يكتشف كتاباً أو يساعد على اكتشافه، بل كذلك أن يعيد إحياء جان جينيه. من لبنان الى الأردن وفي مواكبة موسيقى موزار القوية "قداس" موزار الذي كان جينيه يستمع إليه خلال كتابته "أسير عاشق"، ومسنوداً في رحلته الى لغة جينيه الرائعة في صوابها، يتجول دندو على خطى هذا الكاتب الملتزم، للقاء تلك الأرض التي أحبها جينيه كثيراً، وأولئك الناس الذين دافع عنهم طويلاً، فلسطينيي المخيمات والآخرين، الفدائيين، النساء الفلسطينيات وحمزة. فدندو لا يكتفي في فيلمه بأن يقدم صوراً توازي نص جينيه، بل يحاول أن يستند الى كل كلمة وكل فقرة وكل فكرة، وهو يبحث عن صورة تكون من القوة لتكشف ما يختبئ خلف النص، وحتى في الساحات البيض بين السطور التي تسود كتاب جينيه. تلك المساحات التي يتساءل جينيه نفسه ألم تكن أكثر حضوراً وواقعية وتعبيراً من الكلمات التي كتبها بنفسه؟ في الفيلم كثيراً ما يلجأ دندو الى استخدام الجملة نفسها مرات عدة لتواكب صورة تكون أحياناً متناقضة مع الجملة، كما لو أن في الأمر إعادة نظر لمعنى الجملة، أو تساؤلاً على الأقل. وفي بعض الأحيان نلاحظ كيف أن دندو يعيد بناء الحدث الذي يصفه النص، إذ يطلب من شخصياته أن تكرر الحركات والتصرفات نفسها التي يصفها هو، كما لو أن ذلك يؤدي الى إعادة إحياء ذكراه ومساءلته أو لإظهار ما كان وما صار، لإظهار الزمن الذي يمر، والذاكرة التي تبقى. يتحدث كتاب جينيه عن ذكرياته، ويحيلنا على المرحلة التي عاش خلالها في الأردن مع الفدائيين، والمؤمثلة هنا والتي تبدو وقد أسبغت عليها روعة ما بعدها من روعة. أما فيلم دندو فيتحدث عن الذاكرة والغياب، ولو كان في شكل مفارق أو ربما منطقي، جينيه حاضراً في كل صورة. يصور دندو المقاعد الخالية حيث كان جينيه يقعد حين وصوله الى بيروت، ويصور سرير حمزة الذي كان جينيه ينام فيه. ويصور الأزقة كما يصور بيوت شاتيلا التي لطالما أرتنا إياها الصور مملوءة بالجثث إبان المذبحة المريعة، عابقة برائحة الموت. اليوم ها هي تلك الأزقة والبيوت مهجورة وملأى بذكريات الرعب التي تبدو لنا اليوم أكثر رعباً. حين يصور دندو أعماق المخيم، والأبواب نصف المفتوحة، والمقبرة العتيقة التي تحولت ملعباً لكرة القدم، تبدو لنا المجزرة ماثلة، مدفونة ها هنا تصخب. أما العنف الذي يستشعره جينيه لحظة اكتشافه المجزرة، فيبدو ماثلاً خلف شفافية الشاشة. ولكن حين يصور دندو الناس، أولئك الذين عرفوا جينيه، والآخرين الذين سكنوا ذكرياته والذين أحبوه، يتخذ الفيلم وجهة أخرى. فإذا كان هذا الفيلم يروي ذاكرة جينية، فإنه في الوقت نفسه فيلم يسائل تلك الذاكرة، ويسائل عبرها ذاكرة شعب بأسره وتاريخه، حتى إذا كان دندو لا يتخذ موقفاً مع الفلسطينيين أو ضدهم، وحتى إذا كان يصر على أن هدف الفيلم ليس إظهار ما صاروا عليه، فإن الواقع يقول لنا إنه يصورهم كما هم الآن متعبون، مستنفدون، معدمون وقد أهلكهم ثقل ثورة يشعرون في نهاية الأمر، انها غدرت بهم. عند هذا المستوى من الفيلم لا يمكن المرء أن يمنع نفسه من أن يتساءل عما كان من شأن جينيه أن يفعله أو يقوله لو كان لا يزال حياً بيننا؟ هل تراه كان سيواصل هيامه بالفلسطينيين؟ هل تراه كان سيواصل اعتبارهم أقوياء وعلى جمالهم السابق نفسه؟ فالفدائي كما كان يراه جينيه، مات. والثورة التي كان يشرح ويفسر أهدافها انتهت بدورها. امحت. ومن هنا نلاحظ أن ثمة حقيقتين تتعايشان في فيلم دندو: أولاً، حقيقة الذاكرة المجمدة، الجميلة، الأبدية كما شاءها جينيه، وبعد ذلك، حقيقة ما صار إليه موضوع تلك الذاكرة. انطلاقاً من هنا يصبح فيلم دندو نوعاً من الرصد الذي يحيلنا على الموت، الموت الذي لا ينفد منه سوى الذاكرة، الموت الذي لا يمكن شيئاً سوى الذاكرة أن يقارعه. وفي ظل هذا الصراع يخرج نصف جينيه مظفراً، إذ تبقى كلماته أكثر قوة وأكثر حضوراً. أما دندو فربما لأنه شديد التعلق بجينيه، وربما لأنه شديد الانبهار بقوة لغة جينيه، وربما لأنه لم يكن واثقاً أن في إمكانه أن يخدم، وحده، نص جينيه، وربما أيضاً لأسباب أخرى لا ندركها، كان في حاجة طول مسيرة فيلمه - الرحلة، الى وسيط. وهكذا جعل بينه وبين عالم جينيه، عنصراً روائياً أتى من خارج النص ليواكب المتفرج في اكتشافه عالم جينيه. منية الراوي هي الوسيط الذي يقودنا عبر هذا الفيلم، على خطى جينيه. إنها تقوم بهذا حاملة حيناً نظرة دندو، وحيناً نظرة جينيه. ومنية ممثلة ومتفرجة في الوقت نفسه. إنها ممثلة شابة من أصل جزائري، تخرجت في المدرسة الوطنية للمسرح في ستراسبورغ فرنسا. وفيلم "جينيه في شاتيلا" هو أول فيلم روائي طويل تمثله. التقينا منية قبل أيام في مقهى باريسي، والفيلم لا يزال معروضاً، فروت لنا، بتلقائية وحس عفوي علاقتها بالفيلم ولقاءها دندو، وكذلك "لقاءها" جينيه وعبره ذلك الجزء من التاريخ العربي: