ليس نصّاً مسرحياً نصّ "أربع ساعات في شاتيلا" الذي كتبه جان جينه كشهادة حيّة على المجزرة الرهيبة التي حصلت في المخيّم الفلسطيني في بيروت عام 1982 بُعيد خروج المقاتلين الفلسطينيين. بل هو نصّ شبه سرّدي اعتمد الكاتب فيه اسلوب الريبورتاج لينقل تفاصيل المشهد المأسويّ الذي رآه عن كثب وليدوّن بعض انطباعاته الأليمة التي تكوّنت لحينها. وجذب النصّ، نظراً الى فرادته وعمق شهادته، المخرج الفرنسي ألان ميليانتي فقدّمه على مسرحي "الهافر" و"الأوديون" في العام 1991 كعرض دراميّ. ولقي العرض حينذاك نجاحاً كبيراً وصادف مرور خمس سنوات على وفاة جان جينه. وفي الذكرى الخمسين للنكبة الفلسطينية ارتأى المخرج الفرنسي ستيفان أولي÷ي بيسون ان يقدّم النصّ نفسه في صيغة أخرى وأن ينطلق به من بيروت كتحيّة الى المدينة والى جان جينه على أن يجول به على عدد من المدن الفلسطينية. لم يعتمد المخرج بيسون النصّ أو الريبورتاج كاملاً بل اختار منه مقاطع وأسند مهمّة الكتابة الدراماتورجيّة الى رشيد منتصر وجعل الكاتب أو الراوي ذا صوتين: صوت امرأة وصوت رجل. وقد نجح في خياره هذا إذ جعل جان جينه مزدوجاً بين امرأة ورجل. المرأة تمثل الحالة الأنثوية الكامنة في عمق الكاتب النزق والمنحرف والرجل يجسّد نزعته الأصيلة في كونه كاتباً ينقل تفاصيل ما شاهد في حقل الموت. إلا أنّ الممثل هو نفسه المخرج والممثلة ايفلين ايستريا تبادلا معاً النصّ والشخصية الكاتب أو الراوي أو جان جينه وكانا في بعض الأحيان يمعنان في التحاور غير المباشر كأنْ تردّ الممثلة على الممثل ويردّ الممثل على الممثلة في نوع من المونولوغ الداخليّ والخارجيّ الذي لا يتصاعد ولا يتنامى تبعاً لبنيته الدائرية. ولئن جسد الممثل في بعض المقاطع التي أدّاها ذكريات جان جينه الجميلة في المخيّمات الفلسطينية في الأردن مطلع السبعينات فأنّ الممثلة خاضت للفور "ذكرياته" الحيّة والأليمة في مخيّم شاتيلا. والذكريات الاخيرة ليست الا مشاهدات كابوسيّة وسوداء جعلت جينه من شدّة اضطرابه يسأل نفسه في الختام إن كان ما شاهده حصل فعلاً! كان جان جينه في بيروت عام 1982 غداة خروج "الفدائيين" هكذا يسمّي الفلسطينيين وعشية المجزرة التي حصلت في مخيّمي صبرا وشاتيلا، وكانت مضت عشر سنوات على انقطاعه عن الفلسطينيين بعدما أمضى قرابة ستة أشهر في المخيّمات الفلسطينية في الأردن في العامين 1970 و1971. لكنّ حماسته للقضية الفلسطينية لم تخفت أبداً طوال تلك السنوات. وحين زار مخيّم شاتيلا بعد ساعات على المجزرة استطاع أن يشاهد من قرب فظاعة ما حصل. مشى بين الجثث في الأزقّة الضيّقة وتأمّل الأجساد المطعونة والممزقة والمهشمة والمقطعة والمرمية تحت الشمس يتآكلها العفن ويغطّيها الذباب. وحيال ذلك المشهد أو ذلك "العرس البربري" كما يقول أخذه الجنون ولم تصدّق عيناه ما أبصرتاه. وحين عاد الى منزل أصدقائه الذين استضافوه في بيروت أغلق باب غرفته على نفسه طوال يومين مستسلماً لتلك "الرؤية اللامرئية" مثلما يعبّر، تلك الرؤية التي تشبه الكوابيس الجحيميّة. الا أنّ جان جينه لم يستطع أن ينسى تلك المشاهد الجميلة والحماسيّة التي رآها في مخيّمات الأردن وعندما شرع في الكتابة عن المشاهد المأسوية في شاتيلا آثر أن يجمع في نصّه بين المناخين الفلسطينيين: مناخ الحياة ومناخ الموت، مناخ النضال ومناخ المأساة. وأمام مشهد الجثث الفلسطينية في شاتيلا لم يستطع الا أن يتذكّر المشهد الفدائي عشية انطلاقته في مخيّمات الأردن. لم يستخدم المخرج الفرنسيّ في بناء العرض المسرحي الا بضعة تفاصيل صغيرة فهو شاء الخشبة عارية عري الكاتب النفسيّ. وفي وسط هذا "العراء" القاتم أطلّت الممثلة والممثل يتقاسمان شخصية الكاتب وصوته ونصّه. هي بالأبيض وهو بالأسود: لونان هما لونا الموت والحداد والحزن. حتى اللون الأبيض بدا قاتماً من خلال المنديل الذي كانت تضعه على أنفها ومن خلال الشرشف الأبيض الذي أجادت الممثلة استخدامه فكان غطاء للجثث حيناً وكفناً لها حيناً آخر. وفي قلب الظلمة أضيئت نواصة زرقاء جسّدت غرفة جان جينه القاتمة وتحت تلك النواصة نامت الممثلة منهكة انهاك الكاتب نفسه حين عاد الى غرفته ليستعيد ما شاهد ويكتبه. وبدا تبعثر الأوراق التي التقطها الممثل والممثلة جميلاً وجسّد تبعثر نصّ جان جينه نفسه بين زمنين مختلفين ومكانين مختلفين. وفي أحد المشاهد ينبطح الممثل على الأرض حاملاً بين يديه صوراً سلبية راح ينظر اليها وسط الظلمة. وجسّد ذلك المشهد ما قاله جينه في النص: "التصوير لا يلتقط الذباب ولا الرائحة البيضاء والكثيفة للموت". نجح المخرج في الدمج بين الاخراج المسرحيّ والقراءة الممسرحة، لكنّ الممثلين لم يلجأا الى القراءة الصرفة. وأدّى الممثل في بعض اللحظات دور القارىء حاملاً كتاباً بين يديه، وكذلك الممثلة بدت في أحيان كأنّها تقرأ وهماً بعض الأوراق. وعبر هذه اللعبة المزدوجة استطاع المخرج أن يمنح النصّ حجمه كنصٍّ سرديّ أو كريبورتاج روائي مبعداً عنه أيّ صفة درامية بحتة. والنصّ أصلاً ليس نصّاً مسرحياً ويستحيل تحويله الى نصّ مسرحيّ إذ لا وقائع فيه ولا أحداث ولا شخصيات. إنّه نص يسرد بعض الذكريات وبعض المشاهد ويمعن أحياناً في التحليل السياسيّ العابر. وقد بدا جينه من خلال النصّ كاتباً ملتزماً يناصر القضية الفلسطينية ويدين المجزرة التي حصلت ويحمّل الإسرائيليين والكتائب وجماعة حدّاد مسؤوليتها ويلوم جهاراً أميركا وايطاليا وفرنسا على تلكؤها وعلى سحب جنودها بعد اجلاء الفدائيين وترك الفلسطينيين المدنيين من دون حماية وسط الاحتلال الإسرائيلي للضواحي والمناطق اللبنانية. غير أنّ أهميّة النصّ تكمن في كونه شهادة وجدانية على المجزرة، وقد كتبه جينه بنزقه المعهود ولغته الحادّة والناريّة. ولم يخفِ جينه نزعته شبه النكروفيليّة أمام جثث النساء والأطفال وأمام الأشلاء المقطّعة ويعترف جهاراً في النصّ أنّه ألف تلك الجثث وأصبحت من "أصدقائه". ويعرب في مقطع آخر عن "صداقته" بل عن "حنانه" الكبيرين حيال تلك الجثث. وقد وجد نفسه جثة من الجثث السوداء والمنتفخة والمهترئة تحت الشمس. ويقول جينه "لم أكن قادراً على الخروج من شاتيلا من دون أن أذهب من جثة الى أخرى". فالمشهد الذي آلمه كثيراً جعله ضعيفاً ومسحوقاً أمامه أيضاً، وراح يكتشف الوجه الآخر للحياة، الوجه الحقيقي ربّما، وأمام الجثث الكثيرة أعلن جينه أنّ ما من ألواح خشب تكفي لصنع التوابيت وما من نجّارين يكفون أصلاً لصنعها. ويسأل: لماذا التوابيت، الحاجة هي فقط للأكفان وكم يلزم من أقمشة، كم يلزم من صلوات! وان ابتعد جينه عن الجوّ الميلودرامي مؤثراً كتابة نصّ وصفيّ وواقعيّ ووجدانيّ في الحين عينه فأن الممثلة التي أدّت شخصيّة الكاتب وقعت في بعض الأحيان في الميلودرامية المتقشفة من خلال تعبيرها وأدائها. فهي لم يغب عنها أنّها امرأة تنتحل شخصية رجل مثْلي وبدت ملامحها المأسوية كأنّها الدموع التي لم يذرفها جان جينه فظلّت حبيسة عينيه وقلبه. أمّا الممثل الذي أدّى شخصية الكاتب أيضاً فغدا على قدْر من القسوة والصمت وأدّى نصّه بتماسك شديد مناقضاً الممثلة تماماً. ترى أليست اللعبة لعبة متناقضة بين الخوف من المشهد والتآخي معه؟ لعبة متناقضة بين عتمة المكان وبياض الكفن، بين واقعية المنظر ووهميّته؟ "أربع ساعات في شاتيلا" عرض قائم على النصّ الجميل أوّلاً وعلى اللعبة الصامتة والخطرة التي تبادلها ممثلان يؤدّيان شخصية واحدة وكلاماً واحداً ويتبادلان لحظات الموت والتمزّق على خشبة فارغة ظاهراً ومملوءة ظلالاً وأطيافاً وجثثاً. * قدّم العرض بالفرنسية على خشبة مسرح "بيروت" ويقدّم كذلك في بعض المدن الفلسطينية الخاضعة للحكم الذاتي وفي باريس اخيراً.