كثر الحديث أخيراً عن ضرورة السماح بتأسيس مصارف تجارية خاصة في سورية. ويبدو أن الحكومة تستجيب لذلك. اذ صدر قرار وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية بالموافقة على نظام عمل المصارف الخاصة في المناطق الحرة كان للكاتب رأي في هذا الموضوع نشر في مقالة في جريدة "تشرين" بتاريخ الخميس 6 تموز/ يوليو 2000. كما ان هناك إشارات في الصحف تنوه الى قبول أولي من قبل الحكومة بإنشاء مصارف خاصة في سورية على أساس قطاع مشترك مع مصارف سورية أو مصارف عربية أو مصارف مشتركة سورية - عربية. وكنا أول من بحث في عدم كفاءة وعدم كفاية المصارف المتخصصة الحكومية الخمسة القائمة حالياً. كما كنا أول من طالب بضرورة السماح بإنشاء مصارف خاصة في سورية لتوفير التمويل الاقراضي اللازم لمشاريع الاستثمار في القطاعات الاقتصادية المختلفة، وخفض كلفة رأس المال، وتشجيع الاستثمار، وتنمية الادخار، وتسريع عملية النمو الاقتصادي، وخلق وظائف جديدة، وخفض معدلات البطالة المرتفعة، وزيادة الدخل، ورفع مستوى المعيشة. وتم ذلك في مقالات في الصحف وفي محاضرات ومداخلات ألقاها الكاتب منذ مطلع التسعينات في ندوة الثلثاء الاقتصادية التي تنظمها جمعية العلوم الاقتصادية السورية. ولا نزال نؤمن بضرورة احداث قطاع خاص مصرفي، لكننا نريد ان ننبه الى المخاطر الكبيرة التي يمكن ان ننزلق اليها اذا لم يتم اعادة بناء مؤسسة السلطة النقدية على أسس حديثة متينة وراسخة أولاً. ومن هذه المخاطر على سبيل المثال لا الحصر: 1- سوء توزيع الاقراض المصرفي على القطاعات الاقتصادية. 2- التوسع في منح القروض الى عملاء من فئات خطر ائتمان عال طمعاً بمعدلات فائدة قروض مرتفعة وارتفاع نسب القروض المشكوك في تحصيلها الى مستويات عالية، ما قد يؤدي الى انهيارات مصرفية. 3- عدم التزامن بين بنية استحقاق الأصول والخصوم المصرفية. 4- عدم الاحتفاظ بمراكز سيولة كافية قواعد بنك التسويات الدولي. 5- عدم التقيد بقواعد كفاية رأس المال المؤسسة على قياسات الأصول المصرفية المثقلة للمخاطر قواعد بنك التسويات الدولي. 6- التوسع في التسليف والمساهمة في حدوث ضغوط تضخمية في الاقتصاد القومي. 7- استفادة المؤسسين وأعضاء مجالس ادارة المصارف ومن يخصهم من قروض ممنوحة لهم من مصارفهم لتمويل مصالحهم الأخرى. 8- مضاربة المصارف بأموال المودعين و/أو المستثمرين في الأسواق المالية داخلياً وخارجياً، خصوصاً اذا ركزت المصارف على نشاط "الخدمات المصرفية الخاصة" كما هو متوقع، وأخذت مراكز استثمارية ذات مخاطر كبيرة في الأوراق المالية العائدة الى المشتقات المالية لغير دواعي حماية المراكز، وما قد ينتج عن ذلك من خسائر رأسمالية كبيرة للأفراد والمؤسسات. 9- تحويل رؤوس الأموال بالعملة الوطنية وبالقطع الأجنبي بسرعات هائلة قبيل الأزمات المالية، ما قد يسرع في حدوثها. 10- حدوث أزمات سيولة وتعثرات وإفلاسات وانهيارات مصرفية حقيقية واحتيالية تبدد ودائع الأفراد مدخرات المجتمع، إلخ. ولعل أول وأهم خطوة في اعادة هيكلة القطاع المالي في سورية هي اعادة بناء مؤسسة السلطة النقدية. ويتطلب ذلك تطوير الأنظمة والقوانين والتشريعات النقدية والمصرفية والمالية، واعداد وتدريب وتأهيل واعادة تدريب وتأهيل الموارد البشرية لتمكينها من العمل في نظام مالي عصري، وإدخال أنظمة تقنية المعلومات في أعمال المؤسسات النقدية والمصرفية والمالية كافة. وأرغب بالتشديد على ان هذه العملية يجب ان تتم أولاً، وقبل السماح بإنشاء أي مصارف قطاع خاص. ويجب ان تتم هذه العملية على أيدي خبراء سوريين حصراً. ونود التركيز على الخبرة الوطنية حتى لا تتكرر قصة خبراء الاتحاد الأوروبي وشركة الاستشارات العالمية أرثر أندرسون الذين عهد اليهم تطوير المصرف التجاري السوري، فمضت السنوات وجمعت المعلومات، وأنفقت أموال المساعدة الأوروبية على أفراد أوروبيين ومصاريفهم الباهظة، من دون ان يتحقق شيء من المهمات المطلوبة. ولا يزال هناك خبير اتحاد أوروبي مقيم في المصرف المركزي. وربما كان من المفيد التذكير بالمهمات المطلوبة لإعادة هيكلة مؤسسة السلطة النقدية، وبيان ما هو مطلوب لتطوير مصرف سورية المركزي، كخطوة أولى نحو تطوير القطاع المصرفي. إن المهمات الأعمال المطلوبة كبيرة وكثيرة، وتحتاج الى فريق متفرغ من خبراء واستشاريين متخصصين في الشؤون الاقتصادية والنقدية والمصرفية والأسواق المالية وتمويل الشركات وتحليل الاستثمار والمحاسبة وتقنية المعلومات وأنظمة المعلومات الادارية وقانون الشركات. ومثل هذه الخبرات موجودة في سورية، إن في الداخل، وإن في الخارج في مصارف ومؤسسات مالية وجامعات وبيوت خبرة عالمية. ويجب اعتماد هذه الخبرات الوطنية أساساً، ورفدها بخبرات عربية وأجنبية عند الحاجة. وللاختصار سنقدم لائحة بأهم المهمات المطلوبة لإعادة هيكلة السلطة النقدية وتطوير مصرف سورية المركزي، وتسلسلها المنطقي والزمني، وذلك كما يلي: 1- إعادة السلطة النقدية من الحكومة اللجنة الاقتصادية الى مصرف سورية المركزي. 2- الاعتراف باستقلالية السلطة النقدية، وانهاء تبعية المصرف المركزي لوزارة الاقتصاد، وتعيين حاكم المصرف المركزي من قبل رئيس الجمهورية. 3- رفد المصرف المركزي بالكفاءات العلمية العالية القادرة على ادارة السياسة النقدية، والقيام بعمليات الرقابة على المصارف والمؤسسات المالية الأخرى، والاشراف على الأسواق المالية والأوراق المالية وتطويرها. 4- استقطاب الكفاءات من الداخل السوري والخارج ودفع رواتب وتعويضات وأتعاب تتناسب مع مستواها العلمي ومستوى كفاءتها وخبرتها وفرصها البديلة ودرجة المسؤولية في المنصب، وذلك للتمكن من جذبها وتحفيزها على العمل والاحتفاظ بها. 5- اعداد قانون نقد وتسليف عصري. 6- اعداد قانون شركات مصرفية خاصة حديث. 7- اعداد قانون عصري للرقابة على المصارف وتصميم نظام عمليات المراقبة الممكن. 8- اعداد وتأهيل مراقبي مصارف وتدريبهم على تطبيق نظام الرقابة الممكنن بفاعلية وكفاءة. 9- اعداد قانون لإنشاء مؤسسة شركة وطنية لضمان الودائع على شاكلة Federal Deposits Insurance Corporation الأميركية، والسماح بإمكان ضمان الودائع لدى شركات تأمين وطنية خاصة وتحديد الشروط الموضوعية لذلك. 10- اعداد قانون شركات مؤسسات مالية مثلاً: بنوك استثمار، شركات تأمين، شركات وساطة أوراق مالية، شركات صناديق استثمار في الأوراق المالية، شركات صيرفة، إلخ. 11- تفويض المصرف المركزي الإشراف على تطوير الأسواق النقدية والرأسمالية والمؤسسات المالية العاملة فيها والأدوات المالية المتداولة فيها. 12- تفويض المصرف المركزي اصدارات سندات وأذونات خزينة لصالح وزارة المال، والإشراف على سوق سندات الخزينة ومراقبته، والتدخل فيه عمليات السوق المفتوحة بحسب متطلبات السياسة النقدية. 13- المشاركة في اعداد قانون شركات مساهمة ووضع حوافز ضريبية وغير ضريبية وامتيازات لتأسيس الشركات المساهمة وإغناء عرض وتشكيلة فئات خطر - ومردود الأوراق المالية أسهم وسندات في السوق. 14- اعداد نظام محاسبة مصرف مركزي حديث يعتمد معايير المحاسبة الدولية، وتطبيقه بوضعه على الكومبيوتر، وتدريب العاملين على استعماله. 15- إلزام الشركات المصرفية التي ستؤسس لاحقاً اتباع أنظمة محاسبة مصرفية تعتمد معايير المحاسبة الدولية، ووضع نظام المحاسبة على الكومبيوتر، وإرسال تقارير يومية وأسبوعية الى المصرف المركزي تتضمن المعلومات التي تتطلبها الرقابة على وضع المصرف، ونشر تقارير مالية موازنة وحساب أرباح وخسائر وغيرها من التقارير المالية ربعياً كل 3 أشهر، وسنوياً في قوائم موحدة في الشكل، وعناصر المضمون، ودرجة التفصيل يحددها المصرف المركزي لإجراء المقارنة بين المصارف، وإصدار تقرير سنوي فيه تحليل مقارن لأداء المصرف. 16- اعادة التنظيم الاداري للمصرف المركزي وتوصيف الوظائف الرئيسية فيه بما يتناسب مع المهام الجديدة المناطة به والأنظمة الحديثة التي سيعمل بموجبها. 17- فصل العمل الحزبي وميزاته عن العمل المصرفي ومؤهلاته. 18- إدخال الكومبيوتر في شكل جوهري في أعمال المصرف المركزي كافة، وتدريب العاملين على استخدام أنظمة الكومبيوتر. توضع فترة زمنية محددة ستة أشهر مثلاً لإدخال الحد الأدنى الممكن من المعلومات وتطبيق البرامج والتدرب على الاستخدامات الجديدة، يصبح بعدها العمل على الكومبيوتر الزامياً وحصرياً، ويعفى حين ذلك الموظفون غير القادرين على العمل بهذا الشكل من وظائفهم. 19- ربط ادارات وموظفي المصرف المركزي بشبكة انترانت Intranet شبكة انترنت داخلية لتسريع الاتصالات وتبادل المعلومات. 20 - تدريب الموظفين ثم تدريب الموظفين ثم تدريب الموظفين تكرار مقصود على العلوم الاقتصادية والنقدية والمصرفية والتمويلية والاستثمارية والمحاسبية والادارية والأسواق المالية وتطبيقات الكومبيوتر وبرامجها وأنظمة المعلومات الإدارية الخ، إذا أن الاستثمار في رأس المال البشري يجب أن يحتل درجة عالية في سلم أولويات التطوير. 21 - إنشاء معهد للعلوم المالية والمصرفية تابع للمصرف المركزي لتأهيل موظفي المصارف والمصرف المركزي. 22 - احداث نقلة نوعية في ادارة الإحصاء والدراسات في المصرف المركزي لجهة اعداد الاحصاءات النقدية والمصرفية وميزان المدفوعات في أوقاتها ومن دون اي تأخير لأهميتها في اتخاذ القرار الاقتصادي. 23 - اصدار تقارير دورية شهرية أو ربعية عن تطور مؤشرات أساسية في الاقتصاد القومي مثل النمو الاقتصادي والكتلة النقدية والتسليف المصرفي، والأسعار والتضخم، والتجارة الخارجية، وميزان المدفوعات، والبطالة، وانفاق وايراد الموازنة العامة الفعلي، الخ. 24 - اعداد تقرير سنوي تحليلي يبين تطور أداء الاقتصاد القومي السوري بقطاعاته المصرفية والنقدية والمالية والانتاجية كافة، كما هو معمول به في المصارف المركزية، وليس نشرة إحصائية فقط تصدر متأخرة. هذه ليست بالضرورة لائحة حصرية، لكنها مؤشر لما يجب عمله. أما المضمون ومحتويات كل من هذه المهمات والأعمال فيشكل الدراسات المعمقة التي يجب على الخبراء والاستشاريين السوريين القيام بها لتصميم الأنظمة وتطبيقها وتدريب الموارد البشرية على استعمالها. ولعله من الأهمية بمكان لفت النظر الى ان عملية اعداد كل هذه الدراسات لبناء السلطة النقدية تأخذ وقتاً طويلاً يتراوح ما بين سنة وثلاث سنوات، بحسب عدد فرق الاخصائيين التي ستعمل في آن ومعاً. ومن الضروري جداً اعطاء الخبراء الوقت الكافي للدراسة والبحث وتصميم القوانين والأنظمة والتشريعات وتطبيقها. ولا يجب "سلق" هذه الأنظمة، أو نقلها حرفياً من عند الغير. وهناك ضرورة قصوى للبحث والتمحيص والمناقشة والتحليل للخروج بأفضل ما يتناسب مع أهدافنا واحتياجاتنا ومشكلاتنا في المرحلة الانتقالية وفي المراحل الأبعد أمداً. كذلك يجب ان تعطى عمليات التنفيذ الوقت الكافي خصوصاً في ما يتعلق بالتدريب والتأهيل على الأنظمة وعلى استعمال الكومبيوتر. وهذا كله يقودنا الى الاستنتاج بأنه يجب الا يسمح بانشاء مصارف خاصة قبل استكمال اعادة بناء السلطة النقدية، ممثلة في مصرف سورية المركزي على الوجه الأكمل. إننا في سباق مع الزمن. لذلك فإن النصيحة التي نقدمها الى من في يدهم سلطة اتخاذ القرار الاقتصادي في سورية لها خمسة ابعاد: احزموا الأمر واتخذوا قرار التغيير، اختاروا فريق العمل الرئيسي خبراء وأخصائيين الذي سيتولى مسؤولية العملية بكاملها، حددوا الجهة المشرفة عليها، اعملوا بحسب خطة، وباشروا بسرعة العمل حتى يتسنى الانتهاء منه في أبكر وقت ممكن. في ما عدا ذلك، ان السماح لمصارف خاصة بالعمل من دون اشراف ورقابة شديدة من قبل سلطة نقدية سيحولها بسرعة الى "جامعي أموال ومهربيها" من نوع جديد! * استشاري تمويل واستثمار ومصارف وأسواق مالية - أستاذ جامعة سابق