لكل نظام اقتصادي مفاهيمه ونظرياته وبنيته المؤسساتية. والنظام المالي الحالي القائم في سورية يتناسب مع نظام اقتصادي يعتمد على التخطيط المركزي وسيطرة القطاع العام على النشاط الاقتصادي. لكن سورية تقوم بعملية تحول الى اقتصاد السوق الحر. لذلك توجد ضرورة جوهرية للعمل بأسرع وقت ممكن على اعادة هيكلة وتطوير القطاع المالي بما يتناسب مع متطلبات نظام الاقتصاد الحر. اذ انه من غير الممكن ومن غير المعقول ادارة اقتصاد سوق بذهنية ومؤسسات وأشخاص وسياسات نظام تخطيط مركزي. مثلما انه من غير المقبول ادارة اقتصاد موجه بعقلية ومؤسسات وسياسات نظام اقتصاد حر. فالنتيجة الحتمية لمثل هذا الاسلوب الفشل الذريع في الحالتين. ومن الضروري اعادة هيكلة النظام المالي والمصرفي في سورية بهدف تطوير الاسواق النقدية والرأسمالية وتنويع الادوات المالية المتداولة فيها. وسيتم اقتراح ثلاث مجموعات من التوصيات تتناول في موضوعها الاصلاح النقدي، والاصلاح المصرفي، وانشاء أسواق مالية. الاصلاح النقدي لعل أول ما يجب عمله لتطوير النظام المالي في سورية هو الاصلاح النقدي الذي يجب ان يسبق الاصلاحات الاخرى كافة. وسنعرض في ما يلي السمات الرئيسية للاصلاح النقدي المنشود: 1- اعادة تركيز السلطة النقدية في مصرف سورية المركزي وتوقف اللجنة الاقتصادية ووزارة الاقتصاد عن ممارسة دور السلطة النقدية. 2- اختيار اقتصاديين نقديين وماليين من المشهود لهم بالعلم والمعرفة والخبرة والشجاعة الأدبية وتعيينهم في مراكز قيادية في مصرف سورية المركزي لتنفيذ خطة اصلاح مدروسة ومتفق عليها. 3- اعداد قانون جديد ومتطور للنقد والمصارف يمكن مصرف سورية المركزي من تطبيق السياسة النقدية ويسمح بانشاء قطاع مصرفي خاص وينظم عملياته ويحدد أساليب مراقبته. 4- العمل على تطوير السوق النقدية بإصدار التشريعات اللازمة، وتشجيع تأسيس المؤسسات المالية العاملة في هذه السوق، وتنويع أدوات السوق النقدية لتلائم تفعيلات كافة فئات المستثمرين من حيث المخاطرة والعائد وفئة القيمة وتاريخ الاستحقاق واحتياجات المؤسسات المالية وشركات الاعمال الكبرى للتمويل القصير الأجل. 5- السماح للمصارف بتطوير سوق الاقتراض في ما بينها. 6- السماح لقوى السوق بتحديد معدلات الفائدة، وإعادة ترتيب معدلات الفائدة الدائنة والمدينة بما يسمح بترك فارق موجب كاف يمكن المصارف من تحقيق الربح اللازم لاستقطاب رؤوس أموال من مساهمين حاليين ومحتملين وتنمية الموجودات من قروض واستثمارات. 7- الإلغاء التدريجي لنظام المراقبة على القطع واستبداله بسوق للقطع الاجنبي محصورة في المصارف التجارية خاضعة لرقابة المصرف المركزي. على ان يتم في مراحل لاحقة السماح بتأسيس شركات للصرافة خاضعة لمراقبة المصرف المركزي. 8- اعداد قانون لتطوير اسواق الرأسما بشقيها السوق الأولية والسوق الثانوية، وإحداث مديرية في المصرف المركزي خاصة بذلك، وإصدار التشريعات اللازمة لتأسيس المؤسسات المالية واصدار الأوراق المالية المتنوعة اللازمة للاسواق. 9- الاتفاق مع وزارة المال على وضع سقف للمديونية الداخلية للحكومة، وعلى تمويل عجوزات الموازنة بإصدار أذونات وسندات خزينة، يقوم المصرف المركزي بإصدارها بمزادات دورية نيابة عن وزارة المال. على ان تباع أدوات الدين الحكومي الى المصارف والمؤسسات المالية والافراد وصناديق التقاعد والاستثمار وشركات الاعمال، وان يجري تداولها في الاسواق النقدية والرأسمالية. 10- وضع السياسات النقدية وتطبيقها من خلال أدواتها العامة نسبة الاحتياط على الودائع، معدل اعادة الحسم، عمليات السوق المفتوحة، والإلزام الأدبي للمصارف، وبالتنسيق مع السياسة المالية. ويجب ان تهدف السياسات الى تحقيق معدلات نمو اقتصادي عالية، والمحافظة على استقرار الاسعار، والوصول الى العمالة الكاملة في تشغيل قوة العمل، وتأمين توازن القطاع الخارجي للمحافظة على قيمة العملة الوطنية. الاصلاح المصرفي يجب ان تهدف الاصلاحات المصرفية الى تأسيس صناعة مصرفية سورية متطورة تعمل في شكل فعال على جذب المدخرات في المجتمع السوري وتوجيهها الى قروض واستثمارات منتجة، والمساهمة في شكل جوهري بتطوير الاسواق والأدوات النقدية وبتطوير أسواق الرأسمال. ويمكن تلخيص أهم الاصلاحات المصرفية المطلوبة في النقاط التالية: 1- السماح بانشاء قطاع خاص مصرفي يعمل في جو تنافسي بهدف تطوير وتحديث الصناعة المصرفية في سورية. 2- السماح للمصارف بمشاركة مصارف عربية على ان تكون الغالبية 51 في المئة للسوريين بهدف جذب رؤوس الأموال من الخارج، لنقل الابتكارات التكنولوجية والمالية الحديثة، ولتطبيق أنظمة وسياسات الادارة المصرفية العصرية. 3- تحويل المصرف "التجاري السوري" الى قطاع مشترك يساهم فيه القطاع الخاص بنسبة 75 في المئة والحكومة ب 25 في المئة. ويقترح ان يتم بيع 25 في المئة من الاسهم الى موظفي المصرف. وسيساهم تخصيص المصرف التجاري السوري في دعم الملاءة الرأسمالية للمصرف نسبة الرأسمال والاحتياطات الى اجمالي الموجودات المعدومة حالياً تقريباً. 4- تحويل المصارف المتخصصة الى مصارف تجارية تسلف القطاعات الاقتصادية كافة على أسس تنافسية، بعد جعلها قطاعاً مشتركاً بين القطاع الخاص بنسبة 75 في المئة والحكومة بنسبة 25 في المئة. وستؤدي مساهمة القطاع الخاص في هذه المصارف الى دعم رأس مالها وتحديث تجهيزاتها وتطوير أنظمتها وسياسات ادارة موجوداتهاومطاليبها. ويجب ان تتيح المنافسة للمقترضين فرص المفاضلة بين شروط الاقراض والإيداع والخدمات المصرفية والملاءة الرأسمالية المعروضة من البنوك المختلفة واختيار الأفضل. ان هذا سيضع ضغوطاً على البنوك لتطوير خدماتها، والاهتمام أكثر بالزبائن، والمحافظة على نسب ملاءة مناسبة، والانتباه الى أدائها. 5- تشجيع المصارف على اقتناء واستعمال أحدث التجهيزات والانظمة المصرفية مثل الكومبيوتر والفاكسيملي وآلات الصراف الآلي. وكذلك تطبيق أساليب الادارة المصرفية الحديثة في النشاطات المصرفية مثل تمويل مشاريع، منح قروض مشتركة، والقيام بعمليات السوق النقدية والخزينة، وادارة محافظ الاستثمار للزبائن، واصدار بطاقات ائتمان وبطاقات ايفاء ولعب دور تحدده السلطة النقدية في أسواق رأس المال الأولية والثانوية. انشاء أسواق رأسمالية تحتاج التنمية الاقتصادية الى رؤوس أموال تمولها. ولعل افضل طريقة للحصول على هذه الاموال تشجيع الادخار في المجتمع، وجمع هذه المدخرات بجذبها الى الاستثمار في أوراق مالية، وتحويل حصيلة اصدارات هذه الاوارق المالية الى رؤوس أموال تستثمر في مشاريع انتاجية ذات ريعية عالية. وتلعب اسواق رأس المال دوراً رئيسياً بتوفير الآلية الأساسية التي تتم من خلالها هذه العملية. وكما رأينا سابقاً، تحتاج سورية الى اسواق رأس مالية لتوفير التمويل الطويل الأجل من مصادر الدين والملكية بتكاليف معقولة. ومن الضروري التنبيه الى عدم الانجراف بالحماس والتسرع بإصدار صكوك واجراءات قانونية وإحداث تنظيمات وتعيين أشخاص قبل القيام بدراسات موسعة وعميقة، توضح ماهية المؤسسات والآليات اللازمة لتطوير اسواق رأسمالية كفوءة في سورية. فمثلاً هناك أهداف استراتيجية يجب تحديدها. وهناك جوانب متعددة للأسواق المالية يجب تعريفها والعمل على تطويرها في آن معاً. ولا يمكن ان يتم ذلك الا من خلال برنامج عمل متكامل، ينفذ ضمن فترة زمنية محددة، يقوم بالعمل فيه خبراء اخصائيون، وترصد له موازنة كافية يمكن تمويلها بمنح من هيئات مالية عربية واقليمية ودولية. ولعله من المفيد تحديد أهم التنظيمات الاساسية المرتبطة بموضوع تطوير أسواق رأس المال والتي سنأتي على ذكرها في النقاط التالية: 1- انشاء هيئة وصائية من مختصين لتنظيم ومراقبة الاسواق المالية والأوراق المالية والإشراف عليها. 2- تطوير قانون التجارة لعام 1949 بهدف اعداد نظام حديث للشركات يشجع على انشاء الشركات المساهمة، وعلى اصدار الأوراق المالية المتنوعة. 3- مسح لشركات القطاع الخاص الممكن تحويلها الى شركات مساهمة والفترة الزمنية التقديرية لحدوث ذلك وحجم الرساميل المطلوبة. 4- مسح لشركات القطاع العام المرغوب بتخصيصها وتقدير الفترة الزمنية اللازمة لإعدادها للتخصيص ولعمل دراسات التقييم، والتنبؤ بحجم الرساميل المطلوبة ومواعيدها. 5- تشجيع انشاء مصارف استثمار لضمان اصدار الأوراق المالية الجديدة في السوق الأولية بإصدار تشريعات المؤسسات المالية المناسبة لذلك من قبل المصرف المركزي. ويجب ان تأخذ هذه التشريعات في الاعتبار والسماح للمصارف القائمة بالدخول في عمليات اسواق رأس المال. 6- تطوير مفاهيم ومبادئ المحاسبة المالية لجعلها تتناسب مع معايير المحاسبة الدولية وتنظيم مهنة المحاسبة ورفع سويتها العلمية والمهنية. 7- تطوير وتحديد معايير المراجعة تدقيق الحسابات وتنظيم مهنة المراجعة ورفع سويتها العلمية والمهنية وتحسين مصداقتيها. 8- تطوير صناعة التحليل المالي والصحافة المالية وتشجيع انشاء شركات للخدمات المالية لتقييم اداء الشركات المساهمة باستمرار ووضع علامات نوعية لأوراقها المالية ونشر هذه المعلومات بحرية تامة لتوعية المستثمرين. وان توفر المعلومات المالية الصحيحة عن الشركات المساهمة في أوقاتها لكافة المستثمرين المحتملين في آن معاً وبتكلفة زهيدة أو من دون تكلفة يعتبر من أهم العوامل التي تمكن المستثمرين من عمل قرارات عقلانية، وتحول دون حدوث تلاعب في اسعار الأوراق المالية. 9- تصميم أنظمة افصاح عن المعلومات المالية وغير المالية للشركات في سوق رأس المال الأولية والثانوية، وإلزام الشركات بتطبيقها، والاشراف على حسن تنفيذها بصرامة. 10- تطوير مناهج المحاسبة والمراجعة وتمويل الشركات والتحليل الاستثماري والاسواق النقدية والرأسمالية وادارة المصارف في كليات الادارة في الجامعات السورية، والاستعانة بأساتذة من أصحاب الكفاءة والمعرفة والخبرة والأمانة العلمية المشهودة لتدريس هذه المواضيع. وإحداث "أكاديمية عليا للدراسات المالية والمصرفية" يكون لها ثلاث وظائف رئيسية: تقديم برامج اكاديمية متطورة، وإجراء دورات تدريب لموظفي المصارف والقيام بالأبحاث والدراسات. وبالنسبة للدراسات التطبيقية المتعلقة بوضع الانظمة والقوانين والاجراءات والنماذج اللازمة لإنشاء بورصة للأوراق المالية، فيجب ان تعالج على الأقل المواضيع الرئيسية التالية: 1- عضوية البورصة، التنظيم الاداري، واللجان الفنية والادارية. 2- نظام التداول: ردهة التداول، آلية العمل في الردهة، طريقة التداول، تسجيل واشهار الصفقات، الاجراءات والسجلات والنماذج الورقية والبطاقات، برامج وتجهيزات الكومبيوتر لنظام تداول الكتروني. 3- نظام مراقبة التداول وشروط تدخل ادارة البورصة لوقف التداول في ورقة مالية أو في السوق ككل. 4- نظام شركات الوساطة: رأس المال، طبيعة عمليات الوساطة والخدمات التي يقدمها الوسطاء، المراكز المسموح أو المحظور اخذها في الأوراق المالية، شروط المؤهل والخبرة للقبول في العضوية، شريعة أخلاقيات المهنة، اسقاط العضوية، معدلات الوساطة. 5- نظام تسوية صفقات الأوراق المالية: تسديد ثمنها، تسجيلها، نقل ملكيتها، واصدار شهادات جديدة بهدف السهولة والسرعة في الاجراءات. 6- نظام اصدار وتداول وضمان المشتقات المالية مثل الخيارات والعقود المتسقبلية الآجلة السلعية والمالية. 7- تحديد طبيعة صانعي الاسواق ووضع نظام تدخلهم في عمليات التداول مسؤولياتهم. 8- نظام شروط الادراج. 9- نظام الافصاح عن المعلومات. 10- نظام مراقبة المتعاملين من الداخل. 11- نظام التداول بالدين. 12- نظام البيع القصير. 13- نظام نشر الاسعار واحجام التداول ومؤشر اسعار الاسهم. 14- نظام توفير المعلومات للمستثمرين وتحديد مصادر المعلومات. 15- العلاقة مع الهيئة الوصائية المشرفة على اصدارات الأوراق المالية الأولية والأسواق المالية. ولا شك ان هناك عدداً من البلاد العربية المجاورة التي سبقتنا بمراحل في هذا المجال وتراكمت لديها خبرات مهمة جداً مثل مصر والسعودية والأردن والكويت ولبنان. والاستفادة من خبراتهم وتجاربهم تعتبر ذات أهمية كبرى لنا في سورية. حيث تأخرنا كثيراً في دخول عالم الاسواق المالية، ولكي نوفر التكاليف الباهظة واهتزاز الثقة بالمؤسسات التي تنتج عن اعتماد اسلوب التجربة والخطأ، ولتطوير بورصة وطنية قابلة للربط بالاسواق المالية العربية عندما يسمح مشروع التكامل الاقتصادي العربي بذلك