عرّفت اسرائيل نفسها في اعلان الاستقلال في 14 أيار مايو 1948 على انها "دولة يهودية". وجاء في الوثيقة: "نعلن، استناداً الى حقنا الطبيعي والتاريخي والى فاعلية قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، اقامة دولة يهودية في أرض اسرائيل تعرف باسم دولة اسرائيل". علينا ان نتذكر أن "الدولة اليهودية" التزمت في الاعلان اعطاء "المواطنية الكاملة والمساوية" الى سكانها العرب، وهو الالتزام الذي تنكرت له تماما منذ ذلك الحين كل الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة. كما أن الاعلان، على رغم استناده الى قرار الأممالمتحدة في 1947، أغفل عمداً، بناء على اصرار بن غوريون، ذكر حدود الدولة الجديدة، وهي مشكلة لا تزال معنا الى اليوم. النشيد الصهيوني اعتمدت اسرائيل منذ تأسيسها اغنية "هاتكفاه" الأمل نشيداً وطنياً لها. وكتب كلمات الأغنية في 1878 في بلدة ياسي الرومانية الشاعر والمترجم نفتالي هيرتز ايمبر، الذي قضى بضع سنوات في فلسطين اثناء تجواله في انحاء العالم، قبل أن يموت معدما في الولاياتالمتحدة. ويبدو على الأغنية بوضوح تأثير الروح القومية السائدة في أوروبا آنذاك. ويرجح ان تلحين القصيدة تم في فلسطين في 1882، واعتمد على لحن من الفولكلور المولدافي - الروماني. وكان الصهاينة نظموا مبكراً عدداً من المسابقات لوضع اغنية رسمية لحركتهم. لكن المحاولات فشلت، بينما كانت "هاتكفاه" تغنى في المؤتمرات الصهيوينة منذ مطلع القرن العشرين. واعتمدتها الحركة الصهيونية نشيداً رسمياً لها في 1933 . يقول المقطعان الرئيسيان من النشيد: ما دامت روح اليهودي في اعماق قلبه تشتاق، وترنو الى الشرق عين تتطلع الى صهيون فان املنا لم يضع بعد أمل الفي سنة في ان نكون شعباً حراً في أرضنا أرض صهيون والقدس. من لم يعجبه فليرحل! لا شك في ان اليهود من انحاء العالم الذين أنشدوا الأغنية في المؤتمر الصهيوني في مدينة بازل السويسرية، كانوا يعبرون عن مشاعر حقيقية على الصعيدين الفردي والجماعي. لكن أقل ما يمكن قوله عن الأغنية عندما تنشد في اسرائيل الحالية هو انها تنطوي على مشكلة: فهي نشيد وطني لا يستطيع ترديده 18.6 في المئة من السكان، أي الأكثر من مليون اسرائيلي فلسطيني يسميهم الاسرائيليون "العرب الاسرائيليين" - اذ ما هي علاقة هؤلاء المواطنين غير اليهود ب"روح اليهودي ... المشتاقة الى صهيون"؟ تعرف الانسكلوبيديا البريطانية النشيد الوطني أنه "اغنية تعبر عن العاطفة الوطنية" تعتمدها "الحكومة أو الشعور الشعبي" نشيداً وطنياً. لكن النشيد الاسرائيلي، على رغم اعتماده رسمياً، لا يعبر عن الشعور الوطني لسوى واحد من الشعبين اللذين يشكلان سوية المواطنية الاسرائيلية. هكذا نجد هذه المفارقة: دولة تدعي انها "يهودية وديموقراطية" بنشيد مناقض تماماً للديموقراطية لأنه يميّز ضد قطاع مهم من المواطنين. يواصل الاسرائيليون الفلسطينيون منذ سنين احتجاجهم على هذا الوضع، يساندهم عدد من الشخصيات العامة الاسرائيلية والمنتمين الى تيار "ما بعد الصهيونية" - لكن، بالطبع، من دون ان يرفض المعارضون استمرار استعمال "هاتكفاه" نشيداً صهيونياً. وفي 1995 طالب نائب وزير التعليم ميشا غولدمان بتغيير الكلمات عن "روح اليهودي" لكي يصبح النشيد ملك كل المواطنين. وكان جواب النائبة ليمور ليفنات، التي كانت من المرشحات لقيادة حزب ليكود، ان اسرائيل "دولة يهودية وهناك محاولة لطمس كل القيم اليهودية في البلاد". وأضافت: "انها ليست دولة للأرمن أو السود أو الغجر أو حتى الشاذين جنسياً. ويمكن لمن لا يعجبه ذلك أن يرحل!". احترام الأقلية لكن كان هناك أخيراً محاولة جديدة، هذه المرة من داخل المؤسسة المسيطرة، لتغيير كلمات النشيد. فقد قال الجنرال يوم توف ساميا، قائد المنطقة العسكرية الجنوبية، في كلمة القاها في ذكرى الاستقلال، ان المطلوب اشراك الجنود البدو والدروز في المشاعر التي يعبر عنها النشيد. واقترح من اجل ذلك استبدال تعبير "روح اليهودي" ب"روح الاسرائيلي"، مشيراً ان اليهود كانوا فترات طويلة أقلية وسط شعوب اخرى، وهم بهذا التغيير سيعبرون عن احترامهم للبدو، الأقلية العربية الموالية لاسرائيل. وسبق الجنرال ساميا الى الكلام في الاحتفال نفسه البروفسور أفيشاي برافرمان، عميد جامعة بن غوريون في النقب، وهو من الشخصيات المرموقة في اسرائيل بسبب نجاحه في تحويل جامعة بن غورويون الى واحدة من انشط جامعات البلد، وأيضاً لكونه في طليعة الداعين الى انقاذ منطقة النقب من وضعها الهامشي الحالي لتصبح عنصراً رئيسياً في التنمية السكانية والاقتصادية لاسرائيل. ودعا في كلمته الى توسيع كبير في الاستثمارات لصالح البدو ضماناً لولائهم. وأضاف: "عندما أسمع تعبير روح اليهودي وأرى قربي مئات من البدو يخطر على ذهني فوراً المواطنون الاسرائيليون الآخرون، وهم أيضا جزء من الدولة: لا يمكن لاسرائيل ان تولد من جديد من دون اسماعيل". - مشيراً بذلك كما يبدو الى الاسرائيليين الفلسطينيين ككل. واحد فقط من أربعة في الكنيست رحب النائب محمد بركة، من كتلة "حداش" ذات الغالبية العربية، بموقف الجنرال ساميا، لكنه رأى انه لا يكفي. وجاء ذلك بعدما قدم اقتراحاً الى الكنيست باستبدال نشيد "هاتفكاه" كله بنشيد آخر، معتبراً ان النشيد الحالي "انعزالي ومعاد لروح المواطنة، اضافة الى كونه اغنية سخيفة ضعيفة المستوى". وكان ربع اعضاء الكنيست، أي 30 نائباً من اليهود الارثوذوكس المتشددين وغير اليهود، رفض ترديد النشيد في جلسة افتتاح الدورة البرلمانية في حزيران يونيو السنة الماضية. وقال النائب الدرزي عضو حزب العمل صلاح طريف: "أنا اسرائيلي وطني لكن يؤسفني ان كلمات النشيد، خصوصاً عن اشتياق الروح اليهودية، لا تعبر عن مشاعري". أما المتشددون اليهود فهم يرون في الأغنية تعبيراً متطرفاً عن الصهيونية والعلمانية ويرفضونها على هذا الأساس. ربما لا يعتبر الاسرائيليون الفلسطينيون اغنية "هاتكفاه" مسألة رئيسية، لأن هدفهم الأهم يبقى التغلب على التمييز ضدهم في كل المجالات، من ضمنها مستوى المعيشة والتعليم والعمل والصحة والاسكان. مع ذلك فان النشيد يبقى رمزاً من بين رموز اخرى لتنكر "الدولة اليهودية" لمبدأ المساواة بين اليهود وغير اليهود، ولن يكون من السهل استبداله بعد كل هذه السنين. وكان اعلان الاستقلال تضمن وعداً باصدار دستور لاسرائيل خلال ستة أشهر، لكن تفكك المجتمع الاسرائيلي، خصوصاً الانقسام بين العلمانيين والدينيين، منع الى اليوم من تحقيق الوعد. مع ذلك فاذا كان الصهاينة قبل قرن نظموا مسابقة لتأليف نشيد لهم يمكن للدولة الحالية تنظيم مسابقة مشابهة، في هذه المرحلة التي تشهد توجهاً متزايداً نحو التعددية الثقافية. واذ لا ضمان لنجاح المحاولة فانها على الأقل سترينا البدائل الممكنة ل"هاتكفاه". في أية حال لا بد لنشيد وطني جديد أن يتعدى مخاطبة مشاعر الغالبية، وان يسعى لأن يكون تعبيراً تعددياً عن تمسك كل سكان اسرائيل، تاريخياً وقومياً وروحياً وثقافياً، ببلدهم المشترك. وسيكون هذا مناسباً تماماً اذا كان لاسرائيل ان تتجه من كونها "دولة يهودية" الى "دولة لكل سكانها" وتحاول الاندماج في وسطها الاقليمي. لكن هذا الأمل يبدو بعيداً الآن . * من سكان القدس الغربية، ورئيس التحرير التنفيذي المشارك لمجلة "فلسطين - اسرائيل".