على هامش ندوة موسّعة اقامها معهد العالم العربي في باريس عن الفضائيات العربية ودورها ومستقبلها اعلامياً وسياسياً، عقدت اذاعة "مونت كارلو" طاولة نقاش عن الموضوع نفسه، اذيعت الاحد 9 تموز يوليو الجاري. ادار الندوة الزميلان وليد عباس، الذي يقدم برنامجاًعلمياً عنوانه "اي مايل"، وجان بيار قسطنطين، وقد استضافا السادة: حسن حامد مدير قطاع قنوات النيل المصرية المختصة وقحطان القحطاني مدير قطاع الانتاج في قناة البحرين وبيار الضاهر رئيس مجلس ادارة قناة "أل.بي.سي.آي." اللبنانية والشيخ محمد جاسم العلي المدير العام لقناة "الجزيرة"، وقد شارك الاخيران عبر الهاتف. جاءت مداخلات عباس وقسطنطين في بساطة السؤال وتركيزه، ليشكّل كل سؤال محوراً ومقدمة لنقاش. ودار معظم الكلام على الديموقراطية والحرية، وتداخلت الآراء مع تنوعات الجغرافيا، او بالاحرى "الجغراسيا"، العربية في مجال الاعلام، اضافة الى توظيف رأس المال الخاص الذي يركز على دور التكنولوجيا واستجابة الجمهور. وعلى رغم النبرة المفعمة بالثقة، وعلى كل ضفاف النقاش !!، عن الديموقراطية والحرية والتغيير والانفتاح وسواها، حملت نهاية الحلقة "كاشفاً" معبّراً. فقبيل الختام، طرحت "مونت كارلو" سؤالاً عن امكان وصول عقلية التغيير الى التناول الاعلامي لثوابت الجنس والدين، بعدما جرؤت على السياسة. حلّ بعد السؤال صمت معبر، الاصوات التي كانت تتسارع الى الهواء بدت فائقة التريث الى حد مبادرة المذيع بمطالبة المتحاورين بالرد. جمعت الندوة القطاع الحكومي في الاعلام المرئي والمسموع الذي يمكن اعتبار احتمائه بالموروث الديني ولجم الحرية الجنسية جزءاً وطيداً من سلطاته. ولم يبدر من التوظيف الخاص العربي، وعلى رغم الجرأة المقتدرة لقناة "أل.بي.سي.آي." في الموضوع الجنسي وحضوره، ما يدل الى تلمس البدائل في المركب الديني - الجنسي الذي يحمل في طياته تهديدات شتى. لعل الامر اعمق من ذلك. فهل الاستعصاءات الذاتية للثقافة العربية، بكل تلاوينها ومشاربها، هي التي املت ذلك الصمت الوجيز والكثيف التعبير؟ علاقة الحكومي بالخاص استهلت الندوة الاذاعية بسؤال عن ظاهرة انفجار الفضائيات العربية، "حيث توجد اليوم نحو خمسين قناة فضائية، بينما كانت اقل من عشر قبل خمس سنوات"، كما لاحظ بيار الضاهر. ورأى الجاسم في الكثرة تعبيراً عن حيوية القطاع الخاص واستثماراته في مقابل "جمود القطاع الحكومي الذي حوّل الاعلام التلفزيوني مجرد وظيفة روتينية". برز في الندوة تركيز لافت على قناة "الجزيرة" القطرية والجرأة التي تتناول بها الشأن السياسي العربي في برامج مثل "الرأي الآخر"، و"بلا حدود" و"الاتجاه المعاكس" وغيرها. ورأت عين التوجه الحكومي، وعلى لسان حامد، في برامج الجزيرة "صخباً وحرية صارخة وتدخلاً في شؤون الآخرين وبريقاً لا طائل تحته" .... وبحسب حامد، فإن الاعلام المصري المتلفز يملك حرية كاملة في تناول كل القضايا والزوايا في مصر" وتلك "حرية" لا يملك المرء سوى التساؤل حيالها، خصوصاً ان حضور القضايا الحساسة والوجوه المعارضة في التلفزيون المصري هو اقرب الى التهميش والالغاء!! ربط الضاهر بين حيوية الاعلام المتلفز و"حرية الصحافة التي تشكل الدعامة والركيزة الفعلية لحرية الرأي"، ولعل تلك الزاوية تُمكّن من رؤية اوضح للتفاوتات في مساحة الحرية على الشاشات العربية. واخذ على "الجزيرة" تهربها من تناول الشؤون القطرية، في مقابل كل تلك الجرأة في تناول قضايا بقية العرب. والحال ان ما اشار اليه الضاهر هو مأخذ فعلي واشارة الى طبيعة السقف السياسي المعطى لقناة "الجزيرة" وحدوده. وهناك من يرى ان ثمة مصادر دعم لتلك القناة تأتي من نفوذ الجهات المستثمرة وعلاقاتها، على نحو مواز للدعم القطري واجوائه التغييرية، وربما اكثر. ولطالما ابدت الصحافة العربية والدولية اهتماماً بالمتغير الاعلامي الذي تمارسه "الجزيرة" والذي ينظر اليه احياناً باعتباره نموذجاً عما تكونه اختراقات العولمة للخصوصيات والهويات، ما يدفع السؤال الى البحث عن النوابض والحوافز الفعلية في اطار الصورة الواسعة لآليات العولمة. لكن ذلك نقاش آخر. ولم يُغفل المنتدون ظاهرة الترابط بين ظهور الاقنية التلفزيونية المختصة وفاعلية رأس المال الخاص، وينطبق الوصف على "أل.بي.سي.آي." و"سي.أن.أن." و"الجزيرة" سواء بسواء، مع مراعاة كل الخصوصيات. وفي هذا المعنى بدت الاقنية المختصة المصرية التي ظهرت بعد اطلاق القمر الاصطناعي للاتصالات "نايل سات 101"، كأنها "خروج" عن القاعدة. وفسر حامد الامر ب"بعد النظر" الحكومي. وبدت وجهته متعارضة مع رؤية قحطان الذي اكد "التلازم بين الحرية والاعلام في ظل السماوات المفتوحة"، وان الخروج من نمط القناة الوحيدة، او شبه الوحيدة، التي هي صوت السلطة وصورتها، يكون "بانتقال المبادرة الى القطاع الخاص". وجاء مثال "أل.بي.سي.آي."، التي كانت اول قناة عربية للقطاع الخاص 1985 وتحولت نحو البث الفضائي 1995، نموذجاً عن استجابة متغيرات الاعلام العالمي، باعتباره قطاعاً استثمارياً فائق الحركية وجزءاً اساسياً من قطاع الخدمات الجاري تحريرها على مستوى العالم. ثقافة الصورة والتقنية اعطت الاقمار الاصطناعية والسواتل والبث الرقمي والكاميرا المتحركة، لثورة الاعلام ادواتها. اما نصها فقوامه ثقافة الصورة مرفوعة الى ذروة عالية. ولم تختلف اراء المنتدين على هذه البداهة، ونوّه الضاهر أن "المتعة البصرية في اداء صورة بث "أل.بي.سي.آي." كانت ولا تزال، في اساس نجاحها"، اضافة الى الاثارة الجريئة. وتفرّد صوت قحطان بالحديث عن "المضمون، الذي هو عنصر وازن، ويقود الى الحديث عن طريقة تمييز الشاشة العربية وهوية بثها". وعرض جاسم البعد الاستثماري، وبرز في الحديث المتكرر عن "المناطق الاعلامية الحرة" في عدد من الدول العربية، وكذلك واقع "تقلص عدد شركات الانتاج التلفزيوني في مقابل تزايد عدد الاقنية التي اصبحت نسخاً بعضها عن بعض، نظراً الى تكرار البرامج التي تنتج في مراكز قليلة في الدول العربية". واكد حامد تزايد حدة مشكلة المضمون مع تزايد اتجاه الفن التلفزيوني "نحو التخصص، والمزيد منه". ورأى ان الحل في "تعدد المناطق الاعلامية الحرة في الوطن العربي، وكذلك توفير العناصر البشرية في التأليف والاخراج والانتاج والغرافيك وكل المكونات اللازمة لبناء ثقافة الصورة". ومال الضاهر الى توجيه الرؤية نحو التكنولوجيا وتطوراتها، كقضية مركزية في البث التلفزيوني وثقافته. ورأى ان "ميل وسائط الاعلام العام نحو التلاقي Convergence يشكل عنصراً حاسماً في تحديد الاختيارات المستقبلية". وفي التلاقي، تندمج الانترنت البث المتلفز والاتصالات في اداة واحدة، ما يطرح في الحاح، مسألة التوصل الى نص مواز للتلاقي، اي الاعمال والبرامج التي تصلح لمتلقٍ تتلاقى في اداته الواحدة كل تلك الوسائط الاعلامية. والتقط حامد الخيط التكنولوجي ليشير الى قرب تحوّل المشاهد من "مجرد متلقٍ، ربما اعطاه الريموت كونترول بعض القوة في الاختيار، الى المشاهد - المدير الذي يقوم جهاز التحكم او "السيت - آب بوكس" Setup Box عنده باختيار البرامج المناسبة وميوله ويختزنها ليبثها في الاوقات التي يرغب فيها المشاهد، وليس بحسب بثها من المحطات". وفي الاتجاه نفسه، تحدث قحطان عن واقع وجود "بث تلفزيوني مغاير للبث الارضي والفضائي، هو البث الشبكي Web Casting عبر الانترنت، وهو امر لم تتعامل معه الاقنية العربية حتى الآن". ماذا عن الجنس؟ اضافة الى الصمت، تحدث حامد عن مفارقة مهمة "يحضر في السياسة الرقيب الحكومي السلطة اما في الجنس او الدين، فالرقيب هو المجتمع بكليته وثقافته". عند هذه النقطة، يبدو المفصل والمربط الثقافي في اشمل معناه حاضراً، وهو ما يفيض عن التلفزة والبث والاقمار ....