من بؤس الحياة السياسية والثقافية في مصر أن تقر وتقرر قبل الدفاع عن شخص أنك أساساً مختلف معه - وربما عليه - فأن تدافع عن شخص مختلف معه ليس فضلاً... بل هو الواجب الذي لا شكر عليه ولا فضل فيه. واستسلاماً لمنطق معوج يعوج معه تفكيرنا فأنا أسلم باختلافي الواضح والبائن مع توجهات د.سعدالدين ابراهيم في ما يخص التعاطي مع قضية الصراع العربي - الإسرائيلي... وأدين بشدة - حتى الهوس - تعامله مع العدو الصهيوني وهو مصطلح يثير سخرية زملائنا من أنصار الحوار مع إسرائيل بطبيعة الحال! لكن في الوقت نفسه لا يعني ذلك مصادرة حق سعدالدين ومن يرى ما يراه في اتخاذ أي موقف أو سلوك أي مسلك، فهو حر في ما يصنع ونحن أحرار في ما نرفض. لكن المؤسف أن الساحة هللت وإن كتمت فرحتها أو استنكرت القبض على الدكتور سعد لكنها أفصحت عن لومها له وإلقاء تبعة ما جرى على عاتقه وربما شمتت فيه وشمت رائحة الوطنية في حادث القبض عليه .... تحججت في ذلك بموقفه من التطبيع، ولكن سعد الدين ابراهيم لم يقبض عليه بسبب موقفه من إسرائيل ولا تعامله معها وبات من الواضح من الوهلة الأولى - إلا لأصحاب الغفلة - أن الأسباب التي تكمن وراء القبض عليه إنما هي أسباب تتعلق بشكل مباشر بإجراءات اتخذها لمراقبة - أو سعياً لمراقبة - دولية على الانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها في مصر في نهايات هذا العام. ويبدو أن مشروع د. سعد في عقد لجنة مراقبة كانت أو كادت أن تتسم هذه المرة - عن سابقتها في الدورة الماضية - بصفة دولية جدية تجعل منها أكثر قدرة على الرقابة - الآمنة - على الانتخابات وأكثر حضوراً على الساحة العالمية إذا ما أعلنت رأيها، وأكثر تأثيراً إذا ما كان هذا الرأي سلبياً يسحب من إجراءات الانتخابات نزاهتها وعدالتها مما يشوه معه صورة مصر أو بمعنى أدق صورة حكومة مصر في الخارج، وهي الصورة التي تحرص الحكومة على جعلها سياحية غير مشوبة بشك في نقاوتها على غير الحق والحقيقة بطبيعة الحال. وجاءت قضية مراقبة الانتخابات لتمس وجعاً خاصاً لدى الحكومة، شأنها في ذلك شأن كل الحكومات النامية، فمفهوم السيادة الذي ترفعه تلك الحكومات لا يزال على العهد القديم الزائل ... يرى أن الحكومة حرة لا يمس حريتها حدّ في ما تفعله مع رعاياها لاحظ لم أقل مواطنيها..! ومن ثم فأن تحبس أو تخنق أو تقتل أو تهدر حقوقهم أمر يخص الحكومة ومحكوميها لا شأن لمجتمعات أخرى أو دول أخرى أو منظمات أخرى بذلك. وعلى رغم أن الحكومة المصرية تحديداً تشارك في هيئات دولية تشرف على انتخابات تشريعية كثيرة في أنحاء القارة الافريقية ولا ترى في ذلك ضرراً ولا ضراراً إلا أنها بمجرد أن تسمع أن هناك من يريد تطبيق هذه الرقابة حتى ولو بشكل أخف بل وأكثر خفة مما يُظن معه الجدية!! تستاء وترفض وتندد، ثم تقبض كما الحال مع سعد الدين ابراهيم الذي قبض عليه ودفع - ويدفع - ثمناً باهظ الكلفة مقابل أن تكون في مصر - وهي رغبة لدى كثيرين ممن يهاجمون سعد ابراهيم - انتخابات حرة نزيهة منزوع عنها سمعتها السيئة. والمدهش في الأمر قائمة الاتهامات التي كالتها الحكومة للدكتور سعد الدين ابراهيم وتقدمها كأنها اليقين. والمؤسف أن صحفاً مصرية، وأخرى عربية مثل "الحياة" نفسها، تنشرها كاليقين أيضاً وهو ما يثير الريبة في قدرة الحكومات على توفير حماية إنسانية وسياسية لخصومها السياسيين، فما يجري من اغتيال معنوي منظم للدكتور سعدالدين ابراهيم عبر أجهزة الإعلام الرسمية ليستبق أي تحقيقات أو محاكمات فضلاً عن الريبة كذلك في إمكانية حصوله على عدالة إزاء هذه الهجمات الحكومية الشرسة حين يصل الأمر الى قاعات المحاكمات!!. وفي وطن وعاصمة عربية يحصل فيها المرء على وثيقة بشق النفس ومن العسير تماماً أن يتمكن الصحافي من العثور على معلومات موثقة حول أي شأن سياسي في هذا البلد قروض البنوك وحجمها مثلاً، المعونات الممنوحة من الولاياتالمتحدة الى رجال الأعمال وأجهزة الدولة مثلاً، ثروات المسؤولين وذممهم المالية .... فقد ظهرت على عكس ذلك وثائق بسرعة الخيال في أيدي صحافيين كثيرين- منهم الكبار ومعظمهم الصغار - عن تفاصيل كاملة وصور أصلية من رسائل ووثائق متبادلة بين سعد ومركزه والاتحاد الأوروبي مما تشك معه في هذه الشفافية المفاجئة والتي لا تهدف إلا الى غرض واحد هو التعجيل بدمغ تهم الخيانة إن أمكن أو العمالة إن كان لا بد أو اللصوصية إن أتيح ضد الدكتور سعدالدين ابراهيم. لكن المتأمل لهذا السيرك السياسي السفيه يكتشف أن أجواء قد عادت الى الحياة السياسية المصرية بات البعض - ولسنا منهم - مقتنعاً أنها لم يكن لها أن تعود مرة أخرى، وهذه الأجواء تذكرنا بتفجير قضية كانت ملء السمع والبصر عام 1981 وحملت عنواناً فكاهياً للغاية هو "التفاحة 19"، وشملت آنذاك تهم الخيانة العظمى والعمالة للاتحاد السوفياتي رحمه الله موجهة الى محمد عبدالسلام الزيات الذي كان وزيراً في عهد السادات ثم معارضاً له، وشملت القضية آخرين وجرت فصولها "إعلامياً" على نحو تستدعيه فوراً أجواء الاتهامات ضد سعدالدين ابراهيم، كصور تلفزيونية مصورة بشكل سري تذاع على الهواء للملايين تتضمن سيارات تدخل السفارة السوفياتية أو جلسة في مقهى بين شخصين يتبادلان الحوار، ووسائل ووثائق وكل اللازم واللوازم الخاصة بإلصاق تهم بخصم سياسي مع "تلطيخه" و"اغتياله" معنوياً وإعلامياً قبل أن يبت القضاء حكمه وقراره !!. انتهت قضية "التفاحة" بخيبة أمل لصانعيها فقد اغتيل السادات ونسي الجميع طعم "التفاح" السياسي العطن مدداً طويلة حتى أصيبت الحكومة أخيراً في قضايا كثيرة مثل إغلاق جريدة "الدستور" ثم "تفكيك وتعطيل النقابات المهنية" ثم إغلاق جريدة "الشعب" وإنهاء حياة "حزب العمل" ومن قبله أحزاب "مصر الفتاة" و"العدالة الاجتماعية والشعب الديموقراطي" ... ثم انتخابات نقابة المحامين، كذا قضية سعدالدين ابراهيم ... أصيبت الحكومة بالداء السياسي العضال وهو "الغطرسة". والغطرسة لصيق بها تماماً العصبية الزائدة والأخطاء الساذجة. وقدمت الحكومة في نائحة سياسية خلت من الحكمة - ومن الاحتراف كذلك - أدلتها في تهمة المنح والمعونات، كشوفاً بما تحصّل عليه سعدالدين ابراهيم ومركزه ثم اتهمته بأنه تحايل على الجهة المانحة. وبينما لم يحدث أن اشتكى الاتحاد الأوروبي - وهو الجهة المانحة وهي أمواله - من تحايل واحتيال سعد، بل دافع عنه. فنحن، كأي مواطن بسيط من حقه أن يسأل "طيب وهي الحكومة المصرية مالها..." هذه قضية بين د.سعد وممولين، فما دخل الحكومة المصرية وما الذي جعل قلبها رهيفاً الى هذاالحد مع أموال الاتحاد الأوروبي، ولماذا لا تهتم بأموالها هي المسروقة والمنهوبة والمقروضة من رجال أعمال بددوا حتى الآن - بحسب تقديرات منشورة في الصحف المصرية - قرابة ال30 مليار جنيه مصري، وهناك رجال أعمال - معروفون بالاسم - لم يسددوا ديونهم البالغة ملياراً وأكثر للبنوك الوطنية حتى الآن وهناك قوائم بمنع كثيرين منهم من السفر خارج البلاد... ثم إن الحكومة المصرية ذاتها تتلقى منحاً مالية بالمليارات من جهات أجنبية فلماذا حرام لبلابل الدوح حلال للطير من كل جنس !!. وإذا كان جائزاً أن نتوقف عند قضية المنح الأوروبية فلا بد أن نذكر أن معابد فيلة أحد أهم وأعظم آثار مصر التاريخية التي تم نقلها وتأمينها من خطر تهددها هي فضلة خير المنح الأجنبية ... وتطهير قناة السويس من الألغام قبل افتتاحها كان من فضلة خير المنح الأجنبية. وعشرات عشرات من المشروعات الهامة بل والمصيرية لاحظ أن مصر تتلقى قمح الخبز منذ سنوات طويلة منحة من الولاياتالمتحدة. موضوع التمويل الأجنبي قضية متفرعة مستفيضة لكن يبدو أن الحكومة لا ترى فيها ضرراً ولا ضراراً إلا حينما يستخدمها وطنيون آخرون لمصلحة حقوق الإنسان وحقوق المواطنة ومن أجل الديموقراطية ونزاهة الانتخابات، ساعتها يصبح التمويل منكوراً ومرفوضاً ومنبوذاً .... ثم تأتي تهمة إذاعة الأسرار والإساءة الى سمعة مصر. ولعل شيئاً لم يتم الإساءة إليه في مصر أكثر من سمعة مصر نفسها، فقد صارت شيئاً تلوكه الأفواه كالمضغ العسر كلما ضاقت صدرها برأي أو موقف... ومن المؤكد أن الأمين على سمعة الوطن ليس حكومته فقط ... وعلى رغم أن قضية دمج سمعة مصر بسمعة حكومتها قضية تستحق أن نمضي حتى آخرها لنفندها ونعريها إلا أن ضيق المساحة وضيق الصدر لن يسمحا لنا بذلك لكن ما يمكن أن نرد به هنا هو الحادث الذي جرى في أربعينات القرن الماضي حين كان محمود فهمي النقراشي رئيساً لوزراء مصر - عبر انتخابات مزورة وفوق أجنحة حزب غير شعبي بالمرة - وقرر أن يطرح قضية استقلال مصر وجلاء انكلترا عنها على منصة الأممالمتحدة وأمام أقوام العالم القيمين على إدارة أحواله، وبينما النقراشي في قلب الأممالمتحدة دفاعاً عن حق مصر أو هكذا تصور وبينما يتحدث باسم مصر في محفل دولي عالمي، إذا بالزعيم الوطني مصطفى النحاس رئىس حزب الوفد وهو حزب الأمة الشعبية وقتها يرسل الى سكرتير الأممالمتحدة رسالة علنية شديدة اللهجة يؤكد له فيها أن النقراشي لا يمثل مصر وهو رئيس وزرائها وحكومتها يومئذ وأنه رئيس مزور ومزيف جاء عبر انتخابات مزورة وأنه لا يتحدث باسم مصر ولا يمثل الشعب المصري وأننا - كمواطنين - نعلن براءتنا منه .... كانت هذه الرسالة التي ردت النقراشي خائباً الدليل الدامغ الى أن سمعة مصر ليست بالضرورة سمعة حكومتها ... ثم لا يزال في الفم ماء في تلك القضية لعله يأتي يوم ونبوح به أو نلوح به إن استطعنا .... وفي الصدد نفسه تأتي تهمة الإساءة الى علاقات مصر بشقيقاتها ... وهي تهمة تستخدمها الأنظمة العربية في مواجهة شعوبها وفي مواجهة معارضيها، وهي أيضاً تهمة محيرة تتغير بتغير وتعكر علاقة كل دولة بالأخرى، فإذا خاصمت الحكومة الليبية مصر صارت مصر ملجأ للمعارضين الليبيين الذين يجمعون أشياءهم وربما أشلاءهم إذا ما تصالحت الحكومتان الليبية والمصرية ... وإذا هاجمنا النظام السوداني في مصر صرنا ندافع عن حكومتنا ضد توجهات النظام السوداني العدائية. ثم إذا تصالح البشير ومبارك صرنا إذا هاجمنا النظام السوداني نسيء الى علاقة مصر بشقيقتها !! فماذا يفعل صاحب الرأي في وطن يتغير فيه رأي حكومته تجاه شقيقاتها كل يوم أو كل صبح .... ومن بين التهم كذلك تتردد محاولة إثارة الفتنة الطائفية والمساس بالوحدة الوطنية في مصر، وإذا كان سعدالدين ابراهيم مهتماً بالشأن القبطي فنحن نعرف أن آخرين في الدرجة نفسها من الاهتمام وبصرف النظر عن الاستثمار السياسي لهذا الشأن إلا أننا نوجه أنظارنا الى أن تجاهل مشكلات أقلية - حتى من حيث العدد - ليس حلاً لأي شيء ... وأن تصور الوطن العربي خلواً من الأقليات تصور ساذج وطيب ومدمر في الوقت نفسه ... وأن الوحدة الوطنية تنشأ نتيجة الديموقراطية والحرية والشفافية وليس وجه نتيجة أي أسباب أخرى. وفي ظني أن الحكومة المصرية لا تضطهد الأقباط في مصر على الإطلاق وهذه شهادة منا بذلك، لكنها تضطهد الفقراء والمستضعفين سواء كانوا مسلمين أو أقباطاً... وتنتصر وتعمل لمصلحة الأغنياء والمرفهين سواء كانوا مسلمين أو أقباطاً .... أما أطرف العلل الذي يذيعها تلميحاً أو تصريحاً الإعلام الرسمي في مواجهة سعدالدين ابراهيم فهي أنه أميركي الجنسية ... وهو أمر فعلاً محير... فما التهمة في ذلك في الوقت الذي يجلس على مقاعد الحكم في مصر ثلاثة وزراء يحملون الجنسية الأميركية الى جانب الجنسية المصرية ... وعدد من أحفاد المسؤولين الكبار المصريين ولدوا في الولاياتالمتحدة وحصلوا على جنسيتها. وفي الوقت الذي يحتفل الإعلام المصري بالدكتور أحمد زويل حائز جائزة نوبل للكيمياء باعتباره مصرياً يعبر عن أصالة وعراقة وصلابة مصر وهو الرجل الذي يحمل الجنسية الأميركية واستقبله الرئيس الأميركي كلينتون في البيت الأبيض احتفاء بحصول عالم أميركي ... على جائزة نوبل .... أقول إنني أدافع عن سعدالدين ابراهيم وأرى أنه ضحية سياسية في هذه القضية، وأرجو أن يدرك مثقفونا - مهما تباينت رؤاهم - أن سعدالدين ابراهيم يتم اغتياله سياسياً ومعنوياً لأنه تجرأ ورفع مطلب نزاهة الانتخابات ... وديموقراطية الوطن ... ولأنه سمح لنفسه أن يدعو أفراد الشعب فرداً فرداً الى "كن شريكاً وشارك". * كاتب مصري.