تلفت المقاهي اهتمام الغريب عن المدينة، أكثر من أي شيء آخر يصادفه عند تجواله فيها، إذ تنتشر في جميع الأحياء، وبعضها واسع ونظيف، وهي مطلية بألوان زاهية ومزوّدة مصاطب مكسوّة بالحصر والمقاعد. وفي المقاهي الجيدة بركة في الوسط وشرفة يجلس عليها الموسيقيون. ويستطيع العابرون مشاهدة ما يجري في داخل المقهى من نوافذه الكبيرة، أما رواد المقهى فتقدّم لهم كراس صغيرة واطئة مجدولة بالقصب. وفي الصيف، غالباً ما يفضلون الجلوس في الهواء الطلق أمام باب المقهى. ويندر أن تكون المقاهي فارغة، بل تصبح في ساعات معينة شديدة الازدحام. ويوفّر هذا الجمع المختلط المتباين من الناس مشهداً ممتعاً للأشخاص الذين لم يعتادوا رؤية الزي والعادات الشرقية. يرتاد المقاهي في حلب أشخاص من جميع الطبقات، سوى الطبقة الراقية، ويوجد في بعض المقاهي الكبيرة، غرف أنيقة، لتسلية الزبائن، إضافة الى فرق موسيقية وعرض لخيال الظل وراوٍ في ساعات مختلفة من اليوم. تستمر الفرقة الموسيقية التي تتألّف من مطرب وعدد من العازفين بالعزف مدة تزيد على الساعة من دون توقّف، وتنتقل من أغنية الى أخرى بلا فواصل. أما في المقاهي الأدنى لا توجد فيها فرقة موسيقية منتظمة، فيمضي الروّاد أحياناً وقتهم بالاستماع الى مطرب يتطوّع للغناء مجاناً. ينفّذ عرض الدمى المتحركة بأسلوب خيال الظل في طريقة "الظلال الصينية" نفسها وتكون خشبة المسرح في غاية البساطة، وتصبح جاهزة في بضع دقائق، ويقوم بأداء العرض كلّه شخص واحد يتمتع بموهبة فائقة، إذ يغيّر طبقة صوته، ويقلّد اللهجات المحلية، أو السمات الأخرى للشخصيات التي يقوم بعرضها في المسرحية. ويمكن تقصّي بعض المحاولات البسيطة لعرض قصص مسرحية في هذه العروض، يتمّ تنويعها أكثر، وتزويقها بمسيرة القوافل ومواكب الأعراس ومواكب مبهرجة أخرى. إلا أن تعليقات "كراكوز" البذيئة وهو أشبه بشخصية "بانش" في المسرح الأوروبي، تقاطع كل ذلك. وفي العروض التي توجد فيها نساء، كما في عروض البيوت الخاصة، تحذف الكلمات، أو الاجزاء غير المحتشمة من الحوار. أما في المقاهي، فلا توجد قيود على العروض المتحركة، من حيث بذاءة الحوار. غير أن القاضي قد يتدخل في بعض الأحيان لمنع ذكر بعض الأفراد في شخصيات المسرحية وتصويرهم في شكل يجعلهم موضع سخرية للجمهور. ففي بداية الحرب الروسية - العثمانية، في عام 1768، تم عرض تصرّفات الانكشارية في حلب على المسرح في أسلوب ساخر. فقد كان كراكوز، ينتهز الفرصة ليسخر منهم ومن قوتهم في شكل لاذع. وعلى رغم أن ذلك كان يلقى استحساناً كبيراً من الجمهور، لكن القاضي تدخل وأوقفه بأمر منه. وفي إحدى حالات إفلاس تاجر كبير، ضجّت بها المدينة، تقدّم احد المقربين منه بطلب الى السرايا لحمايتهم من وقاحة أو سخرية كراكوز، وهو كان تقمّص على المسرح شخصية تاجر، ومثّل عدداً من الخدع الاحتيالية، التي لقيت تشجيعاً كبيراً من الجمهور. أما هجاء أشخاص في السلطة هجاء حاداً، فيكون حذراً جداً، إلا أن كراكوز يتمتع بمجال واسع لانتقاد حماقات بعض الأشخاص في الحياة الخاصة، وعدم نشر العدالة بين الناس، وفساد الحكومة. وقد عرضت قصة أحد الباشوات الذي استهزئ به على المسرح بعد مغادرته المدينة، وقلّما يسلم من ذلك قاض، نقل الى مكان آخر. ويصحب سرد القصص الشرقية، نوع من الأداء التمثيلي، وهي ليست مجرّد رواية بسيطة، بل إن الراوي أو الحكواتي يدخل فيها الحيوية أسلوباً وحركة، ويوفّر عدداً متنوعاً من القصص الأخرى، عطفاً على ألف ليلة وليلة، مادة وافرة للراوي، الذي يقوم بالجمع بين أحداث مختلف الروايات، ويشرع في تنويع مآسيها، كما كان رواها من قبل، حتى تضفي مسحة من الجدة، حيال الأشخاص الذين يظنون في البداية أنهم يستمعون الى روايات يعرفونها. ويقوم الراوي أو الحكواتي برواية قصصه وهو يسير جيئة وذهاباً في وسط المقهى، ويتوقف بين الحين والآخر، عندما تتطلب العبارة نوعاً من التوكيد. ويستمع الجميع اليه عادة باهتمام بالغ، ويتوقف الراوي عن الإلقاء، عندما يصل الى نقطة أو مغامرة شائقة، وتبلغ الاثارة عند المستمعين أوجها، فيتوقف فجأة عن الكلام ويهرب من المقهى، مخلّفاً وراءه بطله ومستمعيه وهم في قمة الإثارة، ويحاولون منعه من الخروج، بل إنهم يتوسلون اليه أن ينهي رواية القصة قبل مغادرته المقهى، لكنه ينسحب ويعلّق المستمعون فضولهم، ويتحمّسون للعودة في الموعد نفسه في اليوم التالي لسماع ما تبقى من الرواية. وما إن يخرج من المقهى حتى يشكّل الحاضرون مجموعات منفصلة، وينهمكوا في نقاش حاد حول شخصيات الرواية.