هذه الصفحة، لا بل الصحيفة نفسها لم تعد بحاجة إلى هذا الحيز الكبير كي تفلش، ولم تعد بحاجة إلى اطنان من الورق لطباعتها، ولن تصبح اصابعك ملطخة بحبرها عند القراءة، ولن تزدحم غرفتك برزم الكتب والمجلات التي سيستغرقك التخلص منها عطل نهايات اسبوع ثمينة. فالورق الذي اخترعه الصينيون ونقله العرب إلى أوروبا قبل نحو ستمئة عام شارف على نهاية ستسيل دموع عزيزة لها، وهو في طريقه الآن إلى المتحف اذا صدقت توقعات المتنبئين الالكترونيين. نهاية الورق المتوقعة سببها اختراعان الكترونيان. الكتاب الالكتروني والحبر الالكتروني. وهذان الاختراعان متوافران ومستخدمان من قبل، وقليلة هي الكتب التوثيقية والموسوعات والمراجع العلمية غير المتوافرة على اقراص مدمجة. لكن ما اثار الحديث عن الاجتياح الالكتروني لعالم الطباعة التقليدية، هو كتاب من ست وستين صفحة تحوي ستة عشر الف كلمة كتبها المؤلف الاميركي ستيفن كينغ بعنوان "ركوب القطار الرصاصة" رايدينغ ذا بوليت ونشرها حصراً على الشبكة العالمية. وكينغ لم يكن الاول بنشر كتاب بصورة حصرية على الشبكة إنما سبقه إلى ذلك عدد كبير من المؤلفين. وغالباً ما تنشر ابحاث مفصلة لا تجد من يمول تحويلها إلى مطبوعة ورقية. الا ان تجربة كينغ دخلت تاريخ الشبكة والنشر الالكتروني من الباب الواسع اذ اشتراها، وهنا اشتراها تعني حمَّلها أو نزَّلها DOWNLOAD 400 الف شخص على مدى يومين اي بمعدل خمسة اشخاص كل ثانية مما تسبب بانهيار عدد كبير من الحواسيب الخادمة التي شاركت في توزيع الكتاب المذكور. سعر النسخة الالكترونية بلغ دولارين ونصف الدولار. ولم يمر يومان حتى عرضت مجاناً على موقع "AMAZON.COM" سبقها ببضع ساعات نجاح متسللين بفك التركيبة الرقمية التي تحول دون نسخ الكتاب، وتم توزيعه مجاناً عبر موقع سويسري. وفاجأت تجربة كينغ الكثر بمن فيهم المؤلف نفسه الذي لم يتمكن من قراءة كتابه الكترونياً لعدم صدور نسخة منه تتلاءم وحواسيب الماكينتوش. وقال جاك رومانوس رئيس دار نشر سايمون وشوستر التي وزعت الكتاب خلال حديث مع صحيفة "نيويورك تايمز" : "لا اظن ان أحداً توقع هذا العدد الكبير من الاشخاص الذين سيقبلون على القراءة الالكترونية". ورأى ان الكتاب الالكتروني اعاد تجديد العلاقة بين الناشر والمؤلف في وقت يتوقع فيه الكثيرون انتهاء هذه العلاقة. ويعزو المحلل المالي في مؤسسة فورستسر للابحاث دان اوبراين نجاح تجربة كينغ لعاملين. الاول المؤلف نفسه وهو من المؤلفين الاكثر رواجاً في الولاياتالمتحدة وكان قد نجا من حادث سير قاتل العام الماضي مما شكل اعلاناً جيداً للكتاب. والثاني ارتفاع عدد عمليات النقل والسرقة عبر الشبكة في مجال الموسيقى والاغاني والتي وفرتها برامج مثل "نابستر" Nabester شركات الموسيقى والسلطات الاميركية تلاحقان قضائياً الشركة المصدرة لبرنامج mp3. ويوضح اوبراين "ان القيمين على عالم الكتب ينظرون بقلق شديد إلى ما يحصل في عالم الموسيقى ويريد الناشرون الدخول إلى عالم النشر الالكتروني لتحديد القواعد لتحاشي لجوء المستهلكين إلى وسائل غير قانونية لحيازة الكتب وتوزيعها". وبعد اسبوع على توزيع كتاب كينغ بدأ اتحاد الناشرين الاميركيين الاعداد لمقاييس تقنية للنشر الالكتروني. وتقول رئيسة الاتحاد باتريسيا شرودر "ان انهيار الحواسيب الخادمة عند توزيع رواية كينغ دليل واضح على وجود سوق كبيرة للكتب الالكترونية". وتضيف "ان التقنية الرقمية ستغير الكتب شأنها شأن أي سلعة اخرى". ويتيح الكتاب الالكتروني للقارئ البحث بسهولة عن اي مفردة يريدها وتحديد معناها في قاموس موجود داخل الكتاب، كما بامكانه تحديد الفقرات المفضلة ونسخها او تخزينها ليعود اليها عند الحاجة. كما بمقدوره تغيير شكل الحرف وحجمه. ويعتبر قارئ "روكيت" للكتب الالكترونية انتاج شركة نوفوميديا الاميركية من اكثر الاجهزة المحمولة انتشاراً. ويأتي هذا الجهاز على شكل كتاب متوسط الحجم وسطحه شاشة مزودة باضاءة خلفية، ويتوافر منه حالياً نموذجان، الاول بذاكرة حجمها 4 ميغابايت وتستطيع تخزين نحو اربعة الاف صفحة والثاني بذاكرة حجمها 12 ميغابايت وتخزن اكثر من 16 الف صفحة اي ما يعادل نحو اربعين كتاباً. ولا يتعدى ثمن النموذج الأول من اجهزة "روكيت" إلمئتي دولار اميركي. ويتم تحميل الكتب والمجلات والصحف فيه عبر وصله بجهاز كومبيوتر متصل بالانترنت. وتتوقع شركة اندرسون المالية الاستشارية ان يرتفع حجم تجارة الكتب الالكترونية بعشرة في المئة خلال السنوات الخمس المقبلة، لتصل إلى 3،2 بليون دولار ثلثها تقريباً، اي ما يعادل 700 مليون دولار، ستكون على حساب تجارة الكتب التقليدية. وحفزت السرعة التي انتشر فيها كتاب كينغ كبريات شركات الكومبيوتر على الدخول إلى سوق الكتاب الالكتروني. واعلنت "مايكروسوفت" عن مشروع لاطلاق برنامج للقراءة الالكترونية يتم تحميله على الحواسيب الشخصية وحواسيب الجيب والكف، في طرازاي "سوني" و"هيوليت باكرد". وقررت "مايكروسوفت" بالاتفاق مع داري نشر "راندوم هاوس" و"سايمون اند شوستر" نشر رواية مايكل كريشتون الجديدة "تايم لاين" بالاضافة إلى اكثر من عشر روايات خيال علمي من سلسلة "ستارترك". واللافت في دخول مايكروسوفت إلى سوق النشر الالكتروني ان حملتها الاعلانية والترويجية للكتب الالكترونية انطلقت في الولاياتالمتحدة ولم يجهز بعد برنامج القراءة التي تعده والذي من المتوقع ان يرى النور الشهر المقبل. ولكن رواية كريشتون المتوافرة حالياً بنسخة الكترونية تقرأ بالبرامج العادية لم تحظَ بنجاح رواية كينغ، ولم تعلن "مايكروسوفت" عدد النسخ المباعة منها. وتعزو الشركة فشل الرواية التي تروي قصة مؤرخ يعمل في شركة كومبيوتر ويطلب منه بناء مدينة في متخيلة من العصور الوسطى إلى ارتفاع عدد صفحاتها الذي يتجاوز ال 450 صفحة. واطلقت شركة "تايم وارنر" الاميركية بدورها مشروعاً خاصاً للكتاب الالكتروني. وقال المدير التنفيذي المسؤول عن قطاع النشر في الشركة لورانس كيرشبوم خلال مؤتمر صحافي اعلن فيه المشروع الجديد ان غوتنبرغ مخترع الطباعة ازيح عن عرش استوى عليه لأكثر من خمسمئة عام. مشروع "يتام وارنر" اطلق تحت اسم "انا انشر" ipuplish.com وسيتيح هذا المشروع الكتب نفسها التي تنشرها "تايم وارنر" ولكن بسعر متدنٍ. ويتألف "I Puplish" من ثلاثة اقسام. الاول: "أنا اقرأ" iread وهو مخصص لتحميل الكتب. والثاني: "أنا اكتب" iwrite ويتوجه إلى المؤلفين ليعرضوا انتاجاتهم على الشبكة. اما الثالث والاخير: "أنا اتعلم" ّilearn وهو مخصص أيضاً للمؤلفين ويهدف إلى اطلاعهم على وسائل النشر وقوانينه. وبموازاة هذه الهجمة الالكترونية وضعت "مايكروسوفت" جدولاً زمنياً مفترضاً لمسار الكتاب الالكتروني على الصورة التالية: - في العام 2005 ستتجاوز مبيعات الكتب والصحف والمجلات الالكترونية عتبة البليون دولار الامر الذي يجمع عليه المحللون الماليون واصحاب دور النشر التقليدية. - في العام 2009 ستتجاوز قيمة مبيعات الكتب الالكترونية مبيعات الكتب التقليدية في عدد محدد من الحقول غالبيتها علمية وتقنية. - في العام 2018 ستدفن الصحف والدوريات اصداراتها الورقية. - في العام 2019 ستتحول الكتب التقليدية او الورقية إلى نوع من انواع الهدايا كالتحف والتماثيل. - في العام 2020 سيضع قاموس "ويبستر" تعريفاً جديداً وللمرة الاولى لكلمة كتاب يأتي فيه "مادة تقرأ بواسطة شاشة". وامام هذا المد الالكتروني لم يعد هاجس المؤلفين نشر كتبهم بل الاعلان عنها وسط مدٍ هائل من الكتب التي ستصدر يومياً لتدني كلفة انتاجها. وستؤدي هذه الكميات إلى انتشار المكتبات الالكترونية، التي ستوفر على الطلاب نفقات باهظة. وهناك هاجس آخر هو حماية انتاجهم، فرواية كينغ لم تصمد سوى 24 ساعة. وهنا يطرح المؤلفون قضية حقوقهم الفكرية وما اذا كانت دور النشر الالكترونية سترفع من قيمة هذه الحقوق لتعويض تضاؤل مبيعات النسخ الورقية. وفي مقابل المروجين للكتب الالكترونية تعلو اصوات تعتبر ان الكتاب التقليدي باق إلى الابد وان النجاح الذي سجله كتاب كينغ سيمر مروراً غير مؤثر بعد انحسار الضجة التي اثارها. وبحسب الارقام فان الولاياتالمتحدة الاميركية انتجت في العام الماضي اكثر من مئة الف طن من المطبوعات الورقية وهو رقم قياسي من المتوقع ان يتحطم خلال العام الحالي. وجاء في تقرير لشركة الناسخات الاميركية، "زيروكس" ان المستهلكين ميالون للنشر الالكتروني ولكنهم ليسوا ميالين إلى القراءة الالكترونية. واوضح التقرير ان ثلاثة من اصل اربعة مستخدمين للرسائل الالكترونية يطبعون رسائلهم في حال تعدى حجمها نصف الصفحة. ويوضح الباحث في "زيروكس" نيك شريدون خلاصة التقرير بالقول ان القراءة الالكترونية مثل اقمشة "البوليستر" المكتشفة في منتصف القرن الماضي "الجميع يعرف ان تصنيعها واستخدامها وغسلها اسهل بكثير من باقي الاقمشة لكن لا احد يرتديها". ولاقى تقرير شريدون صدى في مجلة "بابلشرز" الاسبوعية والتي تعنى بشؤون النشر. وجاء في مقال لرئيس تحريرها جون بايكر "ان الاثارة التي اوجدتها الكتاب الالكتروني مماثلة للاثارة التي اجتاحت عالم النشر قبل عشر سنوات عند اكتشاف الاقراص المدمجة والتي انتهت اليوم إلى تخزين بضعة موسوعات لم تؤثر اطلاقاً على المبيعات الورقية". وبغض النظر عن مستقبل الكتاب الالكتروني، يبقى ان القراء لن يتمكنوا مهما تطورت التقنية من تجفيف وردة بين دفتيه. [email protected]