يعبر شريط الصور منتصف الصفحة التفاعلية التي خصصها موقع شبكة "سي.أن.أن." على الانترنت للاحتفال بعشرينيتها، في حركية لا تميل الى مخادعة العين مباشرة، لكنها تذكّر بالبث المتواصل للشبكة نفسها التي غزت شاشات العالم. تحمل الصور ذاكرة القناة التلفزيونية، وتركز على بعض الأحداث الجُلّى التي غطّتها "سي.أن.أن." وحملتها الى محل الرؤية في العالم، بفضل الأقمار الاصطناعية والبث الرقمي الأقنية، فكأنها أُخرجت من "عتمة ما" الى الإنوجاد عبر نقلها الى البصر في ذروة ثقافة العين. يمر شريط الصور بحرب الخليج وأضواء نيران عملية "عاصفة الصحراء" فوق بغداد، والدبابات التي تسير في ساحة تيانانمين الخالية إلا من طالب قرر الموت في وجه زحف الحديد، والملامح المتغضنة لعجوز لاجئة في حروب البوسنة والهرسك، ولاري كينغ المحاور الذائع الصيت، والمعلق برنارد شو ضاحكاً، وصورة نادرة التقطت لحظة انفجار المكوك تشالنجر تجاور لقطة لشبان يهمون بهدم حائط برلين الشهير. الأخبار محتوى لعصر التلفزيون منذ بدايتها الأولى، أدخلت "سي.أن.أن." التلفزة حقبة جديدة من "فنها"، أي الاختصاص، إذ كانت أول قناة متخصصة بالأخبار في العالم المعروف أن الأخبار هي مركز العمل المتلفز حتى بالنسبة الى الأقنية العامة. نقلت "سي.أن.أن." العمل الإخباري المرئي الى مجال القطاع الخاص وشركاته العملاقة، وأخرجتها من يد هيمنة الدولة التي طالما تعاملت مع الأخبار التلفزيونية باعتبارها محلاً لتقاطع توليه عناية خاصة. هل هي مصادفة محض، والحال كذلك، أن تتطابق ولادة القناة الإخبارية المختصة التي تديرها مصالح خاصة، مع العهد الريغاني الذي مثل النيوليبرالية وانبعاث اليمين وقيم رأس المال المنفلت الى حد التوحش؟ الأرجح أن ثمة أموراً أخرى أدت دورها في إعلاء شأن الفن الاخباري المتلفز الى تسييد المركز في الاعلام العام أو "الميديا" Mass Media. كان الراديو أفل منذ زمن تحت وطأة تقدم التلفزيون في أقنيته العامة، أي ما قبل دخوله عصر الاختصاص، وكذلك بأثر تطور السينما التي رفعت نص الصورة على حساب ثقافة الأذن والصوت الراديو. ورصد عالم الاجتماع الفرنسي ريجيس دوبريه تطور وسائط الاعلام في كتابه "الميديولوجيا"، لتطور وسائط الاعلام العام وحلول واحدها بديلاً مما سبقه تحت أثر التطور التقني أساساً. ويمكن الجدال طويلاً مع مقولات دوبريه، ولكن لا غرو في أن شبكة "سي.أن.أن." استفادت من تقنيات البث الرقمي عبر الأقمار الاصطناعية لتتحول محطة اخبارية تعمل على التقاط الخبر من مكان حدوثه في أي بقعة من الأرض، ثم تبثه الى العالم أجمع. وتطورت كاميرات النقل التلفزيوني لتصبح فائقة الخفة، وباتت أجهزة البث في حجم قابل للاستيعاب في سيارة الجيب مثلاً. وتلاقت تقنية الكاميرات التي تعمل بالاشعة ما تحت الحمراء، ولاحقاً الليزر، مع الرغبة في بث متواصل على مدار الساعة. ثمة أمور أخرى مكنت الفن الإخباري من احتلال صدارة الاعلام العام. فقبل سقوط الاتحاد السوفياتي، كانت أوروبا تَنْعَى موت الفلسفة وتنظر الى وفاة مفكرين مثل ميشال فوكو وريمون آرون، مع تفاوت أهميتهما، كأحداث رمزية على ذلك الموت. وفي شيوع ذائقة ما بعد الحداثة، نُعيت النصوص الكبرى Hyper Text التي رافقت ظهور فنون مثل الرواية، والتي ساندت طويلاً عصب الفن في السينما. الأرجح أن اجتماع تلك الأمور مع مرحلة انتصار قوى العولمة مطلع التسعينات، أدى الى سيادة الوسائط المرئية - المسموعة على ما عداها. وتصلح حرب الخليج التي سماها البعض "حرب السي.أن.أن."، نموذجاً عن تلك السيادة وما يتولد عنها من امساك للأعين وللفاهمة العامة للجمهور. وفي ما سيغدو شأناً شائعاً كصنعة، صيّرت "سي.أن.أن." أشياء الحياة خبراً وتغطية، وأضاف الأرشيف حضور عنصر الذاكرة. يصح الأمر على مجريات السياسة، كما على الفن والعلم والتكنولوجيا والبيئة والصناعة بأنواعها والبورصة وأزمات الاقتصاد والموسيقى وعروض الأزياء. الأرجح أن "سي.أن.أن." كسرت "نص" التعبير الذي كان سائداً قبلها، بما في ذلك استيعابه، وأثبتت أن ثمة نصاً آخر يمكنه انتاج بديل متفوق، وذلك إسّ ما يكون فناً، بحسب رأي الأنّاس الفرنسي كلود ليفي شتراوس. الصحافة الالكترونية: شكل النص المعلوماتي تعمل أليسون توم في قناة التلفزة الدولية التابعة ل"سي.أن.أن." وكذلك في الموقع التفاعلي CNN Interactive على الانترنت. وترى توم في وضوح أن "عمليها" متكاملان. ومنذ مدة يروج مصطلح التلاقي Convergence في المعلوماتية تعبيراً عن تقاطع تقنيات البث الاذاعي Web Radio والتلفزة Web T.V. والسينما Non-Reel Film وأشرطة الفيديو Video Streaming، واندماجها، الى جانب التقنيات الاتصالية للشبكة مثل البريد الالكتروني e-mail وغرف الثرثرة Chat Room. ويطلق مصطلح "ميلتي ميديا" Multi Media، أحياناً للتعبير عن هذا التقاطع الذي يندمج في وحدة واحدة. أي أن المادة الاعلامية المعلوماتية تتضمن النص المكتوب Text، الى جانب "ميلتي ميديا" التي تعطي مدى رحباً لإدماج كل ما هو مرئي ومسموع في ثنايا النص نفسه. وتقود الاتصالية الجزء الآخر من الإعلام المعلوماتي، إذ يتمكن الجمهور، وعلى نحو فردي أيضاً، من "بث" إعلامه الخاص الى عين "المكان" الذي يتلقى منه، اضافة الى إمكان الانتقاء. وتلاحظ "المذيعة" أليسون أن الأقنية التلفزيونية ل"سي.أن.أن." تقدم برامج عن طريقة استخدام الناس التقنية المعلوماتية، على سبيل المثال، ثم توضع المادة على الموقع الشبكي الذي يتيح لهم إبداء الرأي كذلك. وتقدّم التلفزة برنامج "آسيا الآن"، ويفرد الموقع الشبكي قسماً cnn.com/asianow للمادة نفسها، وبصفات المعلوماتية. وفي المقابل، فإن الموقع الشبكي ل"سي.أن.أن." الذي شرع في العمل عام 1995، خصص قسماً للتحليل الإخباري المعمق "رؤية الداخل" Insight، وسرعان ما تحوّل برنامجاً إخبارياً بالعنوان نفسه يقدمه المذيع جوناثان مان. وينطبق الوصف نفسه على برامج مثل "خط المال" Mony Line لو دوبس وسؤال وجواب Q&A الذي يقدمه ريز خان. أما المواد الاخبارية وأخبار البورصة فإنها تتطابق الى حد "الاستنساخ". وفي المدة الأخيرة، وتحديداً عقب فضيحة الجنس الرئاسي لبيل كلينتون التي عضدت فيها الشبكة الرئيس على نحو بيّن، تزايد كمّ المواد البصرية المرفقة بالنصوص، بما في ذلك وجود ارشيف للمواد التلفزيونية المسجلة في أشرطة "فيديو" للاستعادة. وتتبع النصوص المكتوبة التي تنشر على الموقع الشبكي التبويب نفسه الذي تجري عليه الصحف الكبرى، مثل التقسيم الى مناطق جغرافية عامة وفرعية والتبويب في مواضيع عمومية تتفرع منها عناوين أكثر تخصصاً. واستطراداً في الشكل المعلوماتي، فالنصوص تكتب بطريقة النص العالي الترابط Hyperlink Text حيث تربط الكلمات المفتاحية بنصوص تتولى شرحها وتقود بدورها الى نصوص أخرى... وهكذا دواليك. ويعتبر موقع "سي.أن.أن." من أكثر المواقع ارتياداً على الشبكة ومصدراً للأنباء ولحركة البورصة وغيرها. ولربما أفضى النقاش في الشكل والمحتوى الى استنتاج ان ما هي عليه "سي.أن.أن." راهناً هو "نص" إعلامي - معلوماتي متميز نوعياً في خصائصه وصفاته، وكذلك فهو يبرع في استخدام ما سبقه من وسائط، أي أنه البداية الفعلية للصحافة الالكترونية. وهذا الأمر جدير بنقاش عميق، يتجاوز الحديث الغارق في المقارنة بين الورق وشاشة الكومبيوتر، وبين الفأرة الالكترونية أو الأقراص المدمجة والكتب. فالأرجح أن النقاش التقني المحض والوحيد الجانب لا يعين كثيراً في فهم تحولات الثقافة وفنونها. وما سبق هو محاولة لفتح النقاش في الصحافة الالكترونية. أحمد مغربي [email protected]