لعل الاسرائيليين، عسكريين وسياسيين أولاً، ثم مؤرخين بعد ذلك، كانوا الأوضح حتى الآن في تأكيدهم على أن حرب حزيران يونيو 1967، التي تسببت للعرب في أكبر هزيمة عسكرية وسياسية اصابتهم في تاريخهم الحديث كله، لم تكن كما يقال دائماً - وأحياناً في منطق يشبه المسلمات - من تدبير القيادة المصرية وعلى رأسها الرئيس جمال عبدالناصر. إذ، منذ الشهور التي تلت تلك الحرب راح المسؤولون الاسرائيليون يسربون بين الحين والآخر، وجهة نظرهم، التي سيكون أشدها وضوحاً وصدقية ما قاله اسحاق رابين، رئيس الأركان الاسرائيلي خلال تلك الحرب، من أن اسرائيل كانت تعرف مسبقاً وبشكل يقيني ان عبدالناصر لم يكن يريد حرباً، ولم يجمع هو العناصر التي أدت الى الحرب. كل ما في الأمر أن الرئيس المصري كان يريد أن يحرك الأمور، على الجبهة، بغية تحريك الأمور السياسية، لعل ذلك يوصل الى مخرج سياسي قد يكون من شأنه أن يلغي حال الحرب الدائمة في المنطقة. ولكن هنا كانت اسرائيل في المرصاد، حيث تصرفت لاحقاً انطلاقاً من كون الأمر كله فخاً أطبق على عبدالناصر خصوصاً، وعلى الجيوش العربية في دول المواجهة عموماً. وكانت النتيجة تلك الهزيمة الكبرى التي يطلق عليها اسم النكسة والتي أصابت من العرب، جميعاً، مقتلاً، لم يبرأوا منه حتى الآن. ولم يبرأوا منه على رغم أن حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 جاءت لترد على تلك الهزيمة جزئياً، ولتكون أول وآخر انتصار ولو جزئي وحمل تناقضاته يحققه العرب على جيوش الكيان الصهيوني. إذاً، حتى في الحسابات الاسرائيلية الأكثر وعياً وصراحة، كانت حرب حزيران، حرباً مفتعلة مرتبطة بفخ نصب للرئيس المصري، ولغيره من القيادات العربية. غير أن تلك الحرب التي بدأت في صباح الخامس من حزيران 1967 واستمرت ستة أيام ومن هنا كان اسمها الغربي الرسمي: حرب الأيام الستة لم تكن مجرد معركة عسكرية. والهزيمة التي طاولت العرب خلالها لم تكن هزيمة جيوش فقط. لكنها كانت، في المقام الأول، هزيمة حضارية وسياسية وثقافية. كانت، بحسب تعبير واحد من مؤرخي تلك المرحلة، "خنجراً طعن ظهر التاريخ المريح". إذ قبل تلك الهزيمة كان العرب، بشكل اجمالي، يملكون يقينات عدة، كانوا يحملون لغة النصر في أعماق خطابهم، يعتبرون أن التاريخ يناصرهم وأن انتصارهم على الأعداء من رجعيين وصهاينة وامبرياليين بحسب تعابير تلك المرحلة التي لا تعدم من يواصل استخدامها اليوم أمر حتمي ومسألة أيام. كانت مرحلة الصعود القومي لا تزال قائمة. وكان الحضور الامبريالي، مسألة موقتة. تكفي الارادة العربية، وربما الشعارات واستنهاض همم الجماهير "من المحيط الى الخليج" عبر صراخ صاخب في "أكاذيب تكشفها حقائق"، أو الأغاني الوطنية أو الخطب الحماسية، يكفي هذا كله لتحقيق النصر وبناء الأمة. ولكن جاءت هزيمة حزيران، وجاء تحطيم الطيران الاسرائيلي للأسلحة الجوية العربية، ثم احتلال مساحات من الأراضي العربية تفوق مساحة الدولة العبرية نفسها. وجاء اهتزاز الثقة بزعامة عبدالناصر، وما تلا ذلك من انشقاقات في الصفوف العربية ومزايدات في مؤتمرات القمة، والشرخ الذي حدث بين الرأي العام العربي والحليف السوفياتي، مزودنا بالأسلحة وببعض آيات اليقين، جاء ذلك كله ليضع حداً للآمال الواهية التي كانت عقدت وجعلت سيرورة التاريخ أمراً مريحاً. وهكذا بدلاً من أن تكون حرب حزيران، مثل أي حرب من نوعها، مجرد هزيمة عسكرية، أتت على شكل كارثة حضارية، أفاق الوعي العربي بعدها ناقماً غاضباً يوزع الاتهامات ذات اليمين وذات الشمال. وكان أول المتهمين القيادة المصرية نفسها وجمال عبدالناصر الذي كان بادر منذ اليوم الرابع للهزيمة وإذ لم يعد في الامكان مخادعة الرأي العام عبر مزاعم نصر بدأت كل الدلائل تشير الى أنه اسرائيلي المنحى لا عربيّه، بادر الى الاستقالة فردته الجماهير، ربما حباً به، وربما منعاً اياها من التخلي عن مسؤوليته في لحظة الكارثة تلك. وكان صدمة، ستؤثر خلال السنوات التالية على الفنون والآداب وعلى المزاج العام. كانت الصدمة من القوة بحيث أن الرأي العام لم يتنبه على الفور، الى ما راح الاسرائيليون أنفسهم يقولونه من أن عبدالناصر لم يكن المتسبب المباشر في الحرب والساعي اليها. وهكذا، تحقق للغرب، وبسرعة، أهم ما كان يريده، بالتحالف مع قوى محلية مناصرة له: أي محو الثقة العامة بالزعامة المصرية عبر تحميل جمال عبدالناصر مسؤولية الحرب وبالتالي مسؤولية الهزيمة. ومن هنا، حتى وإن كان العرب جميعاً قد وقعوا ضحية تلك الحرب، فإن ضحيتها الأولى، ومن دون أدنى ريب، كان جمال عبدالناصر، الذي سيعمل طوال السنوات التالية على التعويض ومحاولة التخفيف من حدة الهزيمة، حيناً عبر القنوات السياسية والديبلوماسية، وأحياناً عبر حرب الاستنزاف، وفي الأحوال كلها عبر التحضير لمعركة حاسمة تالية ضد اسرائيل، رحل عن عالمنا من دون أن يتمكن من تحقيقها، فأتى الرئيس المصري التالي أنور السادات لتتم في عهده وتنسب اليه، في وقت كان فيه كثيرون ينسون دور عبدالناصر ولا يذكرون سوى مسؤوليته عن الحرب والهزيمة. الصورة: من مشاهد حرب حزيران