كان ذلك العام، عام استعادة الرئيس جمال عبدالناصر بعض مكانته، بعد ان كانت هزيمة حزيران يونيو 1967 افقدته جزءاً كبيراً من تلك المكانة، ثم أتت قمة الخرطوم و"لاءاتها" الشهيرة لتحاول ان تعيد مصالحته مع تاريخه في الوقت الذي تعلن فيه تصليب الموقف العربي ضد اسرائيل، ما يعني ان الهزيمة الشهيرة لم تفعل فعلها، ولكن، كان واضحاً بالنسبة الى المراقبين المحايدين ان "لاءات الخرطوم" لم تكن سوى الإقرار بالضعف العربي العام الذي أعقب الهزيمة، فالقوي، عادة لا يتطرف ولا يصلب مواقفه، بل يبدي ليونة، هي ليونة القوي، تنم عن دور كبير يريد ان يلعبه. ومن هنا، حين عاد عبدالناصر ليتحرك في العام 1969، على مسرح اللعبة السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط، كان استعاد جزءاً من قوته، ومكنه هذا من ان يناور سياسياً وديبلوماسياً، من موقع قوة ما. فالدي حدث يومها، هو ان محمود رياض، وزير الخارجية المصري، اختار يوم الأول من ايلول 1969، ليجعله يوم "بالون الاختبار" الرئيسي بالنسبة الى الموقف من اسرائيل. محمود رياض الذي كان يعتبر، على الدوام، الأب الهادئ للديبلوماسية المصرية، والرجل الذي يفعل اكثر بكثير مما يتكلم، قال في ذلك اليوم "ان مصر لا تمانع في التحدث مباشرة مع الاسرائيليين شرط ان يتخلى هؤلاء بشكل رسمي عن سياستهم التوسعية". وكان هذا الكلام يومها جديداً ومفاجئاً، حتى وان كان الرئيس عبدالناصر سبق له في شهر شباط فبراير من العام نفسه أن قام بخطوة ما في اتجاه الاسرائيليين. حدث ذلك حين بدا ان التوجهات التي يعتزم الرئيس الاميركي، ريتشارد نيكسون اتخاذها بالنسبة الى صراع الشرق الأوسط، مطمئنة لعبدالناصر. يومها، وعلى رغم التوتر السائد على ضفتي قناة السويس، أعلن عبدالناصر انه لا يزال يؤمن بالسلام وخطا في اتجاه ذلك خطوة تمثلت في حوار أجرته معه مجلة "نيوزويك" الاميركية. يومها سأله مندوب المجلة ما إذا كان يقبل بالتفاوض المباشر مع الاسرائيليين، فقال انه لا يمكنه ان يجيب عن هذا السؤال طالما ان اسرائيل تحتل أراضي عربية، وأضاف: "لكنني قادر على ان أؤكد لك اننا سبق ان جلسنا الى طاولة المفاوضات مع الاسرائيليين بعد الحرب في العام 1949... واننا على استعداد لمعاودة ذلك مرة اخرى". محمود رياض كان على أي حال ضابطاً في الجيش في العام 1949، وهو شارك شخصياً في المفاوضات الشهيرة بين مصر واسرائيل. مهما يكن فإن تصريح محمود رياض الجديد، والذي أتى ليؤكد على ما كان الرئيس عبدالناصر قاله، وان بشكل موارب، لم يكن أول محاولة لمحمود رياض من هذا النوع، إذ سبق له في صيف العام 1968 أن كان واحداً من أوائل الديبلوماسيين العرب الذين اقترحوا الاعتراف بپ"الواقع الاسرائيلي". ومحمود رياض الذي تسلم وزارة الخارجية المصرية في العام 1964، وكان من أشهر أعماله قبل ذلك انه "هندس" من الناحية المصرية، الوحدة بين مصر وسورية. محمود رياض كان معروفاً على الدوام بأنه ينطلق، في مجال السياسة الخارجية باسم عبدالناصر. من هنا، حين أدلى بتصريحه الجديد، تلقف الاميركيون الأمر، وبدأوا يتحركون على اساسه. ووصلت ذروة ذلك التحرك الى مشروع روجرز الذي كان الحدث الشرق الأوسطي الأكبر في العام التالي. أما إذا عدنا الى العام 1969، والى تصريح محمود رياض المعبر عن تطور كبير في موقف الرئيس المصري، فسنلاحظ انه أتى ضمن اطار ثلاثة أحداث ضخمة وأساسية، اعتبر كل واحد منها انتصاراً طيباً للرئيس عبدالناصر: الثورة الليبية التي قادها العقيد معمر القذافي، ووصول جعفر النميري الى الحكم في السودان والاثنان كانا محسوبين على عبدالناصر، ثم الافتتاح الرسمي في أواخر شهر تموز يوليو من العام نفسه لحرب الاستنزاف ضد اسرائيل. من هنا ما قيل من انه لئن كانت "لاءات الخرطوم" الصغيرة جاءت وعبدالناصر أضعف ما يكون، فإن انفتاحية العام 1969 أتت في وقت بدا فيه عبدالناصر، أقوى منه في أي وقت مضى منذ الهزيمة الشهيرة، فإذا أضفنا الى هذا رعاية عبدالناصر لوصول ياسر عرفات الى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ندرك ان "بالون الاختبار" الذي رمى به محمود رياض، كان يعبر عن موقف قوة، هذه المرة، لا عن موقف ضعف.