الفيلم الجديد للممثل ميل غيبسون هو "الوطني" The Patriot. والفيلم الجديد لجورج كلوني هو "عاصفة عاتية" الترجمة الأقرب الى Perfect Storm. "الوطني" من اخراج ألماني مهاجر أسمه رونالد إيميريش، والثاني من اخراج الماني مهاجر أيضاً اسمه وولفغانغ بيترسون. وكلا الفيلمين يفتتح في الرابع من تموز يوليو الجاري لاستقطاب جمهور عيد الاستقلال الأميركي. "الوطني" يتحدث عن ذلك العيد، لكن "عاصفة عاتية" يتحدث عن كارثة. كلاهما من انتاج كبير. لكن الرابط الخفي بينهما هو التالي: ميل غيبسون كان المرشح الأول إلى تمثيل "عاصفة عاتية" لكنه انسحب وقرر تمثيل "الوطني" عوضاً عنه، فتوجه صانعو "عاصفة عاتية" الى الممثل جورج كلوني. سبب انسحاب غيبسون كان، في الظاهر على الأقل، مادياً.. طلب 25 مليون دولار لم تشأ "وورنر" دفعها ودفعتها "كولومبيا" في مقابل بطولته "الوطني". أجر كلوني لا يتجاوز نصف هذا المبلغ وهذا ناسب "وورنر"، فتوجهت اليه. في الباطن هناك ما ينجلي للناقد المراقب: حسناً فعل ميل غيبسون بتخليه عن "عاصفة عاتية" ليس لأن "الوطني" أفضل منه بكثير. ففي هذا الفيلم أخطاؤه الكبيرة بدوره، بل بسبب طبيعة الدور. خلال لقاء معه نفى غيبسون أن يكون المال هو الدافع الأساسي إلى انتقاله من فيلم الى آخر، لكنه لم يشأ الإضافة. وهو لو قال شيئاً مثل "انتقلت الى "الوطني" لأن الدور الذي فيه مشبع درامياً" او "لأن الدور فيه أفضل" لما كان بعيداً من الحقيقة. غيبسون أحسن الاختيار هذه المرة، ولو أن "الوطني" ليس فيلماً مثالياً ايضاً. لا يفهم نفسه في "الوطني" يؤدي غيبسون دور بنجامين مارتن، رب عائلة من سبعة أولاد تتفاوت أعمارهم بين ستة عشر عاماً وعامين. الأكبر هو غبريال هيث لودجر شاب تدفعه مشاعره الوطنية إلى الانضمام الى المواطنين الأميركيين المحاربين في سبيل استقلال اميركا عن الاستعمار البريطاني. وأصغر أولاده طفلة تحاول معرفة أبيها في خضم من الأحداث التي لا تفهمها. لا بأس، فأبوها لا يفهم نفسه على أي حال. كان شارك إلى جانب الانكليز في الحرب ضد الفرنسيين وأبلى بلاءً حسناً يخجل من نتائجه وينبذ بسببه كل نوع من أنواع الحروب. لكن ابنه هيث لودجر يجر قدمه الى الحرب الجديدة، وكذلك يفعل الكولونيل ويليام تافينغتون جيسون آيزاكس من باب أن هذا الأخير قائد بريطاني عنيف وقاس تكرهه منذ المشهد الأول، او هكذا مطلوب منك. وهو قتل ابن بنجامين الثاني تريفور مورغان بدم بارد وأمر رجاله بالقبض على غبريال وإحراق بيت العائلة. يهب بنجامين للذود عن ابنه غبريال ويتعرض للقافلة المؤلفة من نحو عشرين جندياً وينجح في إبادتهم جميعاً وتحرير ابنه. ومنذ تلك اللحظة يصبح بنجامين عضواً جديداً في القوة العسكرية المناهضة للوجود البريطاني، والتي يقودها صديقه القديم هاري بورويل كريس كوبر من "جمال أميركي". بانضمامه ينقلب توازن القوى لمصلحة الأميركيين. في الحقيقة، فيلم رونالد إيميريش القائم تماماً على الخيال كتب السيناريو روبرت رودات الذي سبق أن كتب فيلماً حربياً آخر هو "انقاذ المجند رايان" لستيفن سبيلبرغ يكاد يشعرك أن الفيلم مبني على وقائع تاريخية، لكنه ليس كذلك باستثناء أن حرب الاستقلال قامت فعلاً، وهذا الفيلم واحد من تلك القلة التي عالجتها، وكل منها كانت له متاعبه كما الحال هنا. بنجامين مارتن يخوض حرب عصابات وكلمة "مليشيا" تتردد أكثر من مرة، فهل كانت متداولة آنذاك؟ ربما، لكن المؤكد أن حرب الاستقلال الأميركي لم يربحها فرد واحد كما الحال هنا في تشخيص بطولي نرى فيه ميل غيبسون وهو ينتصر على البريطانيين في كل موقعة، باستثناء تلك التي لم يحضرها. رونالد ايميريش الذي حقق "يوم الاستقلال" و"غودزيللا" من قبل، يقدم هنا أفضل جهد له، وتستطيع أن ترى ذلك الجهد من خلال ملاحظة الاعتناء الشديد بتنفيذ المشاهد والتصوير قام به كاليب ديشانل بعد "البيت المسكون" و"رسالة في زجاجة". ولكن ما عدا هذه الناحية الحميدة في حد ذاتها، لا وجود لموهبة توفر للمشاهد مستوى فنياً شاملاً او معالجة أكثر صدقاً وأقل بهرجة. معالجة تدخل الشخصيات التي ترسمها عوض أن تتركها تحت ثقل ما يلقى عليها من أفعال من المفترض أن نقبلها كما هي. "الوطني" مقدم الينا كما لو كان أولاً درساً في الوطنية، وثانياً جزءاً من التاريخ عليه أن يدرّس في المدارس. هناك منحى لتأكيد الأمور كما لو كانت مستقاة من حياة شخصيات حقيقية ومن وقائع تاريخية مسجلة، وبينها إحراق الكولونيل الحاقد كنيسة حبس في داخلها أبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء، من دون تردد، عاكساً قسوته غير المبررة. ستخرج من الفيلم متسائلاً هل فعل البريطانيون ذلك! والمخرج يؤكد أنهم فعلوا ما هو قريب منه وسيجد الفيلم الكثير من الصد بين الانكليز على أساس أنه متجن على الشخصية البريطانية جاعلاً اياها عدواً داكن السواد. وعلى ذكر السواد. يقدم الفيلم العبيد الأميركيين كما لو أنهم ما عانوا يوماً اي تفرقة عنصرية. صحيح أن هناك مشهداً ينص على أن أحد البيض كان يمتلك لنفسه عبداً، وأن آخر كانت له نوازع عنصرية، لكن الأول يموت في الفيلم والثاني - وفي مشهد يراد له أن يكون نموذجياً - يقر بخطأ نظرته. السود في هذا الفيلم شاركوا فعلاً في حرب الاستقلال، وهذا ممكن بشروط، ولكن من غير المقبول أن نراهم يعيشون سواسية ومن دون مشكلات. وعلى رغم أن الفيلم يقصد استعراضهم، فإن معالجة المخرج الميلودرامية تجعلهم مجرد ديكورات ملونة يستفيد منها في إظهار موقفه الإنساني غير العنصري. مخرج يبحث عن قلة يؤكد وقوفه الى جانبها حتى بليّ ذراع الحقيقة أكثر من مرة. لكن الأمر الايجابي الخارج من هذه النتوءات هو التالي: غيبسون وجد في هذا الدور طبقات من الصراعات الثرية. فهو يصارع ماضيه، ولديه صراع ضد ابنه، وآخر ضد الاستعمار البريطاني. وهذا أفضل ما في الفيلم ولو أن طريقة تجسيد هذه الصراعات، التي تؤدي الى إشباع درامي شامل، تتفاوت بين السذاجة والسخف. عاصفة بحرية "عاصفة عاتية" يخلو من هذه الصراعات. لذا اختيار غيبسون ل"الوطني" أفضل لأنه ليس في حاجة الى فيلم لا تطور درامياً في شخصيته. هذا التطور الدرامي صعب الحصول في عمل قائم على حكاية قائد سفينة صيد يجوب المحيط البعيد بحثاً عن السمك بعد رحلات عدة قريبة، كانت "محاصيلها" زهيدة. جورج كلوني هو ذلك القائد ومعه على السفينة خمسة أشخاص، بينهم مارك وولبرغ الذي كان التقى وكلوني في بطولة "الملوك الثلاثة" العام الماضي. وبينهم رجلان لا يطيق أحدهما الآخر، الى أن يسقط أحدهما في البحر فيهب الثاني لنجدته. بعد ذلك هذا التفصيل من الصراع يذوب ونجد أنفسنا مع مجموعة من البحارة يواجهون أعتى عاصفة بحرية شهدتها السينما. بعد نحو نصف ساعة من التحضير على اليابسة وتقديم الشخصيات وحياتها العاطفية كل منها لديه قصة تروى باستثناء قائد السفينة جورج كلوني الذي يبدو كما لو كان مقطوعاً من شخصية كتبت يوماً لجون واين ولم ينفذها. نصف ساعة أخرى من الإقلاع في البحار الهادئة كما لو أن شيئاً لم يكن. لكن الساعة الثانية كلها مبللة بالكثير من الماء. بعدما حصد كلوني صيداً ضئيلاً من السمك، نراه يمضي شمالاً الى حيث يعتقد أن السمك هناك وافر. ولا تكذبه الكاميرا اذ نرى السمك هناك كما لو كان يتطوع يصعد السفينة. ولكن فيما الصيادون منشغلون ببهجتهم، كانت الغيوم تتجمع في مكان قريب لتشكل صواعق وعواصف عاتية سريعاً ما تدهم السفينة في طريق عودتها الى البر. من بداية الساعة الثانية تتوقف كل الأحداث باستثناء مواجهة هذا الفريق وهناك قصة جانبية أخرى تحتل حيزاً إضافياً لكنه ليس متصلاً للعاصفة العاتية. تستطيع أن تتصور كاتب السيناريو وهو يضع تصوراته العامة التي دخلت الاستوديو لكي يتم العمل عليها بالكومبيوتر ومشاهد داخلية مركبة. وفي تلك الساعة التي نشاهد فيها البحر وهو يعلو وينخفض تدهمنا مناظر مؤلفة بدورها على الكومبيوتر وتفتقر الى الحقيقة، فمشاهد الأمواج الكبيرة، التي تعلو الواحدة منها جبلاً، تظهرها تتحرك على مهل لإتاحة الفرصة أمام المشاهدين لاستيعاب الخطر. هذا يؤدي الى نتيجة معاكسة اذ يصيب الضجر المشاهد الذي سيجد نفسه في خضم تلك الأمواج، ساعة لا تحتوي أي حدث فعلي. وشخصية كلوني، وباقي الشخصيات، توقفت عن النمو والتطور في غياب الدراما التي تتيح لها ذلك. اخراج وولغانغ بيترسون "القارب"، "في خط النار" الخ... جيد في التقنيات والبناء عموماً، لكنه يصطدم بقصة مقسمة الى تمهيد طويل ونهاية واحدة طويلة، ولا شيء كان يستطيع فعله لإنجاز مثل هذه القصة الا بمثل هذا النحو وهذه المعالجة. سنرى جورج كلوني في "أيها الأخ أين أنت؟" آخر مغامرة سينمائية للأخوين جوويل وإيثان كووين وهو يؤدي دوراً مختلفاً. انه ممثل صالح للتقلب بين الأدوار، لكن بعضها يمنحه بعداً لا يؤمنه البعض الآخر. و"أيها الأخ أين أنت؟" هو من تلك الفاعلة. قصة ثلاثة سجناء فارين في الثلاثينات ومتاعبهم في بيئات اجتماعية متأزمة. كلوني يتبلور أمامنا سريعاً كمحور الأحداث وأعقل الشخصيات وأكثرها دهاء في الوقت نفسه، ولديه قابلية على جذب اهتمام المشاهد خصوصا لأنه لا يزال نسبياً جديداً على الشاشة، والمرء لا يدري ما يتوقع منه. لكن الفيلم نفسه، وهو قدم على شاشة مهرجان "كان" الأخير، يحمل سمات أفلام كووين المختلفة من دون أصالة المجموعة الأولى منها مثل "دم بسيط" او "معبر ميلر" هذا ما سيجعل الفيلم بعيداً من دفع مهنتي كووين من ناحية، ومهنة كلوني من ناحية أخرى، الى الأمام. في نهاية "عاصفة عاتية"، المأخوذ عن قصة حقيقية، يموت جميع من كان على السفينة، وتتساءل: ما دام الأمر كذلك، من الذي عاش ليروي ما حدث إذاً؟ رواية ارنست همنغواي "العجوز والبحر" تخطر على البال حين مشاهدة هذا الفيلم. ففيها أن عجوزا لم يرزق بسمكة واحدة في اي من طلعاته الى أن مضى بعيداً واصطاد سمكة أكبر من القارب، لكنه خسرها خلال عودته بعدما نهشها القرش. هنا ينطلق الجميع بحثاً عن السمك في مكان قصي، ويخسرونه ايضاً... هرب ميل غيبسون من فيلم ليس في حاجة اليه ولا يضيف الى مكانته شيئاً. اختياره البديل أفضل له. أما كلوني فلا يملك خياراً في ذلك خصوصاً أن فيلمه اللاحق لجوويل كووين لن يقدم إليه الكثير في سياق نجوميته او تمثيله. أفضل ما يمكن أن يقع له الآن هو ألا يغرق مع السفينة.