نهاية تسلط فيلم "تيتانيك" على الايرادات بدأت تلوح في الافق في عدد من العواصم من بينها باريس وروما، حيث يحقق "أفضل ما يمكن" نجاحاً قوياً في الايرادات. وهو كاد يخسر موقعه على القمة قبل اسبوعين في الولاياتالمتحدة عندما بوشر بعرض فيلم آخر من بطولة ليوناردو دي كلبريو "الرجل ذو القناع الحديدي". ثم كاد أن يخسر ذلك الموقع في الأسبوع الماضي عندما افتتح فيلم "شحم". وهو كما يعلم بعضنا، فيلم عمره عشرون سنة من بطولة جون ترافولتا أيام كان شاباً. ويوم السبت 28/3/1998 حقق الفيلم نجاحاً كبيراً، لكنه تقلص في اليوم التالي، ما منعه من إلحاق الضرر بفيلم جيمس كاميرون الملحمي. لكن لا "تايتانيك" ولا أي من الأفلام التي هددت مكانته أو نجحت في خلافته على القمة ينتمي إلى النوع البوليسي. "الرجل ذو القناع الحديدي" من نوع المغامرات الفروسية استلهام من رواية الكسندر دوما "الفرسان الثلاثة"، و"شحم" عاطفي/ شبابي مثل اغنية تسمعها اليوم وتنساها غداً، و"تائهون في الفضاء" مغامرة من الخيال/ العلمي النوع الذي تم استبدال سينما رعاة البقر و"الوسترن" عموماً به. والحديث هنا ليس عن أي فيلم "أكشن" يمثله ميل غيبسون أو بروس ويليس أو ايدي مورفي، بل عن الفيلم الذي يحمل لغزاً حقيقياً بحاجة إلى تحقيق يشوبه الغموض وحل لا يخلو من الخطر. ليس لأن هوليوود لا تنتج مثل هذه الأفلام، بل لأن الجمهور هو الذي لا يريدها. على الأقل هذا كان حكمه في الأسابيع القليلة الماضية على أربعة أفلام ممتازة من هذا النوع، بل أحدها تحفة سينمائية حقاً. وهذه التحفة، كما سنرى، لم تفت النقاد، بل فاتت الجمهور، وما وقع لها في أميركا سيقع لها في كل بقاع العالم. فالناس تتساءل أين الجيد والمميّز، لكن عندما يصلها ذلك مطرزاً بطاقم من الممثلين الجيدين وممهوراً بتوقيع مخرجين معروفين، فإن درجة حماس معظمهم تبرد... وعند الاختيار، فإن الفيلم الترفيهي العريض، كوميدياً كان أو مغامرات، يصبح هو الغاية. "سري لوس انجيليس" الذي عرضناه هنا لم يصل إلى حد الاستثناء إلا بجهد بليغ انتجته "وورنر" ولم تعرف طوال أشهر طويلة ماذا تصنع به على رغم الملايين التي بذلت للدعاية له ووقوف النقاد في كل مكان معه، إلا أنه لم يستطع تجاوز سعر تكلفته 60 مليون دولار في أميركا، وحقق نحو 42 مليون دولار حول العالم، علماً بأنه بحاجة إلى 50 مليون دولار أخرى قبل أن ينتقل من خانة الخسارة إلى خانة الربح. الأفلام البوليسية الجديدة التي لم تصل حتى إلى مثل هذه الأرقام هي: "صانع المطر" اخراج فرنسيس فورد كوبولا، "رجل الكعك" لروبرت ألتمان، "جاكي براون" لكوينتين تارانتينو و"غسق" لروبرت بنتون... وكدت اضم "ليبوفسكي الكبير" لايثان وجوويل كووين، لكن هذا الفيلم من أسوأ ما حققه هذان الاخوان حتى اليوم وليس بالفعل بوليسياً، بل محاكاة تشبه تلك الأطعمة المنتشرة حالياً في المحلات الكبرى والتي تقرأ عليها عبارة "مادة بديلة للجبنة" أو "حليب من النباتات" أو شيء كهذا. روايتان من المحامي السابق جون غريشام محام سابق انتقل إلى كتابة القصة البوليسية بنجاح كبير. خلفيته تلك ساعدته في عمله الجديد، فهو يعلم أسرار المسائل القانونية وتراه في كتاباته يختار من الملفات ما يبدو دائماً واقعياً ومثيراً في الوقت نفسه، لذا فإن الأساسي في أعماله ليس الإجابة على لغز من الفاعل، فهو في العادة معروف منذ البداية، بل ماذا فعل وما موقف القانون من ذلك وصولاً إلى أروقة القضاء وجلسات المحاكم المشبعة بالمشاحنات الواقعية بدورها. ومن هذه الأفلام الجديدة عملان من رواياته الحديثة "رجل الكعك" و"صانع المطر"، وهما يتبعان عدداً من روايات غريشام التي ابتاعتها هوليوود وانتجتها في السنوات الخمس الأخيرة مثل "المؤسسة" لسيدني بولاك و"الموكل" و"وقت للقتل" لجوييل شوماكر، و"رجل الكعك" لروبرت ألتمان، و"صانع المطر" لفرنسيس فورد كوبولا هما آخر هذه الاقتباسات وأفضلها على الاطلاق. ومن المثير مقارنة كل منهما بالآخر لسبب واضح يتعلق بالمخرجين المختلفين، فألتمان وكوبولا من أهم ما حدث للسينما الأميركية في السبعينات ولا يزال يحدث على رغم اختلاف الظروف والمعطيات. واحد قاد السينما المستقلة طويلاً وبنجاح فائق، والثاني حقق تحفاً لا يمكن طي صفحاتها ولو من خلال تعامله مع سينما المؤسسة. في صورة عامة لا يمكن تفضيل واحد على الآخر بالمطلق. وفي ما يخص هذين الفيلمين، فإن ألتمان بديع ورائع. فيلم كوبولا قصة في هاتين الصفتين. كلاهما كان يستحق ان يكون هناك بين الأفلام المرشحة عوضاً عما تختاره هوليوود ونقادها من أعمال لا تكتنز ما يساوي الجهد المبذول على صعيد الاخراج. الفرد والمؤسسة "صانع المطر" The Rain Maker ***** من خمسة يتبع قصة محام شاب مات دامون يدخل السلك القضائي حال تخرجه وان كانت المؤسسة التي ينضم اليها ليست هي النموذج الذي يتطلع اليه. بريء وساذج ومثالي على نقيض محامي روايات غريشام السابقين الأكثر خبرة وحنكة وفساداً أحياناً كما الحال مع بطل فيلم "رجل الكعك". وفي دقيقتين ونصف الدقيقة في بداية الفيلم يوجز كوبولا الذي كتب السيناريو بنفسه للمرة الأولى منذ كتب الجزء الثالث من "العراب" قبل تسع سنوات الفصول الستة الأولى من الرواية وينتقل به رأساً الى المهمة التي ستحتل الخط الأساسي للموضوع. بعد ذلك ينتقي مخرج "العراب" و"محادثة" و"سفر الرؤيا… الآن" الفواصل المهمة في رواية غريشام ذات التعرجات الميلودرامية ويركز على ما ينفع في صياغة فيلم حول الفرد العادي والمؤسسة. المحامي الشاب لديه قضيتان: واحدة لإمرأة عجوز تدعي بأنها تملك ملايين كثيرة تريد منه ان يتصرف فيها. وعائلة لديها ابن يعاني من حالة مرضية وشركة التأمين التي من المفترض بها ان تشرف على علاجه وتتمنع عن ذلك. المحاكمة تكشف ان شركة التأمين قررت التلاعب بعقدها على النحو الذي اعتقدت معه ان العائلة سوف لن تستطيع مقاضاتها. بفضل المحامي الشاب ومساعده دور رائع من داني ديفيتو تخسر الشركة القضية من دون ان تربحها العائلة. فالمحامي يواجه بنجاح محامي الشركة الأثرياء والأقوياء يقودهم الممثل الذي بات يتحرك آلياً جون فويت، ويظهر أمام لجنة تحكيم متعاطفة تلاعب الشركة ما ينتج عنه الحكم عليها بأكثر من عشرين مليون دولار. وعندها تعلن الشركة افلاسها وتخرج العائلة والمحامي معها من دون تعويض. قوة فيلم كوبولا ليست في منهجه النقدي فقط حيث تتبدى المواقف بوضوح ولا يكترث كذلك المخرج للعبة التوازنات التي عادة ما تقدم عليها هوليوود الأخرى. بل تكمن كذلك في المعالجة الهادئة والموحدة للعمل ككل. ليست هناك لحظات واهنة، ولا موقف يخفق في تسجيل أعلى النقاط الفنية الدقيقة إداء أو تصويراً أو ادارة. هذا أفضل فيلم لكوبولا منذ "برام ستوكرز دراكولا" في العام 1992. المحامي... بين بين! مثل "صانع المطر" فإن عنوان "رجل الكعك" The Gingerbread Man **** لا علاقة له بجانب مرئي من القصة. لا بطل الفيلم الأول يبتهل للسماء كي تمطر ولا بطل الثاني خباز في وقت فراغه، بل هو محامي وان كان أنضج من المحامي الذي استعرضناه وبالطبع أكبر سناً، يؤديه الممثل البريطاني كينيث براناه ويخرجه روبرت التمان. والاثنان فنانان منحا السينما عدداً كبيراً من الأعمال الجادة. لكن كون "رجل الكعك" فيلم تشويق بوليسي لا يعني انه ليس جاداً. "رجل الكعك" فيلم تشويق بوليسي حول محام غير نظيف لكنه ليس وسخاً تماماً يتورط ذات ليلة بعلاقة اعتقدها عابرة مع امرأة شكت ان والدها سرق سيارتها. في اليوم التالي تزوره في المكتب مدعية ان والدها هددها بالقتل. ومع انغماس المحامي في قضية لا يكتشف أبعادها الا لاحقاً يتبدى له مدى وحجم تلك الورطة التي باتت تهدد حياته وحياة ولديه من زواج سابق وذلك في سلسلة من الأحداث المتواصلة. هذا الفيلم مبني على القصة، على نقيض أفلام التمان. وآخر مرة اخرج ألتمان فيلماً من هذا النحو كان "بوباي" في العام 1980 الذي انتهى منسياً كما سيكون حال هذا الفيلم لكن "بوباي" و"رجل الكعك" أفضل تنفيذاً وصنعاً من أفلام فنية لألتمان: "اللاعب" 1992 كان رائعاً لكن "جاهز للقتل" 1994 كان كارثة. "فنسنت وليو" 1990 كان مثيراً للاهتمام لكن "كانساس سيتي" 1995 و"مختصرات" 1993 عانيا من مشاكل عدة. وهكذا نرى الأمر ينسحب متفاوتاً بين معظم أعماله المعتبرة فنية ومبنية على الشخصية. "رجل الكعك" ينتمي الى مجموعة صغيرة من أفلام ألتمان عرفت بجودتها الفنية العالية على رغم انها اقتنعت بوجوب سرد القصة أولاً وبأسلوب ينتمي الى التقليد المتبع حسب النوع. انه ينتمي مثلاً الى "بوباي"، أحد أفضل الأفلام التي تم اقتباسها عن شخصية كرتونية الى الىوم، وإلى "خماسي" 1979 مغامرة ألتمان الناجحة في المغامرة المستقبلية، وبالأخص الى أفضل فيلم له في السبعينات وهو "ماكاب ومسز ميلر" 1971. الساعة الثانية من "رجل الكعك" تحتوي على عاصفة هوجاء تهب على ميامي حيث تقع الأحداث، وقدرة ألتمان البارعة هي في حسن توظيف العاصفة على نحو يجعلك تعيش في داخلها وتبدو فيه المقابل الدرامي الحاد لتصاعد الأحداث وحدتها يكتشف المحامي انه ضحية خديعة بين المرأة أمبث دافيدز وزوجها السابق توم برنجر. ما يخفق الفيلم فيه هو ان الوصول الى كشف اللغز وحقيقة ما يدور سرعان ما يستولي على المحاولات جميعاً. الفيلم في نصف ساعته الأخيرة يبدو وكأنه أفلت من يدي صاحبه أو من يد أي شخص فيه يبقى مثيراً، لكن من يبحث عن ألتمان خلال تلك الفصول النهائية عليه ان يجده في أفلام أخرى. *: ضعيف، ** وسط، *** جيد، **** ممتاز، ***** تحفة.