تؤسس القصة القصيرة في سياقها الراهن لمنجز جمالي خاص، يتكئ في جوهره على التواصل لا الانقطاع عن مسارات القص الآنفة، مع الرغبة العارمة في إضفاء نَفَس خاص لا يكتفي بالقبض على الراهن المعيش أو الاشتباك معه فحسب، بل يؤنسن الاشياء، ويداعبها. ولعل المجموعة القصصية «رابعهم كلبهم» للقاص المصري الشاب هيثم خيري تعبر عن هذه الروح الوثابة التي يمتاز بها فن القصة الآن. في «رابعهم كلبهم» نحن أمام جملة من النصوص التي تدفع بالمخاوف الإنسانية إلى صدارة الحضور، جاعلة من الهواجس والارتباكات الحياتية مادة حكائية لها، تجد طريقها جمالياً عبر التقسيم الدال لشقّي المجموعة المركزيين: فوبيا، المتاهات، اللذين يتضافران معاً ليشكلا رؤية العالم في المجموعة. فعبرهما يحاول هيثم خيري أن يتلمس العصب العاري للأشياء، مشيراً إلى أن حياة شخوصه المركزيين توزعت ما بيع هلع قاتل (فوبيا) وتمزق شديد (متاهات). يخرج الكاتب بعنوان المجموعة «رابعهم كلبهم» من حيز الدلالة التراثية المستقرّة في الوجدان الجمعي، والمتعلقة بقصة أهل الكهف، إلى دلالة أخرى حياتية، حيث ثمة صبية يلعبون، يجرون كلبهم وراءهم، ويقررون الذهاب به إلى حافة النهر، ليجدوا هناك الخفير أبو بكر الذي يمسك بعصاه الغليظة مطارداً الأولاد، حتى ينحشر أحدهم (إدريس) – الشخصية المركزية – في إحدى المواسير الملقاة إلى جوار الشاطئ منذ زمن. وهكذا يكسر الكاتب أفق التوقع لدى المتلقي عبر هذا الخروج الدال من أفق الحادثة التراثية. يتشكل القسم الأول (فوبيا) من القصص الآتية: وليمة توت، نصف ليلة مظلمة، أصوات ليلية، رابعهم كلبهم، الست شانبو، في صحبة شمس الله، تحنين. وهذه القصص ترصد حالة الهلع التي تنتاب الشخوص جراء ملامستهم عالماً يحفه الخوف، وتبرز فيه حكايات الطفولة عن الجن والعفاريت، بصفتها محركة لعوالمهم، ومشكلة لها. في قصة «وليمة توت» يطل علينا السرد بضمير المخاطب، فيصير المروي عنه (الولد الذي يمسك بذيل جلباب أمه) مروياً له في الآن نفسه، حيث تمثل لحظة الفكاك من ذيل الجلباب تحولاً سردياً بالغ الدلالة. إنها اللحظة التي يهزم فيها الصغير خوفه، ليمارس ما انتواه، فيقذف شجرة التوت الكبيرة، وتتساقط الحبات. غير أن «الأم» سرعان ما تعود للإمساك به مهددة إياه بكل المفردات المخيفة للصغار: «تنهرك مجدداً وتحلف أنك إن لم تنجر أمامها ستتركك للفأر والكلب والحية والذئب والعفريت. مرغماً تعاود السير أمامها، غير أنك تحسد الفأر والكلب والحية والذئب والعفريت على أنهم سيأكلون التوت اللامع، من دون أن تشاركهم الوليمة». في «أصوات ليلية» يستبدل الكاتب سطوة العم ذات الطابع البطريركي بسطوة الكائنات الليلية المخيفة، لنصبح أمام حال من القمع الذي يُمارس ضد الذات الساردة، التي تحيا علاقة مرتبكة مع العالم: «عمي ينهرني أكثر من مرة، ينهرني لأنني أتعثر في حذاء أبي، الذي صممت على أن أنزل به. كلما تعثرت يصفعني، أبتعد عنه، أتعجب: أين ذهبت أصوات الليل، وحلت مكانها أصوات عمي الزاعقة؟». في «الست شانبو» يلتقط القاص سيدة مهمشة تحيا إلى جوار «المعدية»، التي تصير مكاناً واصلاً بين عالمين متمايزين، وعلى رغم ذلك، فإن (شلبية/ شانبو) لم تفكر في أن تبرح مكانها، مستعذبة العيش على الحافة. ينتقل الكاتب في قصته «في صحبة شمس الله» من الحكي عن ذكريات الطفولة ومخاوفها في البلدة الريفية إلى القاهرة بعوالمها المثيرة، محتفظاً بقدر عارم من البكارة التي تسم شخوصه، وتحدد زاوية نظرهم إلى الأشياء، وتصوراتهم عن العالم. في القسم الثاني من المجموعة «المتاهات»، ثمة حالة لزمن الاغتراب تسيطر على الشخوص. في قصة «ونس النار» يُصاب عمر - الشخصية المركزية - بالخَبَل، بعد أن انفصل عن محيطه الاجتماعي، ويعود إلى بلدته القديمة (بور سعيد) ليقسم وقته بين الثرثرة في المقاهي، ومشاهدة التلفاز، غير أن جنونه وبؤسه يصبحان مرتبطين ببؤس عام يتشارك فيه المجموع. ولذا فإن النار التي حرقت «مقهى المساطيل»، قد طاولت الكل، إلا أن عمر وحده استمتع بنشوة ونسها، لتنفتح هذه القصة على أفق تأويلي خصيب، ينطلق من سؤالها المركزي: هل ثمة «ونس» يمكن أن تمنحه «النار»؟ في قصة «ما نسيه القطار»، ثمة بطل مأزوم يعاني إحساساً عارماً بالاغتراب، يمارس حياته العادية بألفة شديدة، يحاول أن يجد فيها بعض الونس المفقود، أو أن تمثل له عوضاً عن المعاناة النفسية لحالة الوحدة القاسية التي يستشعرها. ويكفي أن أشير إلى أن استيقاف المروي عنه (البطل) شخصاً ما في الشارع ليسأله عن الوقت الذي لا يمثل له أي هاجس قدر ما يعنيه خلق حالة من التواصل الإنساني مع أي شخص حتى لو كان ماراً في طريق: «بعد حين تسأل رجلاً عن الساعة، يتوقف، يعرف أنك تسأله عن الوقت لمجرد الإحساس بالونس، تعرف أيضاً أنه يتمهل ويقف للشعور بالإحساس ذاته». في «حجرة صغيرة تفضي إلى النور» نرى مقطعين سرديين يقفان بين يدي القصة، مرويين بضمير الغائب، يمثل أولهما التقديم الدرامي للحكاية، ويمثل الآخر نهايتها، وما بين هذين المقطعين يوظف الكاتب ضمير المتكلم في حكيه، كاشفاً عن سرده «الجد نصف الحي» الذي يزوره «رجل ملائكي» صباح كل جمعة، إلى أن تحين ساعة وفاة الجد، فينسحب الرجل الملائكي ذو الرداء الأبيض وتبدأ ملامح المكان في التغير. في «بانتظار الفرج» تظهر عوالم المدينة المكسوة بطابع شعبي، حيث العلاقات الاجتماعية المباشرة بين الأفراد، ومن ثم فلا اغتراب هنا، ولكن ثمة عَوَز يبدو بارزاًَ من خلال شخصية «أبو دنيا» الذي يلعن حظه العاثر بأن أسكنه هذه الحارة البائسة. غير أنه سرعان ما يتواءم مع واقعه عبر الانغماس في المجموع. واللافت في هذه القصة هو التوظيف الدال للعامية في ثنايا الحوار وبما يعمق من الرؤية السردية ويتممها. تتشكل قصة «ملاعيب نعيم عبد المسيح» من أربعة مقاطع مرقمة، يسبقها مقطع غير مرقم، يصلح لأن يكون تقديماً درامياً للحكاية. ففيه نطل على عالم القصة وشخصيتها المركزية (نعيم)، المتسم بالفطنة والذكاء الشديدين، والراغب في أن يصبح والده مسؤولاً عن الجمعية الزراعية في (قليوب) بدلاً من الحاج سعيد الشيمي - الانتهازي الكبير – لنصبح أمام جماعة بشرية تتصارع على جملة من المصالح الاقتصادية، متكئة في صراعها على مرجعيات طبقية تعد أساساً للصراع. وثمة في «رابعهم كلبهم» كتابة حقيقية، وثمة قاص شاب موهوب، يمثل رهاناً واعداً من رهانات القصة المصرية في أفقها المستقبلي وحركتها الدينامية التي بدت واعية بماهية هذا النوع وخصوصيته، ساعية لإحداث تراكم يضاف إلى المنجز الجمالي السابق، حيث أتى هيثم خيري مع آخرين من كتاب القصة في جيله ليمثلوا وبجدارة نفساً مغايراً داخل السياق القصصي الراهن.