} تحدثت الحلقة الأولى عن بدايات الوعي التاريخي وصلة السيرة النبوية بالوقائع الأولى للتاريخ الإسلامي. وهنا الحلقة الثانية. يملك سيف بن عمر صورةً لعصر الراشدين، تذكِّر برؤية أصحاب الحديث وأهل السنة في ما بعد" ذلك أنّ أهل السنة أيام المهدي وهارون الرشيد 159-193 ه، القترة التي كتب فيها سيف بن عمر، ما كانوا تحولوا إلى فرقة. وملخَّص هذه الرؤية الكفُّ عما شجر بين الصحابة، واعتبارهم جميعاً عدولاً، وافتراض التوبة في حقّ من لا تُعرفُ له توبةً منهم. وهو يضعُ في خدمة هذا الهدف مفاهيم مثل الجماعة، والاعتزال، والشورى" وينسبها إلى عصر الصحابة على رغم أنَّ الراجح أنها لم يُستخدم إلاّ في النصف الثاني من العصر الأموي. فالغالبُ على أبناء عصر الراشدين خير القرون السلامةُ والورعُ وحُسْنُ النية والمقصد، والاختلافاتُ عارضةٌ، والشرُّ الحقيقي غائبٌ عن وعي الجمهور وممارساته" ولذلك فإنَّ عبداللّه بن سبأ الشرير الحقيقي يقع في أصل الأحداث وليس مسلماً حقاً، وربما كان غير عربيٍّ أيضاً. ولا يبلُغُ به الحرصُ على تلك الصورة درجة أو حَدّ اختلاقِ أحداثٍ أو شخصياتٍ كما ذكر بعض الدارسين، لكنه يُسقط ويختارُ ويوجِّهُ" من مثل تحويل شعرٍ ضد عائشة إلى شعرٍ ضدّ عمّار بن ياسر 18، ومن مثل قول علي في أصحاب عائشة: لن ينهزموا، بل يُستشهدون أو ينتصرون 19. ومن مثل إبراز فضل أهل الشام في الغزو والمرابطة والطاعة والجماعة. ومن مثل إعطاء بعض أبناء قبيلته مثل الأحنف بن قيس أو القعقاع بن عمرو أدواراً أكبر مما كان لهم في الواقع" لكنها أدوارٌ تصالحيةٌ مناهضة للفتنة، وداعيةٌ للجماعة مع عثمان ومع علي. وهو يستخدم القرآن والشعر كثيراً، ويتجنب العناصر الميتافيزيقية في الكتابة التاريخية، وفي تعليل الأحداث ووجوه السلوك. وهو يملكُ مثالاً للأمة ومصالحها يتجاوز القبيلة والحدث المباشر" من دون أن يعني ذلك أنَّ العوامل الجانبية والمحلية لا تلعبُ دوراً لديه. وهو من هذه النواحي كلّها متجاوزٌ لرؤى أصحاب القصص. فأهمُّ إنجازات أجيال الأخباريين البدء بالتركيب المترابط في تصوير الأحداث، وأدوار الشخصيات، وتطورات الأمور. فالكتب والرسائل القليلة التي وصلت إلينا تتّسم بقدر معقولٍ من التماسك، والترتيب العقلاني من أجل القدرة على رسم صورةٍ معينةٍ لحدثٍ أو شخصية. وهذا التركيب للحدث، ظهرت ميزاته في ما بعد في الكتابة التاريخية الشاملة على أيدي أمثال الطبري والبلاذري والمسعودي والدينوري. كانت صُوَر الأخباريين، وتقاريرهم المركَّبة عن الأحداث إذاً هي التي شكّلت المادّة التي استند إليها المؤرخون في القرن الثالث وما بعد. بيد أنّ أعمال أولئك المؤرخين تتضمن أو تنشر رؤيةً أو فكرةً أو لاهوتاً للتاريخ، لا يمكن أن يكون نتاجاً مطوَّراً للمادة التي أنتجها الاخباريون أو أصحاب الأخبار. وقد شدّد الاستاذ الدوري، والآن طريف الخالدي 20، على اهمية ظهور الاسانيد في القرن الثاني الهجري ليس لنقل الخبر وحسْب، بل ولإثبات صحته. لكنّ ذلك يلقي ضوءاً على تطور تقنيات الكتابة التاريخية، وليس على ظهور فكرة التاريخ لدى العرب والمسلمين. لقد عنت الاستراتيجيا الإسنادية الانطلاق من إنجاز تركيب الخبر الذي حقّقه الأخباريون، إلى ربط الأخبار ببعضها بعضاً مضياً نحو الصورة التاريخية التي تعكس عبر رواياتٍ أطيافاً وانطباعات متنوعةً تُثري، وتوضح دور صاحب الخبر، وفي الحالين: حال كتب الحوليات الطبري والدينوري، وحال الكتب التي اتبعت مبدأ تنظيمياً آخر كالأُسَر والبطون البلاذري، أو تواريخ الأمم اليعقوبي، وحمزة الأصفهاني، أو الطبقات محمد بن سعد، وخليفة بن خياط. التاريخ ليس خبراً وإلاّ لما كان له معنىً خارجه. هو عند الطبري خبرٌ عن ظهور الأمة في الزمان، وهو عند أبي الفداء خبر عن البشر، وعند ابن خلدون خبر عن العمران، يبقى الخبر خبراً حتى تكون له متعلّقات وسياق، ويكون ذلك ضرورياً لإسباغ المعنى، ووضع الذات والمشروع في مجرى التاريخ. ولهذا كان مهماً في حال الأخباريين السؤال عن الحقيقة والنزاهة لأنّ معنى الخبر فيه وليس خارجه" بينما السؤال في حال الطبري أو المسعودي أو البلاذري يتناول الفلسفة والرؤية والمشروع" ولذا يتجاوز التاريخ مادته الخبرية. IV لاحظ دارسون عدة في العقدين الأخيرين الطابع الملحمي والنشوري الذي يسودُ في كثيرٍ من السُور المكية أو الآيات التي نعرفُ من مرويات "أسباب النزول" أنها أُنزلت في حقبةِ النبوة الأولى. فاتجه بعضهم للقول إنّ في ذلك دلالات على طبيعة النبوة، وشخصية النبي صلى الله عليه وسلّم، وأنَّ هناك تحولاً في ما بين العهدين المكي والمدني 21. لكنّ البعض الآخر عُني بدلالات الروح السائد في السور المكية على طبيعة الإسلام، وطبيعة الجماعة الأولى، باعتبارها جماعةً دينيةً تقوية 22. وفات هؤلاء جميعاً أنّ القرآن الكريم الذي يشدّد على حَدَث القيامة والبعث والنشور، وأهمية راهنيته في حياة المؤمنين، هو الذي يتحدث وفي العهدين المكي والمدني عن الاستخلاف والعهد والوعد والإظهار والشهادة - وكلُّها مفرداتٌ وتعابير تتعلق بالأمة ومصائرها ومهماتها في العالم، وتكليف اللّه سبحانه وتعالى لها، ورعايته وعنايته ومحاسبته، في نطاق ذلك التكليف، وتلك الشهادة 23. ونشهدُ لدى الأخباريين بعضاً من هذه الرؤية القرآنية مستوعَبةً في تضاعيف الأخبار أو ما يوردونه من دوافع وإراداتٍ وراء الأحداث والتصرفات في حقبة الفتوحات، والعصر الأموي 24. أما الرؤية الكاملة لهذا المعنى اللاهوتي والمهدوي للتاريخ وفكرته، فنجدُها أولَ ما نجدها في كتب السيرة النبوية. فسيرة النبي صلى الله عليه وسلّم ومنذ ابن إسحاق، بل وربما منذ الزهري، تتكون من ثلاثة أجزاء: المبتدأ، والمبعث، والمغازي. ويتضمن جزءُ المبتدأ أخبار الأُمم الغابرة، وسلوك بني إسرائيل إزاء أنبيائهم وملوكهم الذين كانوا أنبياء. أما المبعث فيقصُّ أخبار النبي صلى الله عليه وسلّم في تأصُّله الإبراهيمي، وبيئاته العربية، ووراثته للتقاليد الإبراهيمية والكتابية عبر اصطفاء اللّه له، واصطفاء أمته، باعتباره هو آخِر الأنبياء، وأمته آخِر الأمم. ثم يأتي جزء المغازي ليقُصَّ علينا أخبار قيادة الرسول صلى الله عليه وسلّم للأمة في تأسيس الجماعة التي تقع على عاتقها مهمات الدعوة والتبليغ والخلافة والظهور والشهادة 25. هكذا يتلاقى في الرسول صلى الله عليه وسلّم وأمته خطان. أما الأول فهو خطُّ النبوة، وأما الثاني فهو خطُّ المُلْك. فقد أورث اللّه المسلمين النبوة التي كانت في بني إسرائيل لخروجهم على مقتضياتها. كما ورث المسلمون بالنبوة أيضاً المُلْكَ عن الروم والفرس وغيرهم لطغيانهم في ممارسة السلطة، وتجاهلهم لحقوق اللّه والعباد" وبذلك اجتمع وتوحد فيهم الدينُ والمُلك، للمرة الأولى في رؤية المسلمين المبكرة لمسار العالم، وموقعهم ودورهم فيه. ولذا تبدأ كتب السيرة النبوية، ثم كتب التاريخ الشامل، بمقدماتٍ طويلةٍ عن الأُمم الغابرة، ومسالكها مع أنبيائها، وصولاً للقول إنّ اللّه استبدل بهم غيرهم وهم العرب والمسلمون الذين يكون عليهم إن يحفظوا في هيمنتهم على الأديان والعوالم، حقوق اللّه والعباد. فالأمة عالميةٌ في الوظيفة والانتشار" وتاريخ الأمة في استخلافها وتحقّقها تاريخٌ عالمي. وأحسبُ أنه من أجل ذلك جرى الربط تدريجاً بين أعمال الأخباريين، وأعمال كتّاب السيرة. فنحن نعرفُ منذ محمد بن سعد وخليفة بن خياط أنّ السيرة النبوية صارت توضَعُ في بدايات كُتُب التاريخ، إشعاراً بأنّ قيام الأمة وظهور الدين والدولة" إنما كانا بإرادةٍ إلهيةٍ، ولغاياتٍ ومقاصد حدَّدها القرآن وأطلقت امكانات تحققها تجربة الرسول صلى الله عليه وسلّم. وإذا كان حدثُ الفتنة الكبرى، ثم قيام الدولة الأموية بالطريقة التي قامت بها، يلقيان ظلالاً غير مُشْرقةٍ على امكانات الظهور والاستمرار" فإنّ هناك ثلاثة محدِّدات تجعلُ من ذلك البناء قادراً على البقاء والإيحاء وإلهام المؤرخين" حدثُ النبوة الذي تتجدد حياته وحيويته بالتلاوة الشعائرية لأحدث الكتب عهداً باللّه عزَّ وجلّ. وحَدَثُ الفتوحات الكبرى التي أَثبتت بما لا يَدَعُ مجالاً للشكّ أنّ الوعدَ بالتمكين قائمٌ ومتحققٌ ومستمر. وحدثُ الدولة، التي إن أفسدت الفتنة ترتيباتها الراشدية" فإنّ المعاني الكبرى للخلافة والاستخلاف والهداية لا تزالُ حاضرةً فيها، ولدى بني العباس أكثر مما لدى بني أمية. وفائدة هذا الإدراك للتاريخ، باعتباره تاريخاً قُدْسياً لأنه وقائعُ حياة أمة الإجابة في مساعيها الحثيثة للتطابق مع أمة الدعوة، انه يعلّل النكسات والفِتَن ووجوه القصور والفساد في السلطة والمجتمع، باعتبار ذلك كلِّه اختباراً وامتحاناً من جانب اللّه سبحانه وتعالى للمسلمين: هل يصبرون أم يجزعون، وهل يبقون على العهد أم يتخاذلون فيُستبدل بهم غيرهم. وبذلك تدخُلُ الفِتَنُ والملاحم بجانبها النشوري والخبري في مادة التاريخ كما في فكرته: الأخباريون يروون وقائعها الدموية، وكُتّابُ الملاحم يقرأون معناها في خطة اللّه سبحانه للعالم وللمسلمين بدءاً ونهاية. إنّ ما أودُّ الانتهاءَ إليه بعد هذه الدراسة الموجزة أنّ الكتابة التاريخية الإسلامية كما نعرفُها لدى المؤرخين الكبار بعد القرن الثالث الهجري، هي نتاجُ تقليدين اثنين، وليس تقليداً واحداً: التقليد الأول: تقليد السيرة النبوية، الذي كان وراء لاهوت التاريخ أو فكرته - وتقليد الأخباريين الذين طوَّروا آلياتٍ لصوغ الخبر ونقله، لينضوي منذ القرن الثالث تحت عباءة أصحاب رؤية التاريخ العالمي من كبار المؤرخين المسلمين. ومع ذلك فإني إرى أنّ هذين التقليدين لم يتطابقا، بل ظل التوتر بينهما قائماً، بمعنى أنّ الأخبار في تحولها من حكايةٍ أو قصةٍ إلى تقارير ذات أسانيد تحت تأثير علم الحدث، أفادت المؤرّخ المنظِّر عندما ربطته بالأرض والواقع، لكنها من ناحيةٍ أخرى عجزت عن استيعاب النزوعين المميِّزين للأمة المفتوحة والخلافة: نزوع التحقق المستمر، والنزوع المسياني الذي يهب التاريخ غائيته وبالتالي معناه. هناك من جهةٍ الحَدَث المتحوِّل إلى خبر، والخاضعُ لتحولات النقد والصورة والكون والفساد. وفي عالمه يستند المتنُ إلى سند، والسند إلى عُرفٍ وسنةٍ وتقليدٍ وعبارةٍ ومصطلح. وهناك من جهةٍ ثانيةٍ الزمان، زمان النبوة والأمة والشهادة: يبدو الخبر فيه لأول وهلةٍ مادةً شاهدةً على التحقُّق. فإذا خالطته كوائنُ الكون والفساد، صار عُرضةً للتأويل وإعادة التأويل، وعادت المسائلُ لتدورَ في الوعي، وليس في الواقعة والحَدَث. تُنجزُ الأمةُ ما يصدّق أطروحتَها ورسالتَها فتضيق المسافةُ بين الخبر والتاريخ. ويحدُثُ ما يعرقلُ انسيابية الأمة في التاريخ فتتسع المسافة، وتزداد شسوعاً، ويبرزُ نموذجُ السلف الصالح، وزمن النبوة، وأفق التحقق في عصر الراشدين. ففكرةُ التاريخ تعني تَتَبُّع تحقّقِ الأمة في الزمان. لكنّ الوعي المعنيّ بهذا التتبُّع هو الذي يدفع لهذا التتبع، بل هو الذي يهبُهُ معناه. والوعي التاريخي أو الوعي بالتاريخ في الإسلام الأول آتٍ من صورة الأمة عن نفسها ورسالتها ودورها، كما ذكر ذلك نصها المقدس، وأثبتته تجربتها الأولى. * كاتب لبناني. الحواشي 18 سيف بن عمر، الردة والفتوح، ص 328. 19 الردة والفتوح، ص 319. 20 الدوري: علم التاريخ، مرجع سابق، ص 125، وطريف الخالدي: فكرة التاريخ عند العرب، من الكتاب الى المقدمة، دار النهار، بيروت 1997، ص 39 - 77. 21 استعرض F. Donner هذه التوجهات وتاريخها ونتائجها في: Fred Donner, Narratives of Islamic Origins. The Beginnings of Islamic Historical Writing. 1998.PP.16-25,35-40. 22 F. Donner, oP. cit. 64-97, 276-282. 23 قارن برضوان السيد: رؤية الخلافة وبنية الدولة في الاسلام" في كتابي: الجماعة والمجتمع والدولة، مرجع سابق، ص 23 - 26، 82 - 93. 24 أوردتُ شواهد كثيرة على هذه "الرؤية" من حقبة الفتوحات، وأيام الأمويين" قارن بكتابي السالف الذكر، ص 23 - 25. 25 قارن عن السيرة النبوية وكتّابها الأوائل وفي طليعتهم الزهري وابن اسحاق" الدوري: علم التاريخ، مرجع سابق، ص 61 - 102، 27 - 31. ويوسف هوروفيتس: المغازي الأولى ومؤلفوها، ترجمة حسين نصار. مصر، 1949 - وطريف الخالدي: فكرة التاريخ، مرجع سابق، ص 60 - 66 بيد أن الخالدي يعتبر السيرة تطوراً عن الحديث، وهذا غير صحيح - وسلوى مرسي الطاهر: أول سيرة في الإسلام، عروة بن الزبير بن العوام، المؤسسة العربية، بيروت 1995. وهناك مؤلَّف وصفيّ لفاروق حمادة: مصادر السيرة النبوية وتقويمها، دار الثقافة بالمغرب، 1989، ص 71 - 76.