القبض على شخصين في تبوك لترويجهما الحشيش و(9000) قرص "إمفيتامين"    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    استقالة مارتينو مدرب إنتر ميامي بعد توديع تصفيات الدوري الأمريكي    6 فرق تتنافس على لقب بطل "نهائي الرياض"    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    الهلال يفقد خدمات مالكوم امام الخليج    دوري روشن: التعادل الايجابي يحسم مواجهة الشباب والاخدود    منتدى المحتوى المحلي يختتم أعمال اليوم الثاني بتوقيع 19 اتفاقية وإطلاق 5 برامج    «الصحة الفلسطينية» : جميع مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل    المملكة توزع 530 قسيمة شرائية في عدة مناطق بجمهورية لبنان    اعتماد معاهدة الرياض لقانون التصاميم    انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    «الأنسنة» في تطوير الرياض رؤية حضارية    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    فعل لا رد فعل    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بحائل يفعّل مبادرة "الموظف الصغير" احتفالاً بيوم الطفل العالمي    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الخبر الى التاريخ . فكرة التاريخ والكتابة التاريخية العربية 1 من 2
نشر في الحياة يوم 02 - 06 - 2000

اصطلح كتّاب التاريخ الإسلامي قديماً وحديثاً على تسمية فئة من رواة وكتبة التاريخ بالأخباريين أو أصحاب الأخبار أو الأحداث. والتسمية دقيقة، بمعنى أنّ رجالات تلك الفئة كانوا يدوّنون أخباراً ومرويات عن أحداث معينة في تاريخ الإسلام الأول، والعصر الأموي، ويصدرونها في صيغ كتب ورسائل، ما كانت تتجاوز الأجزاء العشرة في غالب الأحيان. تمتد حقبة أولئك الإخباريين من الربع الأول من القرن الثاني الهجري وحتى الربع الأول من القرن الثالث أي بين الربع الأول من القرن الثامن الميلادي والربع الأول من القرن التاسع. من هؤلاء أبو مخنف، وعوانة بن الحكم، وسيف بن عمر، ونصر بن مُزاحم، وأبو اليقظان، والكلبيان محمد بن السائب وابنه هشام، والواقدي وكاتبه محمد بن سعد، والثقفي، والهيثم بن عدي، والمدائني1.
وتكمن أهمية أصحاب الأخبار هؤلاء في أنهم شكّلوا مرحلة وسطى بين أصحاب القصص، ورواة أيام العرب والأنساب، القَصَص الديني، من جهة، والمؤرخين الكبار في القرنين الثالث والرابع، من أمثال البلاذُري والدينَوَري واليعقوبي والطبري والمسعودي، من جهة أخرى.
ويعني ذلك أن المادة التاريخية - وليس الرؤية - التي نقرؤها لدى الطبري والبلاذُري خصوصاً، مستمدة بنسبة ثمانين في المئة من رسائل الاخباريين ومدوناتهم. لكن على رغم أن أكثر الأمور كانت تدوّن، كما أثبتت الدراسات الحديثة والمعاصرة2، فإن أكثر تلك المدونات والرسائل ضاعت ولم تصل إلينا مباشرة، إذ لا نعرف غير عناوينها، والمقتبسات الواردة لدى مؤرخي القرنين الثالث والرابع عنها. فأبو مخنف لوط بن يحيى 157ه/774م الذي تشكّل رسائله ومروياته عن صدر الإسلام والفتوح وحقبة الفتنة والعصر الأموي، مادة رئيسية، نحن مضطرون للاعتماد على الطبري في تبين معالمها.
وكذلك بالنسبة لغالبية أصحاب الأخبار الآخرين حتى المكثرين منهم مثل هشام ابن الكلبي3 204ه/819م الذي لم يبق من كتبه غير كتابه في النسب، وكتابه في الخيل، وكتابه في الأصنام، رغم أنه ألّف زهاء المائتي رسالة وكتاب، والمدائني 225ه/839م الذي ترك حوالى الثلاثمائة عنوان، وصلنا منها عنوانان أو ثلاثة4.
ولكي يكون واضحاً ما أقصده بعسر استكشاف صورتهم التاريخية من خلال المقتبسات المتأخرة عنهم أورد على سبيل المثال أسماء بعض كتبهم وعناوينها نقلاً عن كتاب "الفهرست" لابن النديم، والمصائر التي آلت إليها تلك المدونات في اقتباسات المؤرخين اللاحقين.
فلأبي مخنف لوط بن يحيى مثلاً عشرات الرسائل من بينها: كتاب الردة، وكتاب فتوح الشام، وكتاب فتوح العراق، وكتاب الجمل، وكتاب صفين، وكتاب حديث الأزارقة، وكتاب دير الجماجم... الخ5. بين أن البلاذري الذي أخذ عن أبي مخنف كثيراً ولا شك مثلاً في كتابيه أنساب الأشراف، وفتوح البلدان، لا يذكر مصادر رواياته أحياناً، أو يذكر أبا مخنف مع غيره بحيث لا ندري ماذا أخذ عن أبي مخنف، وماذا استمد من الأخباريين الآخرين.
أما الطبري الذي يذكر دائماً مصادره وأسانيده إليها، فإنه لا يذكر عناوين الكتب التي أخذ منها، بحيث يعسر تبين عن أي كتاب من كتب أبي مخنف نقل، ثم ماذا اقتبس وماذا ترك. فأبو مخنف كتب - حسب إيراد ابن النديم - كتابين أو رسالتين عن ابن الأشعث وثورته على الحجاج والأمويين بين عامي 82 و84ه، هما: كتاب حديث باخَمْري ومقتل ابن الأشعث، وكتاب دير الجماجم وخلع ابن الأشعث6. ولا يقصّر الطبري في التفاصيل عن الموقعتين بباخمري ودير الجماجم، لكنه لا يميز بين الكتابين في النقل، والأصلان ليسا موجودين لدينا لكي نعرف ماذا نقل الطبري وماذا ترك، وما مصدره بالتحديد في تلك النقول والاقتباسات حول ثورة ابن الأشعث وغيرها كثير.
تعددت الآراء والكشوف عن بدايات الكتابة والتدوين في الحقبة الإسلامية الأولى، في العقود الأخيرة.
على رغم كثرة المشككين والمراجعين الجذريين" نستطيع التقرير الآن أن التدوين المنتظم بدأ في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، أي الربع الأخير من القرن السابع الميلادي.
وبذلك يمكن القول إن القصص التاريخي، والقصص الديني كان يدوّن أيضاً. بيد أن أدوات التدوين ووسائله كانت معرضة للتلف العُسُب واللخاف والأكتاف، أو نادرة الرقوق وأوراق البردي لغير الذين يملكون الإمكانات لذلك من رجالات الدولة.
وظل الأمر على هذا النحو حتى عرف المسلمون صناعة الورق الذي سمّوه الكاغذ من الصينيين في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي" فانتشر الورق في القرن التاسع وأقيمت مصانع له في مدن الإسلام الكبرى، أفاد منها المؤرخون ورجالات العلوم الإسلامية الأخرى، ولم يفد منها الأخباريون كثيراً إذ كانت حقبتهم انقضت، وطرائقهم في الكتابة قد جرى تجاوزها.
لكن كما وصل إلينا بشيء من حسن الطالع كتاب "الخيل" لابن الكلبي، و"المغازي" للواقدي -207ه/823م، و"الخراج" لأبي يوسف 184ه/800م، وكتاب "صفين" لنصر بن مزاحم 212ه/827م، جرى الكشف قبل ست سنوات عن كتابين لسيف بن عمر الضبيّ 180ه/796م، قرين أبي مخنف في اعتماد الطبري عليه في أحداث الردة والفتوح ومقتل عثمان وصراع علي مع خصومه من قريش والخوارج.
والكتابان هما: الردة والفتوح، وكتاب الجمل ومسير عائشة وعلي. وصلت المخطوطتان في نسخة متأخرة ناقصة، لكنها منقولة عن أصل يعود للقرن الرابع7.
ويتناول النقص في كتاب الردة والفتوح كل أحداث الردة وأخبار الفتوح في عهد عمر، وبذلك لا يبقى منه غير الأخبار المتعلقة بالسنتين الأخيرتين من خلافة عمر، والأحداث المحيطة بمقتل عثمان.
أما كتاب الجمل ومسير عائشة وعلي فناقص من آخره صفحات ليست بالكثيرة في ما يبدو.
أما المؤلف سيف بن عمر فلا نعرف عنه شيئاً تقريباً. يقول ابن النديم8: "سيف بن عمر التميمي. أحد أصحاب السيَر والأحداث. وله من الكتب: كتاب الفتوح الكبير والردة، كتاب الجمل ومسير عائشة وعلي.
وروى عن سيف شعيب بن ابراهيم". استوعب الطبري أجزاء واسعة من كتابي سيف وكتب أبي مخنف على الخصوص في ما يتعلق بصدر الإسلام وأخبار الفتنة.
لكن المؤرخين المحدثين قدموا منذ البداية أبا مخنف على سيف لما ذكروه من ولاء سيف بن عمر لقبيلته وتقاليدها، ولرجالات السلطة الأمويين والعباسيين.
بدأ هذا التقلد يوليوس فلهاوزن في رسالته: "رؤى عامة ومشروعات أبحاث"، ثم تتابع على ذلك اللاحقون وصولاً لمرتضى العسكري ومحمد عبدالحي شعبان9.
بدأتُ دراستي لسيف بن عمر بمقتل عثمان في آخر كتاب الردة والفتوح، ثم ركّزتُ على كتاب الجمل ومسير عائشة وعلي، لأن غالبية الكتاب وصلت إلينا. وأردتُ من وراء قراءة روايات سيف عن أحداث الفتنة ومقتل عثمان، وبيعة علي وخروج القرشيين والمحكِّمة عليه، تبيُّن كيفية تحول الأحداث والوقائع والمرويات الى أخبار وصُوَر عند سيف كما عند الأخباريين الآخرين في القرن الثاني الهجري. ثم الانتقال لقراءة موجزة للتاريخ باعتباره فكرة ورؤية ومساراً مهدوياً لدى البلاذري والطبري والدينوَري وحمزة الأصفهاني وسائر كتّاب التاريخ العالمي أو كما يسمّونه هم تاريخ الأمم والملوك أو الرسل والملوك أو الأنبياء والأمم.
اخترتُ من كتابي سيف المذكورين سابقاً من أجل الدراسة والفحص ثلاثة أجزاء مهمة" الأول مقتل عثمان، والثاني البيعة لعلي، والثالث سلوك علي إزاء المقاتلين من خصومه المنهزمين بعد وقعة الجمل بالبصرة. أما في جزء مقتل عثمان" فقد أورد سيف بن عمر زهاء الاثنين والأربعين خبراً، يتراوح طول الواحد منها بين السطرين والصفحتين10. واقتبس الطبري منها تسعة وعشرين خبراً دونما خيار ظاهر المنزع11. والصورة المتكونة عن عثمان لدى سيف بن عمر أنه كان شخصية ورعة، شديدة الهم لأمر المسلمين، بالغة الرأفة والرعاية لهم. أما قتَلتُهُ فكانوا من أسقاط الناس وهوجائهم، تحركهم دوافع الثأر لما نابهم من عثمان نتيجة جرائم ارتكبوها، أو حب الدنيا والتسلّط. وقد كان بوسع عثمان - في نظر سيف على الأقل - أن يئدَ الفتنةَ في مهدها" لكنه كان مسالماً كارهاً لسفك الدم، والتعرض لحُرُمات الناس.
أما الشخصيات الرئيسية المشاركة في تلك الأحداث من مثل علي وطلحة والزبير وعائشة ومعاوية وعمرو بن العاص" فإن سيفاً شديد الحَذَر تجاه علي وعائشة بالذات. فمن المعروف من روايات أبي مخنف وغيره أن عائشة كانت من المحرّضين على عثمان، وهو ما لا يبدو في روايات سيف حول مقتله.
ويورد سيف روايات متعددة في تبرؤ علي من دم عثمان، كما يسكت في الأعمّ الأغلب عما تذكره مصادرُ أخرى من يأس عليّ من إمكان إصلاح عثمان، وتركه وشأنَهُ. كما أنه يتجاهل تماماً المرويات التي تذكر تحريض علي على عثمان، أو سكوته عن ثوَران المقرّبين منه مثل محمد بن أبي بكر وعمّار والأشتر النخعي على عثمان. ولا يحتاط سيف كثيراً في رواياته عن عمرو بن العاص وطلحة والزبير. أمّا عمرو فيرى سيف - من خلال الروايات التي يوردُها - أنه كان ساخطاً على عثمان لعزله عن مصر، وأنه ما كان شديد الحرص على بقائه في سدة السلطة. في حين يصور سلوك طلحة والزبير باعتباره سلوك طامحين في الوصول الى الخلافة بأي سبيل، دونما تفكير كثير في مصير عثمان. أما معاوية - عند سيف - فهو شخصية شديدة الكفاءة، بالغة الحرص على عثمان، وهو مهيب الجانب في أوساط كبار الصحابة، الذين ما كانوا يحسبون حساباً لغيره بين أعوان عثمان ومساعديه. وإذا بدا من ذلك كله أنه ما كان هناك سبب يوجب زحف المصريين والبصريين والكوفيين الى المدينة لمحاصرة عثمان ثم قتله، فإن سيفاً يعتبر عبدالله بن سبأ ابن السوداء، نذير الشؤم والخراب مسؤولاً رئيسياً عن التحريض على الفساد والإفساد12. فهو الذي أثار البصريين والكوفيين أولاً، ثم مضى الى مصر فحرّك الأحداث كلها باتجاه قتل عثمان أو إرغامه على التنازل عن السلطة.
فمن بين المتحركين جميعاً كان هو الوحيد - في نظر سيف أو الذين يروي عنهم - الذي يملك هدفاً محدداً: إيصال علي الى السلطة، ويملك رؤية للوسيلة لذلك: إثارة الناس على عثمان لحقد قديم عنده عليه.
وقد أخذ باحثون كثيرون على سيف بن عمر13 اختراعه لهذه الشخصية الغامضة، وإعطاءها هذا الدور الكبير، وبخاصة أننا لا نعرف عنه شيئاً بعد مقتل عثمان، بمعنى أنه عندما حدث الفراغ في السلطة بعد القتل واستمرت الفوضى خمسة أيام، سيطر فيها الغافقيُّ بن حرب رئيسُ الثائرين المصريين على المدينة، في تلك الأيام الحاسمة التي أذهلت خلالها الصدمة الناس" ما صدرت عن عبدالله بن سبأ أية إشارة معشرة بالعمل لصالح مرشحة علي" بل إنه ما كان وقتها بالمدينة، وبالتالي ما كان بوسعه أن يعرف بالإنجاز الذي حققه أولئك الذين حرّكهم.
بيد أن المشكلة في هذه الصورة عن سيف ونموذجه الشرير" أننا نعلم الآن أنه لم ينفرد بها، بل شاركه في الحديث عن دور ابن سبأ وحركته أخباريون آخرون ذوو ميول متباينة، وإن لم يعطوها الدور الكبير الذي أعطاه هو لها.
أما النموذج الثاني، نموذج البيعة لعلي، فإن سيف بن عمر يورد فيه أربع عشرة رواية يسودها الاضطراب والافتقار الى الرؤية الموجهة التي حكمت مساره في مقتل عثمان14.
فالذين قتلوا عثمان ما سارعوا الى علي لبيعته وحمْل الناس على ذلك" بل عرضوا الخلافة على عدد من الصحابة بينهم عليّ فلم يستجيبوا. حتى إذا يئسوا من الحصول على مرشح مسارع للقبول عادوا لأهل المدينة، أهل المدينة الذين كانوا قد استلبوا منهم القرار لعدة أشهر.
و"جمهور" أهل المدينة هكذا، اختار علياً الذي قبل بعد إباء شديد. وبعد قبول علي تعود السبيئة لدى سيف للظهور، نعم السبيئة وليس ابن سبأ نفسه. فقد سُرّ هؤلاء لمبايعة علي، واعتبروا الأمر كله إنفاذاً لخطتهم السرية" مما أزعج علياً واعتبره تصفيقاً من الجهة الغلط.
فلماذا سلك سيف هذا المسلك، وبخاصة أن مرويات الطبري عن الأخباريين الآخرين، تبني صورة مختلفة في كثير من التفاصيل عما يرد عند سيف؟! هل فعل ذلك لمزيد من الحط على الثوار، فاقدي الهدف والثائرين من أجل الثورة وحسب؟ ثم ما معنى العودة الى "الجمهور": هل للتقليل من شأن أولئك الذين بادروا الى مبايعة علي باعتبار أنهم ليسوا من أهل "الحل والعقد"؟ إن رأي سيف في "الجمهور" خلال كتابيه ليس سلبياً في كلّ الأحوال" وبخاصة أن عدداً من كبار الصحابة كانوا بينهم، وقد أقبلوا على البيعة بعد أن رفضوا ولاية الأمر بأنفسهم. على أن هذا ليس كل شيء.
فرغم توقف علي عن القبول لمدة خمسة أيام، ورغم الإجماع عليه في النهاية" فإن عبدالله ابن عباس ابن عم الخليفة الجديد، لم يكن راضياً عن الأسلوب الذي اتبعه علي.
كان يريده أن يغادر المدينة قبل مقتل عثمان أو بعده مباشرة، ويريد منه - بحسب مرويات سيف بن عمر - أن لا يقبل إلا بعد أن تزدحم العرب والناس على أفواه الشِعْب الذي يكون قد اعتزل فيه بمكة أو غيرها! لكن على رغم الأسئلة الكثيرة فقد يكون الإيجاز المخل لدى سيف بن عمر هنا، مردّه الى أنه مدخل وحسب، لموضوع الكتاب الذي هو بصدده: الحديث عن وقعة الجمل، والتقديم لذلك بمسار الأحداث التي أفْضت إليها.
والشأن في مرويات سيف عن سلوك الإمام علي إزاء خصومه وإزاء ممتلكاتهم بعد هزيمتهم في موقعة الجمل بالبصرة، كالشأن في مروياته عن بيعة الإمام علي الى حد ما. أورد سيف في هذا الشأن سبع روايات15، تختلف فيما بينها في التفاصيل، لكنها لا تتناقَض بقدر تناقُض مروياته في شأن البيعة.
لقد كان المبدأ العام لدى الإمام أن لا يُقتل مدبرٌ ولا يذفَّفَ على جريح، ولا يُكشَف سترٌ، ولا يُؤخَذَ مالٌ. وقد اكتفى بحسب هذه الرواية ورواية أخرى بتقسيم ما وجده في بيت مال البصرة على جنده فنال كلاً منهم خمسمائة درهم.
بيد أن هناك رواية أخرى تذكر أنه أخذ منهم أيضاً السلاح الذي أجلبوا به عليه، يعني الذي كان موجوداً في أرض المعركة فحسب، وليس ما تركوه في بيوتهم، وهناك رواية عن سيف أن بعض أصحابه أراد منه الموافقة على سبي النساء أيضاً وليس مصادرة الأموال فحسب" مما يُشعر بمصادرة الممتلكات الخاصة أيضاً.
أما الطبري فيذكر في "التاريخ" وفي كتابه الآخر: "اختلاف الفقهاء" أن الإمام علياً ما أخذ إلا ما كان في بيت المال ولا شيء غير ذلك16.
كما يذكر أن سلوك الإمام علي مع الذين قاتلوه في البصرة صار سنّة متّبعة لدى الفقهاء في التعامل مع المعارضين الثائرين: عدم مصادرة أي شيء من الممتلكات الخاصة، وعدم السجن أو الملاحقة. وإنما الخلاف في السلاح الذي قاتلوا به" فالزيدية وأبو حنيفة يرون مصادرته، بينما لا يرى الفقهاء الآخرون ذلك ما داموا قد استسلموا ووضعوا السلاح17.
* كاتب لبناني.
هوامش:
1 قارن على سبيل المثال: الفهرست لابن النديم، تحقيق رضا تجدد، نشرة بيروت، من دون تاريخ، ص 105 - 125، وعبدالعزيز الدوري: بحثٌ في نشأة علم التاريخ عند العرب، بيروت 1960، ص 34 - 48.
2 كان المرجع الأساسي الذي أحدث نقلة في هذا المجال، كتاب فؤاد سزكين: Fuat Sezgin, Geschichte des Arabischen Schrifttums, Bd.I, 54-145, 238-320. وقارن بناصر الدين الأسد: مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، دار المعارف بمصر، الطبعة الثالثة 1996، ص 134 - 283.
3 الدوري: علم التاريخ عند العرب، مرجع سابق، ص 41 - 292 - 311.
4 الدوري، مرجع سابق، ص 38 - 39، 270 - 291.
5 ابن النديم: الفهرست. ص 105 - 106.
6 ابن النديم: الفهرست، ص 105. وفي الفهرست: كتاب حديث ياحيمرا ومقتل ابن الأشعث، وهو تحريف.
7 كتاب الردة والفتوح وكتاب الجمل ومسير عائشة وعلي. تحقيق وتقديم الدكتور قاسم السامرائي، نشرة المحقق، Leiden، 1995. المقدمة، ص 7 - 11.
8 الفهرست، ص 106. وقارن بالدوري، المرجع السابق، ص 37، ومقدمة السامرائي على نشرته، ص 29 - 31.
9 قارن عن الآراء فيه قديماً وحديثاً: الدوري، المرجع السابق، ص 37، ومقدمة قاسم السامرائي على الردة والفتوح وكتاب الجمل، ص 23-29، وعدنان محمد ملحم: المؤرخون العرب والفتنة الكبرى، دار الطليعة 1998، ص 71 - 77.
10 الردة والفتوح، المصدر السابق، ص 63 - 192.
11 اعتمدتُ في الإحصاء على حواشي الدكتور السامرائي في نشرته. وكان أحمد راتب عرموش قد جمع ما نقله الطبري عن سيف بن عمر في: الفتنة ووقعة الجمل. دار النفائس، بيروت، 1972.
12 ذكر سيف بن عمر إسلام عبدالله بن سبأ أيام عثمان ص 55. ثم ذكر سعيه في الفتنة في أخبار متصلة ص 102، وص 115 وما بعد.
13 قارن عنهم مقدمة قاسم السامرائي، ص 27 - 29.
14 الردة والفتوح، المصدر السابق، ص 232 - 239.
15 الردة والفتوح، المصدر السابق، ص 356 - 363.
16 تاريخ الطبري، نشرة محمد أبو الفضل ابراهيم، م 4، ص 541 - والرواية عن سيف بن عمر. وقارن باختلاف الفقهاء له قطعة من كتاب الجهاد، نشرة شاخت، ص 178.
17 أنظر عن ذلك دراستي: محمد النفس الزكية، دعوته وكتابه في السِيَر" في كتابي: الجماعة والمجتمع والدولة، بيروت 1997، ص 198 - 204.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.